مجموعة تصريحات من ايهود باراك قلّبت أجواء الشرق الاوسط، فجعلتها رومنطيقية هادئة واعدة، حتى لكأن المنطقة خطت الى مستقبلها بحزمة من الكلمات والوعود. ولو كانت الأحلام متاحة في عملية السلام لأمكن القول ان باراك يحكي كأنه ليس اسرائيلياً، وانما هو رسول من عالم آخر جاء يختتم ألفية الشرق الثانية ويكون الرجل التاريخي المفتقد للمنطقة. في هذا الجو "الجميل والشاعري" على ما تقول اغنية المطرب العراقي! يبدو الجميع مستعجلاً اكثر منه مهرولاً، بل يبدو ايجابياً مستجيباً. ما ان يقول واحد "احبك" حتى يأتيه الصدى من الطرف الآخر "احبك… اكثر". ولِمَ لا، فهذا السلام الذي بدأ كان مطلوباً منه ان يشيع اجواء سلمية تمهد لتقاليد تعايش، لكن تردد حكومة العمل السابقة مع بيريز، وعوارض "عسر الهضم" عند الحكومة التي سبقتها مع رابين، ثم سياسات السموم والتسميم عند حكومة نتانياهو، اطاحت كل احتمال لنشوء حالة سلم او لانتقال السلام من نصوص الاتفاقات الى الحياة العامة في الشوارع والاسواق. كان خطأ سياسياً واضحاً ان يتجاهل ليكود "حسن السلوك" العربي منذ مؤتمر مدريد حتى اليوم. ومهما كانت التخوفات الاسرائيلية فانها لا تستطيع ادعاء ان الخيار السلمي بقي خياراً ثابتاً عند مختلف الحكومات العربية، لأنه ببساطة الخيار الوحيد المتاح، في حين ان نتانياهو أتاح لنفسه فرصة التمتع بخيار حرب استبعدته الوقائع أصلاً. لكنه لم يشأ انهاء عهده الا بحملة وحشية اطفأت انوار بيروت واعادت اليها هدير مولدات الكهرباء. ليس كثيراً ان يكون باراك اقرب الى الجدية منه الى رعونة نتانياهو. فالسلام لم ينبثق من غبار حرب الخليج الثانية عام 1991 الا لأن الولاياتالمتحدة وجدت الفرصة مناسبة لطعنة نجلاء في صدر "النظام العربي"، وبالتالي كان الظرف مناسباً لتحقيق مصلحة اسرائيل بفرض قبولها وانهاء الصراع في الشرق الاوسط على قاعدة ان الغزو العراقي مثل ذروة صراع آخر عربي - عربي بدا اكثر خطورة على المنطقة من كل حروب العرب ضد اسرائيل. اذاً، ليس كثيراً ان يظهر باراك انه جدي، ليستطيع التعامل مع الواقع وتحدياته، لكن هذه الجدية لا تعني انه جاء لتوزيع الهدايا على العرب حتى لو أطلق مساعدوه وعوداً ب"عروض سخية" او ما شابه ذلك. كل ما قاله باراك لا يختلف الا في اللهجة عن خطاب نتانياهو، مع فارق آخر ايضاً يتمثل في الشخص بعدما سقط زعيم ليكود السابق تلك السقطة الشنيعة. ولا يقل زعيم العمل تمسكاً بالأمن عما كانه سلفه، بل لا يقلل تمسكاً بالمستوطنات وان كان لديه استعداد غامض للبحث في مصير الاستيطان كنهج ايديولوجي ينتمي الى القرون الوسطى ولم يعد ممكناً استمراره طالما ان الصراع الى نهاية وبالتالي فهو لن يكون مرفقاً بحملات عسكرية. اما استعداده للتوصل الى اختراقات على المسار السوري - اللبناني في اقرب وقت فليس سوى واقعية لا بد ان يتحلى بها، والا فما معنى السلام اذا لم يكن انسحاباً من اراضٍ محتلة. مع ذلك يدرك العرب والاسرائيليون ان "السلام الشامل" ليس مجموعة اتفاقات منفردة، وانما يبقى محك السلام أساساً في ارض فلسطين وما يصيب أهلها منه. وبالتالي لا يمكن شراء القدس برد هضبة الجولان الى سورية، ولا يمكن قتل حق العودة والتعويضات للفلسطينيين برد الشريط الجنوبي المحتل الى لبنان. فاستحقاقات السلام مع سورية ولبنان هي اقل ما تستطيعه اسرائيل لإثبات استحقاقها القبول العربي، اما استحقاقات السلام على ارض فلسطين فهي التي تؤكد ما اذا كان الشرق الاوسط توصل الى سلام أم لا…