صبيحة اليوم الخامس والعشرين من آب أغسطس المنصرم، وكان يوم ثلثاء، خرجت صحيفة لبنانية، "رصينة" العناوين، على قرائها وفي رأس صفحتها الأولى، وإلى يمين الصفحة، خبر، أو ملخص خبر، يزف إلى اللبنانيين دعوة مطمئنة إلى الاطمئنان مصدرها "تطمينات دولية حول الجنوب" اللبناني زعمت الصحيفة أن "الحريري تلقاها". وتفيد "التطمينات" أن "لا خوف من عملية عسكرية اسرائيلية ضد الجنوب". وعليه خلصت "أوساط الحريري"، والرجل وأوساطه واحد إعلاماً ومسؤولية، إلى انه "من الواجب نقل هذا الواقع إلى المواطنين". وكان سبق وصول "التطمينات" - المنقلبة من سطر إلى السطر الذي يليه إلى "واقع" ينبغي أن ينقل إلى المواطنين فيبنون عليه المقتضى، وهو الاطمئنان والانصراف إلى الاصطياف، وإلى الترحيب بالمصطافين المتوافدين إلى لبنان كثراً - سبق وصولها اضطراب زرعته آراء اسرائيلية وزارية ونيابية في جواز ضرب "البنى التحتية" اللبنانية، ومواقع الجنود السوريين، رداً على مقتل جنود اسرائيليين في أعمال عسكرية يتولى معظمها مقاتلون محترفون من "حزب الله". وعقَّبت الآراء هذه على مقتل جنديين اسرائيليين وعامل مهني في غضون نحو أسبوع. فخاف اللبنانيون على أشياء كثيرة في وقت واحد. فالانفجار جنوباً يعني الموت والدمار والتهجير والنزوح وتعاظم أعباء السلطات العامة المالية والاجتماعية، وتفاقم ضعف الدولة السياسي بإزاء المنظمات الأهلية المسلحة وبإزاء السياسة السورية" ويعني دوام تخبط السياسة والاقتصاد اللبنانيين في دوامة العالة والركود والمضاربة. وحال الطوارىء العامة هذه كانت، إلى اليوم، الذريعة إلى الارتداد على ما تشارك اللبنانيون في بنائه منذ جمعهم بعضهم إلى بعض، وضمهم قسراً في ابتداء الأمر إلى كيان سياسي وحقوقي واحد. لا ريب في أن هذا الضم قسروا عليه" لكن عقداً ونصف العقد من الضم كانا كفيلين بحمل أحد كبار المسلمين السنّة على القول، في 1937، إن المسلمين لن يقايضوا ثمار انضمامهم إلى لبنان المشترك بالوحدة مع سورية في ضوء الفرق، الاقتصادي والاجتماعي، المتعاظم بينهم وبين "إخوانهم" في سورية. ولم يؤد ربع قرن من الحروب والدمار إلى تقليص الفرق، مهما كان الرأي في هذا الفرق وتقويمه. أما محرر الصحيفة، "النهار" البيروتية واللبنانية، السيد ابراهيم بيرم، فكتب في العدد نفسه، وأعلنت الصحيفة عن مقالته في الصفحة الأولى في مستطيل إلى يمين الصفحة، كتب يقول ناقلاً عن "حزب الله": "لا خوف من التهديدات" في الصفحة الأولى، و"حزب الله مرتاح: سمعناها مراراً" في الصفحة الداخلية، كناية عن رأي بعض ألسنة الحزب الخميني في دعوة وزراء ونواب اسرائيليين إلى ضرب مرافق لبنانية حيوية لقاء خسائر في صفوف القوات المحتلة. فأجمعت الصحيفة، أو عنوان أول من عنوانيها، ومحررُها، أو مقاله الذي خصته الصحيفة بتنويه في صفحتها الأولى، أجمع الإثنان على ترجيح كفة الاطمئنان على كفة القلق. ونسب الإثنان الترجيح هذا إلى "مرجع" مأذون، وحرصا على نقله، "واقعاً" ناجزاً، إلى "المواطنين" القراء وربما المشاهدين والسامعين. والصحيفة ومحررها يقومان من المصدر المرجح مقام الواسطة المحض. وهي وساطة متحيزة تحيزاً قوياً وحاداً. فليس في صياغة الخبر الأول، ولا في المقال الناقل عن قائل، ما ينبىء بأقل تحفظ، أو ما يذهب مذهب المقارنة بين قول اليوم وأقوال شبيهة قيلت في أمس قريب أو بعيد، أو ما ينبِّه إلى حظ الصدق في مثل هذه الأخبار والمنقولات وإلى حظ الغلط. وترمي العناوين الثلاثة، من غير لبس، إلى حمل القارىء المتصفح والمستعجل على التصديق، أي على الاطمئنان. وينبغي أن يتضافر على طمأنة القارىء مصدران متباعدان: المصادر "الدولية" والمنظمة الميدانية المسلحة. وإسناد الطمأنة إلى هذين المصدرين، وهذا شأنهما، هو ضرب من تقسيم العمل المفضي إلى تكامله وتتامه. فإذا أجمع من تتدرج مراتبهم من إطلاق النار وتفجير العبوة إلى الدعوة من منابر وزارات الخارجية بواشنطن وباريس وغيرهما إلى "ضبط النفس"، حق للقارىء أن يطمئن، على تباين عريض في دواعي الاطمئنان وأسبابه. ولكن تشخيص الدواعي إلى الاطمئنان يختلف بين الصحيفة ومحررها، أو بين المصدر الحريري الذي تصدر عنه الصحيفة والمصدر الحزب اللهي الذي يصدر عنه المحرر. فالمصدر الحريري يعزو داعي الاطمئنان إلى القوى "الدولية". ومعنى هذا، على الاجتهاد، أن السياسية الأميركية والسياسة الفرنسية، وهما السياستان اللتان ترعيان "تفاهم نيسان" العتيد وللسيد الحريري مع بعض أصحاب القرار فيهما علاقة وثيقة، غير غافلتين عما تجره غلظة اسرائيلية عسكرية على أبنية الدولة اللبنانية الهزيلة من ضعف واحراج. ولا يقتصر الأمر على الدولة اللبنانية بل يتعداها إلى السياسة السورية. فالتلويح الإسرائيلي بالهراوة الغليظة تطاول إلى الجنود السوريين المرابطين بلبنان وعلى أرضه الإقليمية. وعلى هذا تبدو القوات السورية المرابطة بلبنان صنو "البنية التحتية" الاقتصادية ونظيرها وشبهها. وهي، من هذا الوجه، "بنية تحتية" سياسية وأمنية لبنانية، ينهض عليها "النظام" اللبناني القائم، وبنية سورية، ينهض عليها شطر راجح من السياسة السورية. فإذا طمأنت مصادر دولية "أوساط" السيد الحريري على دوام القيود الدولية على ثأر اسرائيلي متوقع، فإنما موضوع الطمأنة هو البنيتان، اللبنانية والسورية. ومؤدى هذا أن القوى الدولية تخشى أثر الأعمال الحربية الإسرائيلية في لبنان ونتائجها عليه، على تماسكه وعلى استقلاله بإزاء الوصاية الاقليمية، خشيتها أثر هذه الأعمال في تماسك السياسة السورية ونتائجها على هذا التماسك. وقد يُخلص من هذا، على خلاف رأي يروج له، إلى أن السياسات الدولية في المشرق تخشى على سورية نتائج الغلظة العسكرية الإسرائيلية فوق ما تخاف من سورية نفسها. وهذا جارح للكبرياء "القومية". لكن هذه الكبرياء تداري الجروح من طرق خطابية كثيرة يتولى بعضها "حزب الله" وألسنته الغزيرة القول. فينقل محرر صحيفة "النهار"، في المقال نفسه، عن أحد المأذونين تسويغاً ل"ارتياح" المنظمة الخمينية هو عصارة الدعاوة الحزب اللهية والعُظام الحزب اللهي. ويختصر الرجل تسويغه في عبارة جامعة فيقول: "نعتقد أن الإسرائيليين سيفكرون طويلاً وملياً قبل أن يقدموا على أي خطوة تصعيدية لأنهم يعلمون حجم رد فعلنا". فالحرب، على زعم الرجل الذي ينقل عنه المحرر صاغراً ومصدقاً ومسلِّماً، إنما هي بين قوتين عسكريتين متكافئتين. ويشمل التكافؤ مقومات الحرب "القاسية" برمتها: الجنود، والآلات، والخسائر، والطرائق، والأهداف. ولا دور للسياسة، وخصوصاً الدولية، الأميركية والفرنسية، في الإيهام بالتكافؤ، أي في لجم القوة الإسرائيلية وقسرها على مداراة حال الدولة اللبنانية وحال السياسة السورية القوية التعويل على الضعف اللبناني. وإذا اضطر المتكلمون باسم "حزب الله" إلى الإقرار باضطلاع السياسة بدور، تركوا القول الواضح إلى القول الملغز، وماشاهم الصحافي المزعوم في تركهم هذا، ولم ينبه اليه ولم ينتبه. فالمتحدث بإسم المنظمة المسلحة والأمنية لا ينفك عن الإشارة، من كل الأطراف، إلى "الظروف السياسية والميدانية" التي تحف المعالجة العسكرية الإسرائيلية لاحتلال قوات الدولة العبرية بعض جنوبلبنان. وهو يذهب إلى الاقرار، بعد مديح النفس كثيراً والإزراء بالعدو أكثر، بأن اسرائيل "لا تملك اليوم أي معطيات سياسية ]وسقطت، في الأثناء، الصفة الميدانية[ تساندها في عمل ميداني واسع"، من غير الإفصاح عما تعنيه تارة، "الظروف السياسية"، وتارة "المعطيات السياسية". ونتائج اختلاط التناول المعلن هذا كتابة صحافية هجينة لا يتميز تصديقها ومجاراتُها من تنقل عنهم، حين يغرقون في الإيهام، من إخبارها وإعلامها وتمكينها القارىء من النظر في الوقائع وأوجهها. فيغفل محرر الصحيفة، شأن المتكلم المأذون الذي يذيع أقواله من غير "نقدها" أي عرضها على المقارنة، عن أن "الحرب" المخوفة، التي يتخوفها اللبنانيون، ليست حرباً بين بعض الجنود الإسرائيليين وبين قوات "حزب الله" في أرض خلاء جلا عنها أهلها، اللبنانيون. وهي ليست، من باب أَوْلى، مبارزة أو منازلة على قول مشهور للسيد صدام حسين في معاركه، وكلها أمهات بين "فرسان" يفضحون العدو "فضيحة كبرى" إذ "يصلون إلى عقر داره" - و"عقر دار" الجنود الإسرائيليين هي، لدهشة القارىء، تلة سجد اللبنانية العاملية نسبة إلى جبل عامل، اسم الجنوب "الشيعي" والأهلي. فنائب أمين عام "حزب الله"، وهو من ينقل عنه محرر صحيفة "النهار"، استخفه التوهم و"الارتياح" والإنشراح فحسب أنه يرابط بجوار صحراء النقب وأن سراياه النووية تحاصر ديمونا ومفاعلها. فنسي أنه يحادث من مكتبه، المحصن بإرادة سياسية دولية يغلب عليها الشطر الأميركي على ما ظهر جلياً في 12 نيسان/ابريل 1996، في الشياح أو برج البراجنة، بالهاتف، صحافياً مبهوراً نسي بدوره صنعته المهنية وخلعها إلى صفة الداعية. وقد تكون هذه الحال هي السبب في "الارتياح" المرفوع عنواناً. فإذا نسي الحزب العتيد أن الحرب إنما يُصْلاها، من ورائه وبين يدي السياسة السورية، اللبنانيون: تهجيراً ولجوءاً وبطالة وأراضي متروكة واجتماعاً متصدعاً ودولة متداعية وعالةً، إذا نسي هذه كله جاز له أن يعتد بتسلل أحد مقاتليه إلى موقع اسرائيلي في قلب الأرض اللبنانية، من هنا، وبتفجير عبوة في سيارة غير مصفحة تقل مصلح جهاز ضخ مائي يعمِّده الحزب والمحرر المبهوران "عملية نوعية"، من هناك. وجاز له أن يغفل عن الشرائط السياسية الفعلية، الأميركية والإسرائيلية والسورية، لمعالجة أعماله العسكرية ولآثارها الحقيقية وتكلفتها الفعلية. لكن ما "يجوز" للمنظمة الحزبية أن تنساه، وأن تغفل عنه - وهو جواز على سبيل التنديد وعلى وجه فهم بائس للسياسة - هو ما لا يجوز للصحافي، ولا لصحيفته، لا نسيانه ولا الغفلة عنه. وإلا كانا منتحلي صفة. ولعل اضطراب تعريف الصفة الصحافية، في لبنان اليوم وصحافته، هو السبب في ترجح كثرة من الصحافيين اللبنانيين بين الإخبار والتعليق، وما يفترضه الأمران من نقد ومقارنة وقياس، وبين محاكاة نرجسية السياسيين وتوهماتهم في أنفسهم وأعمالهم. ومحاكاة النرجسية هي ما حمل المحرر النهاري، على سبيل المثال لا غير وهذه المرة دون مرات أخرى سابقة، على نسيان سوابق حزب اللهية مدوية. ففي 31 آذار مارس 1996 قال السيد حسن نصرالله، مؤبناً أحد مقاتلي منظمته، علي أشمر، أن العملية التي نفذها المؤبَّن حالت دون قيام القوات الإسرائيلية ب"عملية كبيرة". ولم يمر على الكلام المأذون هذا، يومها، أحد عشر يوماً حتى ذاق اللبنانيون مرارة العملية الإسرائيلية التي لم ينسوا طعمها إلى اليوم، فيما "حزب الله" ما زال إلى اليوم، ومعه المحرر النهاري وغيره، "مرتاحاً" إلى نتائجها، و"انتصاره" فيها فمقتله قانا التي لم يحقق لبنان فيها، ولا في التبعات المحلية عنها، أودت بشمعون بيريز، وب"النقطة التي وصلت اليها المفاوضات" السورية والإسرائيلية، فكان هذا نصراً سورياً لم تفوته السياسة التي تخدمها المنظمة الخمينية. وكادت البصيرة الثاقبة نفسها أن تكرر فعلتها في آب المنصرم. فغداة "التطمينات الدولية" و"الارتياح" الحزب اللهي كتبت الصحيفة نفسها، "النهار" في 26 آب، في صدر صفحتها الأولى وعناوينها: "التصعيد جنوباً يخترق التطمينات الدولية". ورأت الصحيفة "ان اسرائيل تحشد وتدخل آليات متطورة". وهي كانت اغتالت مقاتلاً من "أمل"، وقصفت مواقع عسكرية فيها موقع سوري وجرحت جنوداً سوريين. فسكت التحرير الصحافي، أي "التعليق" المقتصر على الإذاعة والترديد، يومين. وعاد في اليوم الثالث، بعد أن بدت الحال مستقرة على الأعمال المعتادة التي ترعى إقامة لبنان على اضطرابه واختلاله، عاد ليقول: "...صحت التوقعات ]توقعات المحرر والحزب الذي ينقل عنه[ أن الأمور لن تنفلت من عقالها وتتجاوز التصعيد المحدود، وخصوصاً من اسرائيل...". وعادت الصحيفة وصحافيها إلى تقسيم العمل المعهود. فذهبت الصحيفة، في 27 آب، إلى ان "العاصفة" انحسرت بعد "رسائل"، وهي تقصد الايحاءات والمواقف المضمرة التي تنم بها الأعمال العسكرية من غير أن يُصرَّح بها ويعرب عنها. وليس في الصحيفة ما يكشف النقاب عن فحوى هذه "الرسائل"، الا السطر الثاني، المختصر، من العنوان. وهو لا يقيت من جوع. وتدخل الصحيفة، في سياق خبرها، تعليقات دولية وزيارة السيد الشرع، الوزير السوري إلى الرئيس الفرنسي. أما الصحافي المزعوم فترك الكلام على غاربه ل"حزب الله"، ول"تحليله" النفسي المحكم. ويسعيد "التحليل" سبحة الانتصارات الحرب اللهية في باب، وسبحة الاخفاقات والهزائم الإسرائيلية في باب نظير الأول. فيخلص القارىء من الهذيان العُظامي هذا، إذا قرأ، إلى أن مدار الكون كله، ومبناه، إنما هما على "سباق الوقت" الإسرائيلي والحزب اللهي. ولا يملك المحرر قلمه فيكتب أن "سباق الوقت" هذا، وهو يفترض قصيراً ومقيداً بمهلة، دخله "حزب الله"، "منذ زمن بعيد". فهو "سباق" على معنى غير مألوف ولا معهود، ما دام "الزمن البعيد" ميزانه وميدانه. ويطرح الكلام المنقول، على عادته، كل الحواشي السياسية، الإقليمية والدولية، التي يحدس القارىء في خبر الصحيفة، حكمها وفعلها في الحادثة. بينما يصول الحزب الخميني ويجول في ميدانه المعلَّق. ليس من المحتمل أن تنتهي الصحافة إلى غير ما انتهت اليه الصحفية اللبنانية، وصحافيها المزعوم، إذا هي حاكت مصدر الخبر ورأي هذا الخبر في نفسه. فالسياسي، فرداً أو جماعة، نازعة إلى الوهم والتخييل، وإلى تجريد نفسه وفعله من الملابسات المؤاتية، لا يغلب. وقد تكون مهمة الصحافة الأولى تقييد هذا النازع وحمله على التواضع إلى الملابسات التي تتخلل النفس السياسية وتشترط عليها شرائطها وتلزمها بها. وإلا لم تتصل الصحافة، ولو كانت صحافة رأي، بالرأي العام، أي بالعام والمشترك والمعلَّل في الرأي، ولبقيت وقفاً على الخاص. والتمثيل ب"النهار" على وطأة الخاص، وهذره وانفلاته من كل عقال، إنما هو ضرب من الكناية: فإذا كانت هذه حال الصحيفة الرصينة فما حال الصحف التي لا وازع لها من تراث ولا من اعتداد بالنفس؟ * كاتب لبناني.