النوستالجيا الى الماضي وسحره هي التي دفعتني الآن الى محاولة الوقوف على جلال وجمال هذه المنطقة الجنوبية من فرنسا. فمونبيلييه المستلقية بين دلتا الرون وجبال البيرينيه الشاهقة، في اعمق اغوار سهل اللانغدوك Languedoc، برومانسيتها الميلودية التي يرقى تأريخها الى الف وخمسمئة عام، تجمع بين سحر الماضي وأناقة الحاضر التي كثيراً ما تبدو فاقدة النكهة. لكن جلّ هذه الفتنة التأريخية يستمد روعته من الموقع الحميم للمناطق المحيطة بها، بطبيعتها الجغرافية والمناخية المعتدلة التي يُعزى اليها ازدهار الفن في فرنسا. وتمتد الشواطئ الرملية لمنطقة اللانغدوك بكبرياء على طول اقصى الجنوب الفرنسي حتى مقاطعة روسيون قطالونيا الفرنسية التي تم اقتطاعها من اسبانيا في القرن السابع عشر. وعلى طول تلك الطرق كان غناء الشعراء التروبادور يرجّع صدى تجوالاتهم المغامرة في أوروبا في القرون الوسطى. وكانت تلك الأشعار المتغيرة القافية شديدة الشبه في تقنيتها الشكلية بالموشحات العربية التي ظهرت في العالم العربي في القرن التاسع الميلادي، وسُمعت للمرة الأولى في بلاد الأندلس في الفترة نفسها. وتراءى لي ان هذه الترجيعات الشعرية الهامسة البعيدة تمهد لي السبيل الى عالم مذهل في تعدد طرزه التي استقبلتني منذ البدء في هذه المدينة القُلّب، عندما وجدتني شبه محاطة بألوان شتى من المواشير المتلألئة والأطواق العجيبة التي تعبر عن غموض فن العمارة الحديث المدهش. هذه الواجهة المتعددة الألوان من التشكيلات الحديثة بدت لي بمثابة مدخل الى عالم غريب اكتسحني مع هواء البحر المتوسط النفّاذ. وبدا كل شيء يفتقر الى النظام والإلفة، لكنه مع ذلك كان حميماً ويورث المسرّة. فهذه المدينة ذات التأريخ الأكاديمي تحمل رسالة حية من القرون الوسطى تجمع بين سحر الماضي وتشظيات المباهج ما بعد الحداثية. ولربما افتقرت مونبيلييه الى ماض عريق في كلاسيته وحتى الى انطباعات رومانية او ما قبل رومانية، لكنها اسست نفسها منذ القرن العاشر كمركز تجاري غني وحيوي حيث كانت واردات التوابل من الشرق تُفعم المنطقة بنكهتها الحرّيفة وتُسيل لعاب الموسرين وتجتذب رحّالة القرون الوسطى من شتى الأقطار. وأصبحت الآن علاقتي الغريبة بهذه المدينة الصغيرة التي لا تستقر على حال تزداد حميمية على نحو غير مألوف مع طراوة الهواء الرطب الذي يهب من البحر القريب. ووجدتني مشدودة الى القلب النابض لفوضى حطامٍ أنيق لأحداث ماضية ومعاصرة. وعلى الصعيد المعماري، تتقاطع جميع المسالك الداخلة الى مونبيلييه والخارجة منها، بصورة هارمونية، بهذا الشكل او ذاك، في Place de la Comedie. وفي هذا المكان بالذات تقع نافورة ربات الجمال الثلاث The Three Graces التي يرجع تأريخها الى القرن الثامن عشر، بصورة تكاد تبدو متوارية عن الأنظار، لكنها مع ذلك تتناغم بفتنة مع الاجواء المتعددة الحضارات التي لا تزال آثارها باقية في هذه الساحة. تينك الجاريات الميثولوجيات الفاتنات، اغلايا Aglaia، ويوفروسين Euphrosyn، وثاليا Thalia، كُنّ، على ما يعتقد، يرمزن لأشعة الشمس التي تورث الحياة للمملكة النباتية وتنضج الفاكهة. وبوسعك ان تتخيل هاتيك الجاريات الراقصات الثلاث يخطرن بخطوات رشيقة خارجات من نافورتهن ويثبن بحذر صوب الصفوف الظليلة لأشجار الدُلْب الزاهية التي تسيّج على نحو أخاذ الجناح المقابل لهذه الساحة الفسيحة البيضوية الشكل. وبدأت الاحظ كيف ان الانارة الخافتة لمبنى المسرح المطل على هذه الساحة، الذي يرجع تأريخه الى القرن التاسع عشر، تذوب في نسيم المساء. وإذا كان الشيء البعيد يبدو - احياناً - اكثر شاعرية من القريب، فكذلك كان لعتمة الليل دورٌ في اضفاء هالة من السحر والغموض على هذه الكتلة الضخمة من البناء التي تفتقر الى الذوق في وضح النهار، حيث ينبعث منها الآن مزيج مذهل من الأضواء الخافتة والاصوات البعيدة. وإذْ استبدّ بي احساس غامض بالبهجة وجدتني مرة اخرى انقّب في طبقات التأريخ عندما دخلت مجمع السوق المدني لأنتيغون حيث ترك فن العمارة ما بعد الحداثي الخيالي بصماته. وشكلت مجموعة متنوعة من البنايات ذات الطراز النيوكلاسيكي قامات مقوّسة، لها سقوف مستدقة الأطراف. وبدت تصاميم من انصاف دوائر يميل بعضها الى البعض الآخر باستقتال. وأحسست بالعزلة والهجران عندما قادتني قدماي بصمت صوب التشكيلات الهندسية الدقيقة من الفضاء والنور الذي أُتيح له ان يشق طريقه بين قامات هذه البنايات المنحنية. وبدأت الكتل المعمارية المرتبكة كأنها تخوض غمار حوار حميمي طويل. ثم يممت وجهي شطر ركن آخر من المدينة، فهب عليّ نسيم بليل أليف ظلّ يرافقني الى ان ألفيتني في بيئة اخرى مختلفة تماماً. حتى اذا تلمست طريقي في متاهة من الأزقة الضيقة المتعرجة، ظهرت امامي شوارع المدينة القديمة. وبعد ان وجدتني اسير احياناً تحت اطواق متواضعة، أفضى بي الطريق الى منظر تكشّف عن أشياء صارخة في تباينها، أضفت تلاوين اخرى على جو المنطقة. كانت الآن أمامي روائع من فن العمارة في عصر النهضة الأوروبية بدا وجودها غريباً على نحو أخاذ في منازل المدينة التي ترقى الى القرن السابع عشر تم تصميمها بمزيد من التناغم حول باحات داخلية خفية. وتزين بقايا درابزونات والأعمدة والفسحات التي تتخللها واجهات العديد من هذه المنازل، فتضفي مزيداً من السحر القروسطي على كثير من الشوارع. واشرأبّت الاطواق الغوطية المدببة من الاعمدة عند مداخل القصور التي ترقى الى القرن الثالث عشر، فأفعمت المنطقة بطابعها غير المبهرج. وهنا وهناك تتراءى للعيان من خلال هذا النسيج العنكبوتي المعقد الذي لا نهاية له ساحات صغيرة مكشوفة تم تصميمها لتلبي شتى الأذواق العصرية مذكّرة إيانا مرة اخرى بتناقضات هذه المدينة الصغيرة العجيبة الجذابة. بصعوبة حاولت ان أتهرّب لهنيهة من الاجواء الروحية الساحرة الجليلة التي غمرني بها هذا المكان، بحثاً عن نكهة اكثر علمية قيل انها اضفت مزيداً من البهاء النابض بالحياة على المنطقة. ورحت احث الخطو الآن بمحاذاة بنايات المعهد الطبي الشهير الذي يرجع تأريخه الى القرن الثاني عشر وكان نواة جامعة مونبيلييه الحالية. عند ذاك، وفي تلك اللحظة، عادت بي افكاري الى اجيال الاطباء الذين عاشوا في هذه المدينة. هل كانت العلاجات الطبية بالأعشاب والنباتات هي التي اجتذبت العلماء من جميع انحاء اوروبا بمن فيهم رابليه، الطبيب والكاتب الساخر الكبير الفرنسي، الذي تلقّى دروساً هنا في القرن السادس عشر؟ في البحث عن جواب افعمتني رائحة غريبة من اجناس نباتات شرقية وغربية عندما اقتربت من الحدائق النباتية التي يرجع تأريخها الى القرن الرابع عشر. وإذْ أتاحت لي مخيلتي ان أتأرجح بين الأغصان الفضية المتلألئة لشجيرات الفستق ونحافة جذوع اشجار النخيل الصينية النحيلة الفارعة، هبّ عليّ شذى فاغم من شجر المغنوليا قطع عليّ افكاري واجتذبها الى بتلات زهورها التي تبدو كأنها لا تستقر على حال. لكن تغريداً خافتاً لطائر اجتذبني الى تلؤلؤ البرك التي كانت زنابق ماء شاحبة ترتوي من مائها بصحبة اغصان مدلاّة من صفصافات باكية. حتى اذا اجتاحني ذلك الشعور بالنوستالجيا القلقة، وجدتني اسرع الخطى صوب بقعة كثيفة من الاشجار كنت اتطلع اليها من بعيد. وإذ اغرتني تناقضات هذه المدينة مرة اخرى، وقفت الآن وحيدة في هذه الحدائق وقد غمرني احساس بالألفة بحثاً عن معنى لهوية كل منا. وشعرت بحميمية مع هذه البيئة حيث تمازجت غير لغة وتصارعت امزجة متضاربة، طارحة سؤالاً لا ينقطع عن المجهول. ثم جعلني احساس طارئ من اللارضا أحث خطوي صوب اشعة شمس وهاجة كانت الآن تتسلل من بين الاشجار، تلقي ضوءاً قوياً على تمثال يتوارى بارتياح خلف اغصان مطرزة بألوان شتى من الزهور. ثم ان النظرة الساخرة في عيني رابليه التي تتطلع الآن الى منجزات الماضي، أتاحت لي ان اتفحص بعناية تجاعيد التعبير العميقة التي حفرتها السنون في وجهه. وقفت بين النباتات والاشجار التي قاومت الزمن وتآلفت في ما بينها، فتملكتني القناعة بأن ضبابية الاشياء في هذه المدينة الصغيرة اكسبتها مغزى عميقاً. وتركتُ المتنزه بشعور من الرضا وأنا أتابع اشعة الضوء التي شقت طريقها بين هذه السمفونية من الألوان والاصوات. ولكن دفق هذه الايقاعات المفعمة بالحياة شدني في آخر المطاف الى قلب المدينة، فتركت مخيلتي تشطح ثانية عندما تناهت اليّ اوركسترا الجاريات الثلاث وهنّ ينسجن لحناً هارمونياً شجياً.