لا شك أن فوز الكاتبة الجزائرية "أحلام مستغانمي" بجائزة نجيب محفوظ للأدب الروائي من قسم النشر في الجامعة الاميركية في القاهرة لسنة 1998، يعد حدثاً ثقافياً مهماً، وربما يبعث على الفخر والاعتزاز من المنظور الوطني، وهذا أمر طبيعي لأننا في حاجة إلى سماع أخبار عن الجزائر خارج إطار أعمال العنف والاقتتال، أخبار تجسدها نصوص إبداعية تعبر عن أبعاد الأزمة وخلفياتها التاريخية والاجتماعية والثقافية. غير أن هذا الفوز يطرح من جديد إشكالية تتمثل في العلاقات بين الوطن كأحداث يمكن أن تجسد من خلال نصوص أدبية، وبين المثقف الواعي الذي يحاول أن يطلق آهاته ومخاوفه وآلامه وحتى أفراحه من خلال تلك النصوص، لكن الإشكالية هذه تتضارب مع نظرة المثقف للوطن، خصوصاً إذا كان لا يتمتع داخل الوطن بالقيمة نفسها التي يتمتع بها في الخارج. وفي هذا الإطار يمكن الحديث عن الأديبة أحلام مستغانمي. لقد اعتبرتها لجنة التحكيم: "كاتبة حطمت المنفى اللغوي الذي دفع الاستعمار الفرنسي إليه مثقفي الجزائر، وأنها تكتب بحس فني مرهف ولغة عربية جزلة وهي تتمتع بإقتدار تشكيلي جمالي فريد، فقد جمعت في روايتها "ذاكرة الجسد" بين منجز الرواية العالمية وطرائق الحكي المحلية الموروثة. وهي علت على الذكورة والأنوثة الدارجتين فصاغت أفقاً إنسانياً واسعاً". وهذا التقييم لا غبار عليه، أولاً، أنه يقدم من لجنة علمية - محايدة. وثانياً، لأنه يتكلم عن نص موجود بين أيدي الأعضاء. وثالثاً، لأن الكتابة بالعربية من طرف الجزائريين تبدو لبعض المثقفين العرب إنجازاً حضارياً يمدحون عليه، وذلك لا غرو فيه، خصوصاً أن مسألة التقييم التي منحت بسببها الجائزة كانت من البداية تزكي عمل الأديبة "أحلام" من منظور تحطيم المنفى اللغوي الذي دفع إليه الاستعمار الفرنسي مثقفي الجزائر، مع أن الكاتبة تخرجت في كلية الآداب العام 1973، وهي السنة نفسها التي أصدرت فيها ديوانها الشعري "على مرفأ الأيام"، أي أنها تمثل مقاومة دولة لاستعادة عروبتها، وليس اجتهاداً شخصياً كما هو الحال بالنسبة الى بعض الكُتاب الجزائريين الذين يكتبون بالفرنسية، لكونها اللغة التي تعلموها وبعدما كبروا رفضوا هذا المنفى اللغوي بعزم وصبر ومكابدة. وإذا كانت اللجنة منحت أحلام مستغانمي "جائزة نجيب محفوظ للأدب الروائي"، من منطلق التعامل مع رواية "ذاكرة الجسد"، على أنها نص مفعم بالحيوية ويجسد في أبعاده مرحلة من تاريخ الجزائر، فهذا أمر مقبول، لكن الخوف أن يكون التقييم على اعتبار أنها كما جاء في حكم اللجنة "أول عمل روائي نسائي باللغة العربية في الجزائر" فهذا مرفوض، ولا يوجد أدنى مبرر لقبوله، سواء أكانت اللجنة على علم بذلك أم على غير علم به. ولنا أن نتساءل ببراءة: "هل حاولت اللجنة معرفة إن كانت رواية أحلام مستغانمي هي أول عمل روائي باللغة العربية في الجزائر؟". لا شك أن لا علم لها، ربما لأن الأمر لا يهمها، وربما لأمر أخطر هو أن اللجنة ارتكزت على ما هو مكتوب على ظهر غلاف رواية "ذاكرة الجسد" من أنها أول عمل روائي نسائي باللغة العربية في الجزائر، وهذا غير صحيح، ويجافي الحقيقة، ويجعل من محاولة تجاوز الآخرين داخل الجزائر يبدو كأنه أمر مقصود. إن أول عمل روائي نسائي صدر في الجزائر كان منذ عشرين سنة خلت، وبالضبط في 1978، أي قبل أن تنشر أحلام مستغانمي روايتها بخمس عشرة سنة، وقبل أن تحصل على جائزة نجيب محفوظ بعشرين سنة، وهو ذلك العمل الأدبي القيم للأديبة الجزائرية المعروفة زهور ونيسي تحت عنوان "يوميات مدرسة حرة"، ولا أدري لماذا تتجاهل الأديبة أحلام هذا العمل، مع أنه لا ينقص من قيمتها، إلا إذا كان الهدف هو الترويج لفكرة الأسبقية، وهذا لا يفيد المبدع في شيء، لأن كثيراً من الأدباء الأوائل تجاوزهم من جاءوا بعدهم بمراحل. وهذا لا ينقص بالطبع من أهمية عمل الأوائل ولا من أتى بعدهم. إذاً فالمسألة تتعلق في نظري بأمرين: الأول: أن الترويج لهذه الفكرة يعبر عن حالة نفسية خاصة لدى الكاتبة، أو لدى من أشار اليها بذلك، على اعتبار أن الترويج لعمل أدبي في المشرق يؤثر بالضرورة على الساحة الأدبية في الوطن العربي كله. والثاني: أن الشهرة يمكن أن تكون من عمل غارق في المحلية، لكن إذا أتيحت له فرصة الظهور أكثر من غيره، سيحقق شهرة أوسع، والأمران لا علاقة لهما بالعملية الإبداعية، وما كان لينقصان من القيمة الأدبية والإبداعية لرواية "ذاكرة الجسد" باعتبارها نصاً أدبياً يحمل جماليات وتقنيات وتوظيفاً للأحداث، وأيضاً توظيفاً للرؤى والأفكار التي قد اختلفُ معها ليس من منظور عدم جودتها، ولكن لرؤية أخرى مخالفة مبعثها موقفي الايديولوجي، الذي يحركني، وتلك منتهى الموضوعية، لأن الموضوعية هي إعلان للذاتية، مثلما حركها هي - أي الكاتبة - موقفها من الوطن ومن أهله داخل النص، وهذا أمر عادي بل مطلوب. أكرر أن سعادة كل المشتغلين بالعمل الفكري والأدبي والذين يحملون هموم هذه الأمة تزيد كلما ظهر عمل جديد في الساحة الفكرية والأدبية، وبغض النظر عن تعدد الرؤى والمواقف فإن الذي يحكم تعاملنا هو جودة النص، والاستقبال الذي قوبلت به رواية "ذاكرة الجسد" من النقاد والقراء يعطي دلالة على المستوى الذي وصلت إليه كتابة الجزائريين. لكن يبقى هناك سؤال من الضروري طرحه، وهو: ما مدى تأثر الجزائريين بجودة نصوص الكتاب الجزائريين في الداخل والخارج؟ وطبيعي أن الإجابة تقدمها أحلام في نسيانها أو محاولة تناسيها لعمل زهور ونيسي، مثلما تقدمها الذاكرة الشعبية كل يوم، في نسيانها أو محاولة تجاهلها لأعمال نشرت في الجزائر ونجحت. فما بالك بتلك الأعمال التي لا يربطها بالجزائر إلا الاسم وهو ما لا يمكن رفضه، لأن الانتماء الى الوطن حق مكتسب، خصوصاً عندما يصبح الوطن في ازمته دافعاً لنجاح أبنائه وغير ابنائه من خلال حرفة الكتابة، والأمثلة كثيرة وربما أكثرها وضوحاً نجاح رواية أحلام بعد 1996، مع أنها صدرت قبل ذلك بثلاث سنوات. * كاتبة جزائرية مقيمة في مصر