في مطلع فيلم "آلة الزمن" اخراج جول بال - 1960 يصل جورج رود تايلور الى اجتماعه المحدد مع بعض العلماء ويبدأ بالتحدث عن الأبعاء الثلاثة المعروفة للانسان: العرض والطول والعمق، ثم يشير الى صندوق صغير احضره معه للدلالة. ثم يفاتح الجميع بأن هناك بعداً رابعاً اعتبر مستحيلاً الى اليوم لكنه استطاع تحقيقه: السفر عبر الأزمنة. يفتح الصندوق فإذا به يحتوي على "موديل" صغير لعربة في مقدمها ساعة ومحرك يدوي ومقبض، وفي آخرها اسطوانة تشبه اسطوانات او صحون "الساتالايت" هذه الأيام. في مشهد تالٍ، عندما يعود جورج الى بيته ويدخل غرفة مختبره نجد الآلة الحقيقية. يجلس فيها ويحرك أدواتها فتنطلق في سرعة زمنية ناقلة اياه الى المستقبل القريب. ثم يحركها ثانية وبسرعة أعلى فتنقله الى زمن مستقبلي أبعد. اللعبة تستهوية فيطلق العنان لآلته فتنقله من موقعه الفيكتوري الى مواقع مستقبلية بعيدة يجد فيها زوال العالم الذي نعرفه وقد انقسم البشر او من بقي منهم على الأقل الى شعبين: شعب يعيش فوق الأرض مستسلماً لما اعتاد عليه، لا قضية يرفعها ولا رغبة يعيش من اجلها، وآخر تحت - أرضي عبارة عن مشوهين وممسوخين. بين الشعبين يمضي جورج وقته محاولاً انقاذ مصير الأرض من نهاية موحشة وحتمية حسب ما خطه الروائي هربرت ج. ويلز. كل هذا واكتاب اكثر دكانة من الفيلم. الفيلم حاول تخفيف حدة التشاؤم وبث قدر من الأمل. جورج بال، الذي مات في العام 1980 كان مولعاً بمثل هذه القصص وسعى جهده لدفع هوليوود الى تحقيق نسخة جديدة لاحقاً، لكنه لم يتمكن. الى حد معين، نجد ان كل ما يحتاج اليه الواحد منا في فيلم يدور حول الانتقال عبر الأزمنة موجود في هذا الفيلم. لكن الخيال البشري، مكتوباً او مصوراً، لم يكن ليتوقف عند هذا الحد. ومن الستينات الى اليوم كثرت الرحلات التي تذهب قدماً وخلفاً وبل تتجه الى خلق عوامل موازية تنتقل اليها كانتقال القطار بين سكك الحديد. أرض بلا سماء في العروض المختلفة حول العالم نجد "ماتريكس" و"الطابق الثالث عشر" و"اكزستانس". وكنا شاهدنا قبل ذلك رحلات سابقة تنتقل في الزمن وفي المكان مخترقة الحواجز الممكنة. في بعض هذه الافلام لم تكن الحبكة سوى بدعة لتبرير غرابة الموقف، وفي اخرى كانت موحية بفكرة جيدة قادرة على ان تحتل بمرور الوقت مكانة افضل من تلك التي احتلتها حينها. احد هذه الأفلام هو "زاردوز" جون بورمان - 1973 الفيلم المنسي. وفي العام الماضي، شاهدنا "مدينة مظلمة" أليكس بروياس: خيالي/ علمي حول لغز يواجه اهل الأرض: كل يوم هناك حالة جمود فتتوقف الحياة لنحو ساعة عن الجميع باستثناء فرد واحد. هناك مخلوقات فضائية استولت على مقادير الحياة وتجبر عالماً كيغر سذرلاند على استخدام البشر كحيوانات تجارب لكي تتعلم تلك المخلوقات منها ما الذي يجعل هذا العنصر البشري مستمراً الى اليوم، بينما تلك المخلوقات تواجه أزمة الموت الجماعي. ذلك الفرد المنسي يتساءل بدوره عن تلك الظواهر ملاحظاً ان احداً من بعد ساعة من الموت الموقت لا يتذكر حين يصحو ما حدث له وان الشمس ما عادت تسطع. بل ان السماء كلها ما عاد لها وجود. اسئلته هذه يُجاب عليها في الفصل الاخير في فيلم يحمل سمات النقلة الكونية من عالم الى عالم آخر. الزمن والمكان هنا اختلفا معاً متجهين بالأحداث نحو مفاجأة بارعة مع نهاية الفيلم. وأحد الأفلام الأكثر نجاحاً في فرنسا هذه الأيام هو "مُكَعَّب". وصل متأخراً الى العروض هناك اذ شهد عرضه العالمي الأول في مهرجان برلين العام الماضي. انتاج كندي من اخراج فنسنت ناتالي حول مجموعة من الشخصيات التي تجد نفسها، في مكان ما في زمن ما، حبيسة عدد من المكعبات المتراصة ما ان تخرج من واحد حتى تدلف الى آخر. في كل منها باب مزيف يؤدي الى التهلكة اذا ما تم فتحه عن طريق الخطأ. في النهاية نكتشف انهم يعيشون على ما يشبه كوكباً كله عبارة عن مكعبات. استيحاء من الكتب الأولى "ماتريكس" لآندي ولاري ووشوفسكي يذهب الى ما يدخل في صميم السفر عبر الأبعاد. بطله توماس اندرسون كيانو ريفز لا ينتقل عبر الأزمنة الى الامام والى الوراء، بل يعيش في عالم موازٍ واحد على الأقل. اشرار من نتاج التكنولوجيا الألكترونية يقلبون العالم الذي نحن فيه الى خيال. العالم الحقيقي، يقول "الارهابي" مورفيوس لورنس فيشبورن لبطل الفيلم هو ذلك الذي يحاول لأسرار دخوله بلا جدوى لأنه الحصن الأخير للمحظوظين القلة من العالم. اندرسون يجد نفسه الزعيم المنتظر، نيو جديد ليقود الرحلة الى العالم الأفضل صهيون الذي هو، حسب كتاب العهد القديم، الأرض الموعودة للخيّرين من الناس الذين سيتم انقاذهم من الدمار الذي سيعم هذه الدنيا. ستجد الكثير من الايحاءات الدينية في هذا الفيلم. الفكرة بل ان معظم شخصياته مستوحى من الانجيل او التوراة ومغلف بتقنيات الكومبيوتر - غرافيكس التي تسهم في معالجة تلك الفكرة على نحو مبتكر. أسلوب الأخوين ووشوفسكي ليس سينمائياً فنياً، بل تقنياً نافذاً. والفيلم يبقينا على حيرة من حين لآخر حول اين هو موضع بطله؟ أهو في هذا العالم او ذاك! او ربما رحل الى عالم ثالث عندما لم يعد كلا العالمين كافياً لإثارة الاهتمام. لعبتان كلاهما واحد على نواقصه، وبعد رمي قشور ديفيد كروننبيرغ الفنية التي يحيط بها افكاره يبقى "ماتريكس" افضل صنعاً من "اكزستانس". بعض النقاد الغربيين بات يقيس جودة الفيلم بحسب اسم صاحبه. هذا هو التفسير الوحيد الذي عند هذا الناقد لفهم السبب الذي من اجله يجد البعض "اكزستانس" فيلماً مثيراً للإعجاب. هناك فكرة - حالة لقصة تتحدث عن لعبة الكترونية اسمها "اكزستانس" تقوم بتجربتها على الآخرين جنيفر جاسون لي. انها لعبة حقيقية الوقع والحدث الى حد ان اللاعب لا يمكنه التفريق بين ما هو حقيقي وبين ما هو خيالي في حياته. كعادته يوظف كروننبيرغ الفكرة لنوعه المفضل من "الرعب البيولوجي" حيث التشويهات الجسدية جزء من الاستمتاع الذي يستهويه. ولو انه يصرف جهداً مماثلاً على اتقان الحدث تنفيذاً وكتابة وتقديم شخصيات لها ما تعبر عنه او تعكسه الى جانب حالة الهيام غير المبررة التي يعيشونها، لربما خرج بنتائج افضل حتى مع الحفاظ على المشاهد المثيرة للأزدراء التي يختص بها. بين هذا الفيلم الذي يدّعي فقط انه مصنوع جيداً، وبين فيلم آخر ينجز الصنعة الجيدة ويقدم الفكرة ذاتها بطاقةٍ ترفيهية أعلى لا يمكن فقط تحبيذ الفيلم الآخر، بل ايضا فهم صعوبة تحقيق الأفلام التي تتطلب القدرة على صياغة الفكرة الغريبة ومبرراتها ضمن حكاية مكتوبة جيداً. هذا الفيلم الآخر هو "اللعبة" الذي اخرجه قبل عامين ديفيد فينشر "سبعة" والذي قدم الحكاية ذاتها على مستوى او آخر: لعبة تضع بطلها مايكل دوغلاس في المنطقة الرمادية بين الخيال والواقع وبالتالي لا يعد يدري في اي عالم منهما يعيش. واين ينتهي الأول ويبدأ الثاني. من دون مشاهد أبدان ممزقة ولحم مفتوق، وبالاستغناء عن روح مداعبة الذات والهيام بها، قدم فينشر ما يسلي ويرفه من البداية حتى المشهد ما قبل الاخير بعد ذلك هناك حدث كُتب بناءاً على طلب الممثل كي ينقذه من نهاية اكثر منطقية لم يكن راضياً عنها. وأخيراً، هناك "الدور الثالث عشر" لجوزف رازناك. هذا فيلم آخر ضعيف من نوعية السفر من منطقة رمادية الى اخرى بحثاً عن اجوبة ضائعة. بطل الفيلم ممثل جديد بإسم كريغ بييركو يعيش في المستقبل غير البعيد ويجد نفسه متهماً بجريمة قتل رئيسه في الشركة الالكترونية التي يعمل فيها.