تطلب الأمر اكثر من عام منذ العرض العالمي الأول للفيلم التايواني "النهر" قبل أن يجد فرصة للعرض الأوروبي التجاري. مناسبة سانحة لمعرفة ما اذا كان الفيلم استطاع البقاء "نقياً" وحيوياً في البال أم انه غاب في طي اكثر من مئتي فيلم آخر شوهدت ما بين عرضه العالمي الأول في اطار مسابقة مهرجان "برلين" - 1997 واليوم. والتقدير هو ان "النهر" يبقى نقياً وحيوياً بعد هذه الفترة التي مرت على مشاهدته، ليس لأنه فيلم جيد بالضرورة - وسنرى ذلك بعد قليل - بل لأن هناك افلاماً تنجح في إثارة الاهتمام، صورة ومضموناً، وهو من هذه الأفلام. "النهر" *** من خمسة هو ثالث فيلم روائي للمخرج التايلندي تساي مينغ - ليانغ، بعد "متمردو النيون" 1992 و"ليعش الحب" 1994. والأفلام الثلاثة تشكل مجموعة متحدة، وإن كان من المبكر تسميتها بالثلاثية، كما اندفع لذلك بعض النقاد الغربيين، لأن أحداً لا يعلم ما اذا كان في نية المخرج تحقيق فيلم رابع وتشكيل رباعية، او أن كل أفلامه المقبلة ستدور حول مثل هذه الشؤون الاجتماعية التي تشغله، ما يعني انها ستكون سلسلة مستطردة. يبدأ الفيلم بفريق تصوير فيلم سينمائي يحاول اتقان لقطة لجثة رجل تطفو على سطح نهر في العاصمة تيباي حيث يعيش بطل الفيلم الشاب سياو لي كا آنغ تشينغ والذي يمر صدفة في المكان فتتعرف عليه المخرجة، فهما كانا زميلين في المدرسة، فتطلب منه القيام بأداء دور الجثة. يوافق سياو، لكنه يصاب بعارض غير مفهوم منذ اليوم التالي، اذ يؤلمه عنقه وكتفه ويستمر الألم طوال احداث الفيلم، في ما يشبه رمزاً لتقلبات نفسية يُعاني منها الشاب تدفعه الى حدود جديدة في العلاقات الاجتماعية لم يكن طرقها من قبل. وكما نرى في الفيلمين السابقين، فإن العالم الخلفي للبطل الذي هو كا آنغ تشينغ في افلام مينغ - ليانغ الثلاثة يلفت النظر بقوة: والدته امرأة محبطة ولديها علاقة غرامية على هامش زواجها. والأب يتسلل الى حمامات الرجال بحثاً عن شبان يجامعهم. والمحيط الاجتماعي ليس شخصيات فقط، بل هو الغرف الضيقة في البيت، موقع البيت في بناية، ومَن يصعد الى منزل مَن بين الجيران. كما هو في تدفق الماء من حنفية مفتوحة من الشقة التي تعلو شقة العائلة، ومحاولة ابتداع نظام لصرفها بعيداً من دون نجاح. الألم الغامض يزداد برحاً وغموضاً. وبعد فشل العلاج التقليدي يأخذ الوالد ابنه الى معالج روحي في بلدة اخرى. وهذا ليس لديه ما يفيد به سوى الطلب منهما العودة الى العاصمة. قبل ذلك يدخل الأب حماماً شعبياً في البلدة. ومن دون ان يدرك ذلك يدخل الابن الحمام الشعبي نفسه وللهدف ذاته. ينتهي الفيلم بمشهد للشاب ومشكلته لا تزال قائمة. ينهض الى شرفة الشقة ويقترب من الحافة كمن يحدث نفسه بالانتحار... وقد يفعل. حياة يائسة "النهر" فيلم رمزي بدءاً من عنوانه، ذلك ان الفيلم لا يدور عن النهر اساساً، ولا يعود الى النهر في مشاهد لاحقة بعد ذلك الفصل التمهيدي. لكن في حين ان الماء يعني الحياة والطهارة في المفهومين العربي والغربي، فإن معناه يكاد ان يكون معاكساً تماماً لدى مينع - ليانغ. النظرة الأولى التي يلقيها المخرج على ذلك النهر تكشف وسخه وتلوثه. حتى الممثل يخفق في أن يموت فيه. فجأة يطل بطل الفيلم كا آنغ تشنغ ويقبل المهمة على مضض. الألم المبرح الذي يصيبه ناتج عن مياه النهر التي سبح فيها. وحتى المياه المفترض بها ان تكون نظيفة هابطة من الشقة العليا تصبح هماً وتزيد من كآبة العائلة. كذلك لا يبدو المطر مرحباً به، وهو يهطل بغزارة في أكثر من مشهد من الفيلم. والنظرة ذاتها تنتقل الى كل اشياء المكان، من الشقة غير المريحة الى المناظر الاسفلتية في مدينة فقدت روحها وثقافة اهلها، الى حمامات الشذوذ. معظم المشاهد داكن في طبيعته، وتلك التي تصور شخصيات الفيلم الأساسية الشاب ووالديه اكثرها دكانة بصرف النظر عن كمية النور التي يوفرها كل مشهد على حدة. في خضم ذلك، يصبح الألم تعبيراً لحياة يائسة. بعد قيامه بتمثيل دور الجثة يطارح الشاب المخرجة الغرام بلا حب. واللاحب غير موجود لا في علاقة الأب بمحيطه ولا في علاقة الأم بعشيقها ولا بعلاقة الأب والأم المقطوعة. في الحقيقة ليس هناك حسب في الفيلم. وتجربة الشاب الجنسية في الحمام في نهاية الفيلم هي أيضاً شبق شاذ لا حب فيه. ما يعني انه اذا ما كان ألم الشاب الغامض يرمز الى كبت جنسي يعايشه صمتاً الى ان يمارسه في نهاية الفيلم، ومع شخص لم يتوقع وجوده هناك، فإن بقاء الألم واستمرار الكآبة دليل على ان الحب الشاذ ليس الخلاص. الفيلم، على رغم كل دلالاته تلك، مزعج. انه عمل تود لو لم يحمل كل هذا الاحباط وأن يجد قبساً من نور يهتدي به. لكن المخرج يختار ان يترك النهاية بلا تفاؤل والوضع بلا حل. كأسلوب عمل، لا يحمل "النهر" علامات فنية مميزة، ولا حتى لافتة. تطرق المخرج لحكايته وشخصياته بشكل مباشر، والكاميرا ليست أكثر من أداة رصد تنقل تعبيراً لا تستطيع الاسهام فيه. تائهون في الفضاء على سطح كوكب آخر، بمتاعب اخرى مختلفة تماماً، تقع احداث فيلم "تائهون في الفضاء": اقتباس سينمائي آخر عن مسلسل تلفزيوني بثته محطة CBS من العام 1965 الى العام 1968 بنجاح ملحوظ، على رغم انه لم يكن من تلك الأعمال التي تستحق ما احيطت به من إقبال. خلال تلك السنوات الثلاث من عصر المسلسل شاهد الملتفّون من حوله عائلة روبنسون المؤلفة من الأب والأم وفتاتين وصبي صغير وهي تحاول العودة بالمركبة الفضائية التي استقلوها الى الأرض. لكنها في كل اسبوع كانت تجد نفسها عرضة لمغامرة جديدة في ظرف آخر او على كوكب آخر. الفكرة لم تكن بسذاجة المسلسل، او لنقل انه كان من الممكن لها ان تتبلور الى مسلسل اعمق شأناً بكثير من ذلك المعروض من دون ان يخسر عناصره الخيالية/ العلمية. لكن منتج تلك الحلقات أروين ألن الذي عرف اكثر بأفلامه الكوارثية وأشهرها "البرج الجهنمي" مع ستيف ماكوين وبول نيومان أرادها على هذا النحو وكان له ما أراد... الى ان سطا "ستار ترك"، الأكثر عمقاً وفلسفة، على ناصية المسلسلات الخيالية/ العلمية من تلك السنوات وحتى اليوم. وكما فات مسلسل "تائهون في الفضاء" فرصة التحول الى عمل اجدى، فوّت كاتب السيناريو وأحد منتجي الفيلم، أكيفا غولدمان، الفرصة على نفسه وعلى هذا الفيلم ان يكون عملاً اجدى من مجرد مجموعة من الخزعبلات التقنية تم جمعها الى بعضها بعضاً لتؤدي الغرض المنشود منها: جذب جيلين معاً. جيل صغير مندفع بسبب ما يعد به الفيلم الخيالي/ العلمي عادة من مشوقات، وجيل كبير يريد ان يتذكر أيام الأمس عندما تعرف الى عائلة روبنسون بالأبيض والأسود. "تائهون في الفضاء" - الفيلم ** من خمسة يبدأ مهتزاً غير واثق من خطواته ويتحسن بعد قليل مع اطلاق المركبة الفضائية. وقد توخى الكاتب تمرير مضمون يقول ان مشاكل عائلة اليوم هي ذاتها مشاكلها في المستقبل. ففي العام 2058 لا تزال المرأة تطالب زوجها بأن يمنح أسرته الاهتمام ذاته الذي يمنحه لعمله. انها خامة المسرحي نيل سايمون في ثوب حكاية مستقبلية مستخدمة كخلفية تبرر قيام العالم جون روبنسون ويليام هيرت باصطحاب العائلة كلها الى الفضاء، فهو يستجيب لملاحظة زوجته ويقرر ان سبر الفضاء البعيد سيكون اكثر متعة مع الأم والأولاد. بعد ربع ساعة بدايتها تبدأ الرحلة بالتعرض الى متاعب، مثل التوجه الى سفينة فضائية مهجورة بعدما غزتها عناكب حديد، وهذه سرعان ما تتجه الى مركبة عائلة روبنسون باحثة عن وجبة فضائية جديدة. المحطة التالية كانت كوكباً جليدياً في وسطه كرة دائرية، الوارد اليها مفقود والخارج منها مفقود كما يقولون. هنا يكتشف البعض انه يستطيع دخول الزمن، فيرى الصبي نفسه وقد صار رجلاً، او يرى أباه وقد هرم. وهنا يبدأ كل شيء بالتفسخ المنطقي والقصصي معآً بشكل كاسح. ستيفن هوبكنز، الذي أخرج هذا الفيلم، هو ذاته الذي عالج بذكاء الفيلم السابق "الشبح والعتمة"، تلك المغامرة الافريقية التي طغت فيها القصة وعنصرها الانساني على ما عداها، على العكس تماماً مما حدث هنا. وبالرغم من كل ذلك، فإن هذا الفيلم سيعرف فعلاً بالفيلم الذي أزاح فيلم "تايتانيك" من القمة بعد 15 اسبوعاً من عرضه. فيلم مشرق لمدينة مظلمة من يهوى سينما الخيال العلمي ويريد فعلاً مشاهدة عمل يخترق المتوقع والسائد من هذه الافلام، وينتقل بالمرء ليس فقط الى عالم من الخيال القائم على اللامعقول، بل، وأساساً، عالم من البحث في الذات ضمن آفاق جديدة، عليه مشاهدة فيلم "مدينة مظلمة" **** من خمسة للمخرج أليكس بروياس. مثل معظم الأفلام الجيدة من هذا النوع، يجد "مدينة مظلمة" نفسه في اتجاه معاكس لما يبحث عنه معظم المشاهدين. هذا مهما حاول ان يؤمن تلك العناصر التي من شأنها جذبه الى الفيلم ورؤيته. بالنتيجة، لم ينل هذا الفيلم النجاح الذي يستحقه في الولاياتالمتحدة، لكن جمهوراً اكثر سفسطائية وحباً للتنوع والجديد قد يكون بانتظاره عندما يباشر عروضه قريباً في أوروبا. تدور احداث هذا الفيلم في مستقبل ما. مستقبل مظلم دوماً، وقد غابت عنه الشمس، وبدا لو انه جزء من ديكور اربعيني بأشكال وتصاميم مبانيه. مجموعة غامضة من المخلوقات التي قد تكون آدمية لكنها بالتأكيد وردت من فضاء آخر تعيش بيننا ولديها قدرة على تثبيت حركة الزمن ومن خلال ذلك حركة الاشياء. وهذا ما يقع ليلاً في كل يوم. كما ان بحث هؤلاء عن الخلود يقودهم الى محاولة اعادة برمجة الذاكرة وسحبها تماماً من الناس العاديين، كما تغيير شكل الاشياء. بطل الفيلم يستيقظ يوماً ليجد نفسه الى جانب جثة. وهو لا يتذكر ما فعل قبل ذلك لكي يفيق في حجرة وسخة من فندق قديم مع جثة مضرجة بالدماء. يهرب من المكان ومن القانون ويلجأ الى طبيبه الخاص بحثاً عن إجابة. وستطول مدة البحث من دون ان تهدر في الفيلم قبل ان يتعرف بطلنا الى بعض حقائق ما يدور. بعض تلك الحقائق يكمن في أن هؤلاء "الغرباء"، كما يسميهم الفيلم، سرقوا ذاكرة البطل لكنهم اخفقوا في تجميد حركته وتنويمه أسوة بباقي ابناء المدينة الداكنة. لاحقاً، خلال ازدحام الفيلم بالكثير من المفارقات المهمة، يصل الى فصل نهائي يشكل مفاجأة مهمة في هذا الفيلم - ليس من الحكمة كشفها - لكن يكفي القول فيها ان كل معطيات الفيلم التي استقبلناها منذ بدايته حول كينونة هذه المدينة تتبدل على نحو لم يكن بالحسبان. ويليام هيرت، الذي يؤدي دوراً خفيفاً في "تائهون في الفضاء"، يؤدي دور التحري الذي يبحث بدوره عن الحقيقة في هذا الفيلم. الوجه غير المعروف كثيراً روفوس سيوويل طريدته الحائرة والممثل البارع كيغر سذرلاند في دور كلاسيكي كطبيب يخفي جانباً كبيراً من الحقيقة، دور لو ان هذا الفيلم انتج في الثلاثينات او الأربعينات، لذهب الى بيتر لور لا محالة. لكن لو انتج هذا الفيلم في تلك المرحلة لما استطاع ان يحتوي على مثل هذا التجسيد الكبير لعالم يتأرجح بين الأزمنة والامكنة والاجواء. والميزة الأساسية لهذا الفيلم، على صعيد الصورة، ليست فقط في الاضاءة الموزعة بمهارة، بل في التصميم الفني التي تم توزيعه فيها ايضاً. بميزانية لم تتعد ثلث تلك التي خُصصت لفيلم "باتمان وروبن" والتي بلغت 120 مليون دولار، استطاع المخرج بروياس تحقيق نظرة خاصة لعالم مستقبلي. ولهذه الغاية بنى في استراليا تلك الهياكل التي نرى لمدينة كافكاوية كاملة. الناحية الوحيدة التي يمكن ان تثير انتقاد بعضنا هي انه في حين ان الكثير من الجهد بذل على صعيد القصة ومنحها طابعاً خاصاً، وعلى النواحي الفنية المختلفة، بما فيها تصاميم الملابس للغرباء، فإن القليل من الجهد بذل في سبيل كتابة شخصيات جديدة. سبب ذلك هو في السيناريو الذي ليس لديه ما يضيفه على احادية الشخصيات الأساسية التي يقدمها، لكن بعض العذر هنا نجده في تعويض النقص بمعالجة توحد مسار القصة وغرابتها مع غرابة الشكل العام لها من مخرج حقق سابقاً "الغراب: مدينة الملائكة" وبرهن عن نظرته شبه المنفردة في مثل هذا اللون من الأفلام. عملياً، هناك أكثر من لقاء بين "تائهون في الفضاء" التائه حقيقة منذ اللحظات الأولى، و"مدينة مظلمة" والمبدع طوال الوقت. كاتب السيناريو لفيلم "تائهون في الفضاء"، أكيفا غولدمان، هو نفسه الذي كتب سيناريو الجزء الرابع من مسلسل باتمان، تحت عنوان "باتمان وروبن"، الذي أشرنا اليه. والسيناريو والحوار لكلا الفيلمين "تائهون" و"باتمان" من أسوأ ما كتب، بل ان كتابة "باتمان وروبن" الى جانب اخراجه لجويل شوماكر هي التي دمرت ذلك الفيلم وهددت احتمالات نجاح الجزء الخامس اذا ما تم تحقيقه. بطل "تائهون في الفضاء"، ويليام هيرت، الذي هو ليس اسماً في شباك التذاكر، يؤدي دوراً رئيسياً في "مدينة مظلمة". هيرت من بين تلك المواهب الاكيدة التي كانت لها طلعاتها ونزلاتها بحثاً عن الفيلم المناسب. وبينما يحقق "تائهون في الفضاء" نجاحاً تجارياً يستحقه الممثل، فإن موهبته الادائية وانسيابه المطلق في الأداء موجودان فقط في "مدينة مظلمة". كيغر سذرلاند يتحول بدوره من فتى أول الى ممثل حقيقي. اما روفوس سيوويل، الذي نراه قريباً في "جمال خطر"، فله حضور محير. انه بالتأكيد لم يصنع ليكون ليوناردو دي كابريو جديداً، لكنه من اولئك الذين تتابعهم باهتمام يستحقه.