استهل بنيامين نتانياهو ألغامه بتحدي الإرادة الأميركية والمطالبات الدولية والعربية الخاصة بالتجميد التام والشامل للأنشطة الاستيطانية داخل الأراضي الفلسطينيةالمحتلة. فخلال محادثاته مع مسؤولين أوروبيين إضافة إلى المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط جورج ميتشل، خلال جولته الأوروبية التي زار خلالها كلاً من بريطانيا وألمانيا قبل نهاية آب (أغسطس) الماضي، تمكن نتانياهو من تفريغ المطلب الدولي الخاص بالوقف الكلي للاستيطان من مضمونه، كما نجح في استجداء التفهم الغربى لشروطه التي عرضها من أجل استئناف المفاوضات. وبعدها بأيام قليلة وإبان جلسة لمجلس الوزراء الإسرائيلي، أكد نتانياهو أن حكومته لا تعتزم تفكيك أو إخلاء أي من المستوطنات القائمة في الضفة الغربيةالمحتلة، وأن الانسحاب من المستوطنات في قطاع غزة خطأ لن يتكرر، فهو لم يجلب لإسرائيل السلام ولا الأمن بعد، إذ تحول القطاع الى قاعدة تسيطر عليها حركة «حماس» الموالية لإيران، وجدد نتانياهو رفضه المطالب الأميركية والدولية بتجميد بناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة. وفيما أكد الرئيس الفلسطيني محمود عباس تمسكه بموقفه الرافض استئناف المفاوضات ما لم توقف اسرائيل الاستيطان، لافتاً إلى أن انطلاق العملية السياسية ينبغي أن يستند إلى تنفيذ إسرائيل التزاماتها بموجب المرحلة الأولى من خطة خريطة الطريق التي تشمل أساساً وقف الاستيطان بكل أشكاله والتزام حل قضايا الوضع النهائي، أفضى عجز إدارة أوباما عن كبح جماح العناد الإسرائيلي في ما يخص الاستيطان إلى حملها على البحث عن حل وسط يسمح باستئناف عملية المفاوضات بعد أن تقدم أطراف عربية مبادرات تقاربية حيال تل أبيب مكافأة لها على وقف جزئي للاستيطان يرافقه السماح لها ببعض عمليات البناء في المستوطنات الموجودة بالفعل في إطار ما تسميه إسرائيل «النمو الطبيعي» للمستوطنات، التي خصصت قروضاً بقيمة 250 مليون دولار في مشروع موازنتها لعامي 2009 و2010 لبناء المزيد منها، وعلى رغم أن نسبة «التكاثر الطبيعي» لليهود في إسرائيل هي 1.6 في المئة، إلا أن إسرائيل تستخدمها كذريعة تبرر بها مصادرة الأراضي الفلسطينية وتوسيع المستوطنات كي تمهد السبيل لاستقبال أي هجرات إضافية من الخارج. وبإصراره على استباق التطبيع مع الدول العربية قبل استئناف مفاوضات السلام ومن دون تقيد بوقف الاستيطان كلياً ونهائياً، وضع نتانياهو لغمه الثاني في طريق التسوية. فبعد أن تمكن اللوبي اليهودي في واشنطن من إقناع إدارة أوباما بتفهم ذلك الشرط الإسرائيلي، بدأ الكونغرس يحض الدول العربية على ذلك، إذ كثف اللوبي اليهودى ضغوطه على الرئيس أوباما عبر كيل الاتهامات له داخل الكونغرس وخارجه بكونه «يحابي العرب» على حساب إسرائيل، التي ذهب بعيداً في مطالبتها بالتوقف عن بناء المستوطنات وتوسيعها، من دون تعاون من جانب القيادات العربية، التي لم تقدم له المساعدة الكافية في جهوده لتسوية القضية الفلسطينية. وحدد اللوبي اليهودي بالاسم الدولة العربية التي يجب عليها تقديم مبادرة حسن النيات وإجراءات بناء الثقة الفورية، أو ما يمكن تسميته بمبادرة «التطبيع أولاً»، وهي المملكة العربية السعودية، التي لا تربطها أي علاقات بإسرائيل فيما تتمتع بثقل عربي وإسلامي ودولي كبير يجعل لأي خطوة تقاربية منها حيال إسرائيل وقعاً خاصاً في واشنطن وتل أبيب، بما يساعد على تهيئة المناخ للقبول بمبادرة السلام العربية. وجاء ذلك ضمن استراتيجية يتبعها أنصار إسرائيل في واشنطن ممن يسعون إلى تحقيق هذه الأهداف من خلال حملة سياسية - إعلامية تعتمد على ترويج رسالة بين الرأي العام والنخبة في الولاياتالمتحدة تقول إن الكرة الآن في الملعب العربي وليس العكس، وأن على الدول العربية القيام بمسؤولياتها لتحقيق السلام من خلال الاستجابة لمطالب أوباما باتخاذ خطوات تطبيعية كإجراء لبناء الثقة. وتمخضت مساعي اللوبي اليهودي في هذا الصدد عن رسالة خطية مباشرة أرسلت في 31 تموز (يوليو) الماضي إلى خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز وذيلت بتوقيع أكثر من 200 من أعضاء الكونغرس الأميركي ينتمون الى كلا الحزبين الديموقراطي والجمهوري. وبعدها بأيام معدودة، أرسل الرئيس أوباما رسالة مماثلة إلى قيادات الدول الخليجية يحضها على وجوب اتخاذ ما سماه «خطوات وقرارات شجاعة» تتوج بمبادرات عملية للتقارب مع إسرائيل وبناء جسور الثقة التي تساعد على دفع عجلة السلام. وفي هذا الإطار أيضاً جاء الخطاب الذي وجهه 71 من أعضاء مجلس الشيوخ إلى أوباما يوم 10 آب الماضي وتبني كل مطالب إسرائيل من حيث دعوة الرئيس للضغط على العرب للتطبيع الكامل رداً على ما وصفوه بالخطوات الحاسمة التي اتخدها نتانياهو مثل الاعتراف بحل الدولتين وإزالة بعض الحواجز الأمنية. وكان هدف هذه الرسائل مجتمعة وغيرها إحداث تغيير جذري وخطير في هيكل معادلة عملية التسوية بما يضمن حصول إسرائيل على التطبيع المجاني، الذي لا يضطرها الى تقديم أي تنازلات أو التزامات في شأن تنفيذ أسس السلام وشروطه استناداً إلى الشرعية الدولية. ويبدو أن تلك المساعي الإسرائيلية بدأت تؤتي أكلها، إذ جنحت أطراف عربية للقبول بعروض التطبيع الإسرائيلية الأميركية مقابل وقف جزئي وموقت من جانب تل أبيب لبناء المستوطنات في الضفة الغربية والقدس توطئة لاستئناف مفاوضات السلام في إطار ما يسميه نتانياهو «مبادرات حسن النية من الجانب العربى». وفي مقابلة صحافية مطلع آب الماضي، أعلن ميتشل حصوله على استجابات جيدة للغاية من الدول العربية في شأن اتخاذ خطوات تقاربية مع إسرائيل. وذكرت صحيفة «نيويورك تايمز» لاحقاً أن الخطوات التي طالبت بها أميركا العرب تتراوح بين فتح مكاتب تجارية في تل أبيب والسماح لشركة «العال» الإسرائيلية باستخدام المجال الجوي للدول العربية لاختصار مسافات رحلاتها إلى آسيا، ووضع حد للحظر على المسافرين العرب بأختام إسرائيلية في جوازات سفرهم. وفي هذا السياق، ذكرت صحيفة «ذا غارديان» البريطانية أن أربع دول عربية وافقت من حيث المبدأ على تلك الخطوات التطبيعية مع إسرائيل. وهناك مفاوضات بين أميركا وإسرائيل في شأن صفقة التطبيع مقابل الوقف الجزئي والموقت للاستيطان، حيث يتردد الحديث عن وقف «موقت» للاستيطان يريده الأميركيون لمدة عام، بينما يريده الإسرائيليون لمدة ستة أشهر فقط، ويريد الإسرائيليون مقابل الموافقة على الوقف «الموقت» للاستيطان الحصول على موافقة أميركية باستكمال بناء 2500 وحدة سكنية تم التعاقد على بنائها، فضلاً عن وعد أميركي بالحصول على تطمينات باستكمال الاستيطان بعد الوقف الموقت. ما يعني أن المعادلة تحولت من التطبيع مقابل الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة إلى التطبيع مقابل الوقف الموقت للاستيطان. وتلك كارثة لأن إسرائيل إذا ما حصلت على التطبيع، فلن تكون مضطرة لإعادة الحقوق العربية المسلوبة ومن ثم ستموت تلك الحقوق وتضيع تحت وطأة دفء العلاقات التجارية بين تل أبيب والدول العربية. أما اللغم الثالث، فكان إصرار نتانياهو على رهن استئناف عملية السلام بإلزام الفلسطينيين والعرب الاعتراف بيهودية الدولة العبرية. ففي يوم 24 آب الماضي وخلال لقائه رؤساء تحرير صحف بريطانية وحديثه معهم عن رؤيته لمستقبل السلام في الشرق الأوسط، جدد نتانياهو التأكيد أن جوهر الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني هو رفض الفلسطينيين الاعتراف بإسرائيل كدولة للشعب اليهودي، مضيفاً أنه إذا لم يعترفوا بيهودية إسرائيل، فلن يكون هناك احتمال للتوصل إلى اتفاق، كما صرح مجدداً للإذاعة الإسرائيلية العامة في نهاية آب الماضي بالقول: «نريد اتفاقاً يعترف بأن إسرائيل هي دولة الشعب اليهودي وينص على ترتيبات تضمن أمننا». وكانت حكومة نتانياهو عمدت منذ فترة إلى تحويل شعار يهودية الدولة إلى واقع عملي ونهائي، ففي نهاية حزيران (يونيو) الماضي، أعلنت نيتها تسجيل 139 ألف دونم من الأراضي شمال وغرب شاطئ البحر الميت لدولة إسرائيل، ما لم يعترض أحد ويثبت حقه، وبذلك تحرم دولة فلسطين المنتظرة من مياه البحر الميت وشواطئه وثرواته المعدنية وحدوده مع الأردن، باستيلاء إسرائيل رسمياً على مساحة كبيرة من غور الأردن. وفي الثاني من آب الماضي، أصدر قاضي محكمة الرملة حكماً يقضي بتطبيق قانون أملاك الغائبين على الضفة الغربية نفسها، أي مصادرة الأرض الفلسطينية إذا اعتبرت إسرائيل مالك الأرض غائباً. وهو حكم مخالف لقرارات مجلس الأمن والرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية الصادر في تموز 2004، والذي يؤكد في شكل قاطع أن الضفة الغربية أرض محتلة ولا يجوز ضمها أو الاستيلاء عليها. وبعد ذلك بيوم واحد وفي خطوة إسرائيلية جريئة، أقر الكنيست في قراءته الثانية والثالثة مشروع بيع أراضي اللاجئين إلى أفراد وجهات يهودية فقط في أي بلد، وبذلك تنقطع العلاقة، بحسب القانون الإسرائيلي، بين صاحب الأرض الفلسطيني وأرضه. وجاء إقحام الملف النووى الإيراني كلغم رابع بعدما ربطه نتانياهو بالملف الفلسطيني، فقد تمكن أوباما خلال جولته الأوروبية الأخيرة وإبان محادثاته مع ميتشيل من اقتطاع قسط من الاهتمام المخصص لملف عملية السلام وتوجيهه إلى الملف النووى الإيراني، حيث نشرت صحيفة «ذي غارديان» البريطانية نقلاً عن مصادر إسرائيلية وفلسطينية وأوروبية أن أوباما أوشك على كسر الجمود الحاصل في عملية السلام عبر التوصل إلى اتفاق مع الجانب الإسرائيلي على تجميد جزئي للاستيطان في مقابل موقف أميركي أكثر تشدداً حيال إيران يشمل فرض عقوبات مؤلمة تطاول قطاعي النفط والغاز الحيويين. وجاء في تقرير للصحيفة أن إسرائيل لا تسعى فقط لتطبيع علاقاتها مع الدول العربية كشرط لاستئناف عملية التسوية، ولكنها تتطلع أيضاً لتعبئة موقف عربي أكثر تشدداً إزاء إيران، التي ترى حكومة نتانياهو في طموحاتها النووية تهديداً لبقاء الدولة العبرية. ومن شأن هذه العراقيل أو الألغام التي يضعها نتانياهو في طريق إعادة إنعاش عملية التسوية بما في ذلك خطة الرئيس أوباما المزمعة في هذا الخصوص، أن تحيط مستقبل تلك العملية بسياج من الغموض الممزوج بالتشاؤم، لا سيما أن نتانياهو إذا ما نجح في حمل الجانب الأميركي أو حتى المجتمع الدولي على تفهم وجهة نظره والقبول مكرهاً بشروطه الملغومة لاستئناف عملية التسوية توخياً لتحريك المياه الراكدة، فسيكون من المتعذر عليه إجبار الطرف العربي على اتخاذ موقف مماثل وإن اضطر سراً وعلى استحياء للقبول ببعض تلك الشروط. * كاتب مصري