حلل مقال اول من امس مواقف المثقفين العرب من التطبيع. البعض منهم يرفض التطبيع والسلام بالمطلق والبعض الآخر شعبوي يقول لجمهوره ما يود ان يسمعه منه، وهناك من ينادي بالتطبيع المبكر من اجل كسب الرأي العام الاسرائيلي للسلام. اما اغلبية المثقفين فتحبذ تأجيل التطبيع الى ما بعد السلام وقيام الدولة الفلسطينية كوسيلة ضغط على الحكومة الاسرائيلية. سنة 1958 عرض الجنرال ديغول على "العُصاة" الجزائريين كما كانت الادارة الاستعمارية تسمّيهم "سلام الشجعان" الذي تُوّج في 1962 باستقلال الجزائر "في اطار التعاون مع فرنسا". بعد 41 عاماً يعرض ديغول الاسرائيلي كما يسمي بعض وسائل الاعلام ايهود باراك، السلام نفسه على "المخرّبين" الفلسطينيين. فماذا يعني هذا المصطلح؟ "سلام الشجعان، يقول معجم روبير، هو سلام مشرّف للمهزومين الذين حاربوا بشجاعة"، ويقابله حسب نفس المعجم "سلام الاذعان" Diktat المفروض كمعاهدة فرساي 1919 التي اعتبرها الالمان مفروضة عليهم" والتي أجّجت مشاعر الثأر في المانيا وشكلت ارضية خصبة لنمو الحركة النازية. في سلام الشجعان يتحكم المنتصر في انتصاره فيحفظ للمهزوم الاساسي من حقوقه التي استبسل في الدفاع عنها. اما في سلام الاذعان فيملي المنتصر ارادته على المهزوم. فهل سيفي باراك بوعده؟ ذلك يتوقف على مسألتين حساستين: حجم الاراضي التي ستُعاد للفلسطينيين وكيفية اعادتها هل بطريقة كريمة ام بطريقة لئيمة. الطريقة الكريمة تعني جبر الاضرار المادية والنفسية التي الحقها قيام الدولة بالفلسطينيين والتي تشهد عليها الارشيفات الاسرائيلية كما نشرها المؤرخون الاسرائيليون الجدد، اما الطريقة اللئيمة فتتمثل، على طريقة بنيامين نتانياهو وارييل شارون، في اذلال الفلسطينيين شعباً وحكومة وتجريعهم كأس الهزيمة حتى الثمالة وحتى آخر يوم من الاحتلال وتسليمهم المستوطنات خراباً كما حصل مع مصر وكان، بين اسباب اخرى اهمها خيبة الآمال التي احياها السلام في نفوس المصريين، سبباً في تبريد السلام المصري - الاسرائيلي، الذي كان في البداية دافئاً الى درجة ان عشرات الالوف من المصريين كانوا يستقبلون عفوياً مناحيم بيغن بالاعلام الاسرائيلية التي صنعوها بأنفسهم. اما مع سورية وفلسطين فلن يكون بارداً وحسب بل وايضاً ميتاً. سلام اذعان كالذي فرض على المانيا في 1919 سيكون تكراراً غبياً لنفس الخطأ ويحمل الماء الى طاحونة الاصولية الاسلامية الوريثة الشرعية للشعارات النازية. سلام الشجعان يعني ايجاد حل تفاوضي مشرّف للقضايا العالقة كالاستيطان والقدس واللاجئين والحدود وتقاسم المياه… مرجعية سلام الشجعان اما ان تكون الشرعية الدولية او لا تكون. وليس من سلام الشجعان ان يتحدث باراك عن "التنازلات المؤلمة" ذات الوقع المؤلم على الاذن الفلسطينية والعربية لان معنى ذلك ان اسرائيل تتنازل عن حق شرعي لها، والحال ان قرارات الشرعية الدولية تطالبها بالتخلي عن اراض محتلة في 1967 والاحتلال ليس مصدراً للشرعية. وليس من سلام الشجعان مطالبة واشنطن بتقليص دورها في المفاوضات فذلك يعني رفع حمايتها عن الفلسطينيين للانفراد بهم ولاملاء شروط سلام الاذعان عليهم، وليس من سلام الشجعان تحويل "الضمانات الامنية" المعقولة الى هوس امني بارانوي ليس له ما يبرره موضوعياً. اذ بعد هرهرة الكتلة الشرقية وتوطيد الشراكة الاستراتيجية الاميركية - الاسرائيلية وقيام التعاون العسكري الاسرائيلي - التركي وانفراد اسرائيل بامتلاك السلاح النووي يصعب فهم الهوس بالضمانات الامنية. هذا الاستثمار المفرط للطاقة الاسرائيلية الوجدانية في الامن لا تتناسب مع المخاطر الامنية المتوقعة عقلانية. ولا يعدو ان يكون - إن لم يكن مناورة لتقطيع اوصال الارض الفلسطينية - تعبيراً عن عقدة اضطهاد كلما قدم لها الفلسطينيون الضمانات قالت هل من مزيد. ويزداد الطابع العبثي لمثل هذه الضمانات عندما نعلم انه لم تعد توجد حدود آمنة امام الصواريخ ولا امام الارهاب الذي بامكانه تهريب اسلحة دمار شامل تحمل في الجيب لتبيد سكان مدن بكاملها. قد يرتكب باراك بإلحاحه على هذه الضمانات غلطة الشاطر بزرع المزيد من مشاعر الاحباط والدونية في نفوس الفلسطينيين بدلاً من تضميد جراحهم، والحال ان مواساة نفوسهم الكسيرة هي الضمانة الامنية الحقيقية في المستقبل. وليس من سلام الشجعان الابقاء على المستوطنات التي زُرعت لمنع قيام الدولة الفلسطينية بافقادها التواصل الجغرافي. فاية دولة في العالم قائمة مع مستوطنات لا سيادة لها عليها يستوطنها فضلاً عن ذلك متطرفون، عنصريون غير مؤهلين ايديولوجياً للتعايش السلمي مع دولة فلسطينية؟ لقد غدت المستوطنات ربما أكثر من سواها مأزقاً حقيقياً في وجه السلام. وهكذا فالخيار امام اسرائيل: اما التضحية بالمستوطنات واما التضحية بالسلام. سلّمت حكومة ليكود بإزالة المستوطنات من الاراضي المصرية المحتلة وستقبل حكومة باراك بإزالتها من الجولان السوري فبأية شرعية، غير شرعية الاقوى، يُراد الابقاء عليها في الاراضي الفلسطينيةالمحتلة؟ معاملة الفلسطينيين بأقل مما عومل به المصريون ومما سيعامل به السوريون تندرج في سلام الاذعان لا في سلام الشجعان. كما ليس من منطق سلام الشجعان ان تتفاوض دولة اسرائيل مع نفسها في موضوع اللاجئين رافضة عودة اي منهم على رغم ان بيل كلينتون نفسه اعترف بما اقرته لهم الشرعية الدولية: العودة او التعويض. بالتأكيد اخطأ العرب - وهم سادة الاخطاء - في مؤتمر جنيف 1949 عندما رفضوا اقتراح دافيد بن غوريون عودة مئة الف لاجئ الى اسرائيل. لماذا لا تعيد حكومة باراك تبني هذا الاقتراح مع الاخذ في الحسبان معدلات النمو الديموغرافي؟ لكن الواقعية - وهذا تنازل فلسطيني مؤلم - تتطلب من الفلسطينيين الاعتراف بأن اسرائيل لا يمكن عملياً ان تستوعب جميع اللاجئين ولا حتى نصفهم لأن ذلك سيحدث زلزالاً ديموغرافياً يطيح جميع التوازنات فيها. من المتوقع ان تفضل اغلبية اللاجئين التعويضات المغرية - اذا كانت مغرية - على العودة خصوصاً لدى الشباب فروح العولمة أضعفت لدى الشباب المعاصر العلاقة بالارض والوطن، توطينهم في لبنان سيدخل إخلالاً فادحاً بالتوازن الطائفي لغير مصلحة المسيحيين الذين يستنزفهم التهجير والهجرة والضمور الديموغرافي. لكن توجد امكانية حل عقلاني لمأساة اللاجئين في البلدان النفطية التي تقول انها في حاجة الى مزيد من السكان مثل ليبيا والعراق وبعض بلدان الخليج فضلاً عن الهجرة الى استراليا او اميركا التي يحلم بها الشباب الفلسطيني المتشبع بثقافة الهجرة التي رعتها العولمة لانها باتت المصدر الاساسي للحركية الاجتماعية في بلدان الجنوب المصابة بالانفجار السكاني. ممارسة الدولة العبرية لنقدها الذاتي بصدد مأساة اللاجئين بتبنيها لخلاصات المؤرخين الجدد تسهّل سيكولوجياً التفكير في الحلول البديلة للعودة، فلا شيء ادعى للغفران من الاعتراف بالذنب. وافضل نقد ذاتي باطلاق هو تعديل قانون العودة الذي يشجع نظرياً على الاقل عودة جميع يهود العالم الى اسرائيل الذين هاجروا منها منذ 2000 او 2800 سنة فيما يحرم اللاجئين الذين طُردوا منها منذ نصف قرن من العودة! الابقاء على هذا القانون التمييزي تعزيز لاسطورة شعب الله المختار المركزية الاثنية التي لعبت بين عوامل اخرى دوراً في كراهية اليهود. وليس من منطق سلام الشجعان الاعتراف بدولة فلسطينية غير قابلة للحياة جغرافياً واقتصادياً. ولن تكون كذلك الا اذا سيطرت على 97 في المئة على الاقل من ارضها، وهذا تنازل آخر مؤلم حقاً تقدمه فلسطين الى اسرائيل. وليس من منطق سلام الشجعان القول ان القدس الموحدة خارج التفاوض، والحال ان اتفاق ابو مازن - بيلين الذي رفضته اسرائيل يقدم حلاً سياسياً واقعياً بدلاً من الحل الديني القاضي باعطاء الاردن السيادة الدينية على الاماكن المقدسة. وليس من منطق سلام الشجعان توزيع المياه الفلسطينية توزيعاً تمييزياً بين الاسرائيليين والفلسطينيين فهذا يجعل اسرائيل اقرب الى المرحومة جنوب افريقيا العنصرية منها الى الدول الديموقراطية. اسرائيل دولة مؤسسات، وسلطة القرار فيها ما زالت بيد السلطة التشريعية ولم تنتقل الى السلطة التنفيذية كما في الديموقراطيات الغربية، لذلك لم يرفض العرب والعالم نتانياهو لشخصه بل لما يمثّله، اي الصهيونية الارثوذكسية التي لا ترضى بأقل من اسرائيل الكبرى. ورحب الجميع بباراك لانه كسلفيه بن غوريون ورابين يمثل الصهيونية العلمانية التي تكتفي باسرائيل في حدود 4 حزيران يونيو 1967. هذا ما أحيا الآمال في وسائل الاعلام العالمية وكل تخييب لهذه الآمال سيكون في غير مصلحة اسرائيل التي لن يخرجها من العزلة الدولية التي ادخلها فيها نتانياهو الا التقدم الحقيقي نحو السلام. فما الذي يمكن ان يخيّب الآمال التي احياها انتخاب باراك؟ مساومات البازار الشرقي المملة والمذلّة، المفاوضات الماراثونية التي تُقطع كل اسبوع لاعطاء الصقور ترضية وهمية، المناورات السياسوية … كل ذلك يقتل الحماسة الى السلام القادم فيولد ميتاً، إن لم يجهضه. من سلام الشجعان اخيراً لا آخراً الاعتراف بآلام الشعب الفلسطيني على يد الشعب اليهودي الذي لم يتألم شعب اكثر منه في التاريخ، وتعويض هذه الآلام مادياً ورمزياً. فبقدر عمق التنازلات المادية والرمزية للفلسطينيين سيكون عمق اعتراف العرب باسرائيل واستبطانهم لوجودها كفرصة لهم لا كخطر عليهم كما كان الامر حتى الآن. هذه هي الضمانات الامنية الحقيقية التي تحتاجها اسرائيل لتكون حقاً آمنة ومأمونة. * كاتب تونسي.