يكتب الناقد احسان عباس، في تقديمه المجموعة القصصية الجديدة "قبل الأوان بكثير" دار الشروق 1999 للكاتبة الأردنية بسمة النسور، أنه يحب القصة القصيرة "لا للشراكة بيني وبينها في الصفة، وإنما لأني أجد فيها فناً أصيلاً". ويتابع عن الكاتبة أنها "لا تزال تقوم بخطى ثابتة واثقة في هذا المضمار، وأن تجربتها القصصية تزداد عمقاً وشمولاً". والى ما كتبه الناقد المعروف، يمكن القول ان تجربة الكاتبة بسمة النسور، المتمثلة في هذه المجموعة، وفي مجموعتيها "نحو الوراء" و"اعتياد الأشياء"، تتميز ببساطة عالمها، وضيق المساحة التي يتحرك فيها أشخاصها. أعني أنهم يتحركون في دواخلهم. أي أن ضيق المساحة ينطوي على ثراء العمق الذي تتميز به النفس. في معظم قصص النسور ثمة حالة الفرد في صراعه مع ذاته وهو يعكس صراعه مع العالم من حوله، لكنه العالم الضيق الذي يتحرك فيه: في علاقة حب تنتهي الى حال من حالات الموت، المعنوي - الرمزي - أو الجسدي، أو في العمل أو سواها من الأماكن، وهي قليلة. فالمكان الأشد حضوراً هو روح الأنسان وذهنه، خياله وأوهامه. فمعظم شخوص القصص، رجالاً كانوا أم نساء، هم ممن يعاني أشكالاً من القلق والتوتر، هم مسكونون بهواجس وأوهام، وبلا أية أحلام - لأن أحلامهم قد تحطمت. في القصة التي تحمل المجموعة عنوانها "قبل الأوان بكثير" يحاول رجل يعيش وحيداً أن يشغل وقته حتى ينقضي النهار. في الليل يعود الى بيته ويفاجأ بأصدقائه - يملك بعضهم مفتاحاً لشقته - يتهيأ لحفلة عيد ميلاد، ويفاجأ أنه عيد ميلاده هو، وبعد الاحتفال، وحين يبقى وحيداً، يعود ويشعل الأربعين شمعة، لكنه لم يشعر كيف مرّ الوقت سريعاً وذابت الشموع "قبل الأوان بكثير"، ونفكر نحن أن العمر كله يمضي قبل الأوان. انه الموت، موت الأشياء والإنسان. والمجموعة التي تضم عشر قصص قصيرة، وتسع عشرة قصة قصيرة جداً، تبتعد عما يمكن تسميته بالهموم النسوية، لتغوص في أعماق الإنسان، وفي ما يسكن هذه الأعماق من مشاعر وأحاسيس: القلق، الضجر، اليأس، الاستسلام، الانسحاق، الندم بعد فوات الأوان بكثير!، الإحساس بوجود المؤامرة الخسارات... الأفكار السوداء هي ما يطغى على روح وجوهر النص. والمسخ هو مصير عدد من الشخوص. والعزلة مصير يدفع الى الجنون أو الى الرغبة في التواصل مع أي شيء. أما العجز والشيخوخة، فالموت أسهل منهما كما يرى إحسان عباس الذي يستحضره بطل قصة "قبل الأوان بكثير" ليسأله حول الموت إذ يقول عباس إن "الموت تجربة مريحة، أما الشيخوخة فهي اللعنة الكبرى في حياة الإنسان، حيث يصاب بخيبة أمل". وفي قصة "تشبث" نرى كيف أن الكهل يهيج ويحتج بقوة على المصوّر الذي التقط له صورة تظهره كهلاً، ولا يريد أن يصدق أنها صورته رغم تأكيدات عدد من الموجودين، فهو يؤكد لهم "لست عجوزاً الى هذا الحد أيها الغبي"، بل انه يصف شخص الصورة بأنه عجوز متجهم بائس "لا أرغب في رؤيته حتى أموت". انه يرفض نفسه في هذا المآل البائس. لكنه مقتنع تماماً بالأمرين المتناقضين: هذه هي صورته فعلاً، ولكنه هو ليس عجوزاً الى هذا الحد. ولهذا فهو يمزق الصور، ويجر "خطواته المتهالكة" ويمضي في فصامه. هذه الهموم الصغيرة، والأفكار الصغيرة، تعبر عن حالات انسانية / وجودية، وقلما تلتفت الكاتبة الى هموم العيش، ما يعني أن ثنائية الحياة / الموت هي ما يشغل الحيز الأكبر في كتابتها. وضمن اطار هذه الثنائية الواسع تأتي المفردات والتعابير المختلفة عن أشكال كل منهما. ثمة حب في بعض القصص، لكنه لا يلبث أن تدهمه عواصف الخريف. وثمة فرح قليل، لكنه لا يساوي قطرة أمام بحار الحزن. والحياة ليست في سهولة ما يجري في الأفلام العاطفية التي تنتهي بعناق بين العاشقين بعد كل ما يجري من خلافات. هكذا تكتب بسمة النسور قصتها ذات النكهة المميزة، ان على صعيد الفكرة والحالة - اللقطة، أو على مستوى المعالجة الذكية والماهرة في السرد. حركة السرد السريعة، الجملة القصيرة، الكلام المحدد بعيداً عن الإنشاء والهذر الذي لا يفيد، بل يضر، نسيج القصة. وفي قصصها القصيرة جداً، تبدو كمية الموت وأشكاله على النحو نفسه الذي في الفصل الأول، ويبقى أسلوب السرد نفسه، لكنه يغدو هنا أشد تكثيفاً، وتلعب المفاجأة هنا دوراً أساسياً في القصة، فهي المفاجأة التي ستخلق الدهشة المطلوبة في هذا النمط من القص. وتستغل الكاتبة عنصر الخرافة كما يتمثل في الطلب الى الطفل أن يضع السن التي سقطت من فمه تحت وسادته لتأتي الجنيّة وتضع مكانه نقوداً. وحين تضع الطفلة سنها، وتحلم بالجنية، تصحو في الصباح ولا تجد شيئاً، فتروح الأم تبرر الأمر بأن الجنية تنسى مثل الأمهات، و"راحت يدها تبحث خفية عن قطع النقود في قعر حقيبتها". قد تكون نهايات بعض هذه القصص ضعيفة، وغير مدهشة. لكن غالبيتها تنجح في خلق المفارقة، وغالباً المفارقة السوداء، أما البنية الأساسية، والنسيج العام للقصص كافة، فثمة ما يؤشر على جهد كبير ومبدع يقف وراءها. ومما يميز عمل النسور هو أن قصصها تتجه الى التركيز على فردية الفرد، فذات الإنسان - الفرد تغدو هنا أكثر تفرداً وابتعاداً عن الجماعة، وأشد انفصالاً عن المجتمع، أكثر سوداوية، وأشد توتراً، وأقل توازناً وتماسكاً أمام خساراتها وأقل قدرة على التواصل. وبينما يمكن لنا أن نلمس وجود ظلال من ديستويفسكي أو من كافكا، أرى أن كتابة النسور تتكىء على رؤى وتجارب ذاتية أكثر بكثير مما تفيد من تجارب مكتوبة - ذات جذر ثقافي أو فكري. فهي تغرق في ذاتها متأملة فيها، ومستخلصة من تأملاتها هذه الخلاصات التي تجعل من الهم الذاتي هماً إنسانياً.