أظهرت التسريبات الوثائقية التي بثتها قناة الجزيرة للكثير من الوثائق التي تخص الوضع الفلسطيني ومفاوضات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، حقائق مهمة - إن صدقت - لتزيد من الاحتقان والتشنج بين مختلف الأطراف الفلسطينية والعربية، وتفقد المواطن الفلسطيني بشكل خاص، والعربي بشكل عام، ثقته بالمسؤولين عن المفاوضات، إذ كانت هذه التسريبات مؤثرة جداً وفي هذا الوقت بالذات، لتجعل الوضع في فلسطين، الداخلي والخارجي، في مهب الريح وتربك الرأي العام الفلسطيني بشكل كبير جداً، خصوصاً ما يتعلق بالتنسيق الأمني مع الأجهزة الإسرائيلية، والتنازل عن حق العودة للاجئين الفلسطينيين المقيمين في الخارج، الذين يزيد عددهم على أربعة ملايين لاجئ. إن تسريبات قناة الجزيرة وتأثيرها على الوضع الفلسطيني السياسي، خصوصاً في ظل الانقسام الحاصل بين السلطة في رام الله وحركة حماس في غزة، قد عززت القناعة بأن هذه المفاوضات هي عبثية ومضيعة للوقت، وتزيد من إحباط الرأي العام العربي والفلسطيني في ما يخص السلام في المنطقة، ويزيد حنقه على المفاوض الفلسطيني الذي يبدو أنه بدأ يفرط بكل ما يخص قضيته ومستقبل شعبه، بحسب ما ورد في وثائق الجزيرة، ما يجعلنا لا نستغرب التعنت الإسرائيلي والمراوغة في المفاوضات. يبدو أن استقالة إيهود باراك من حزب العمل الإسرائيلي وتشكيله حزباً جديداً، خلطت الأوراق السياسية في الحكومة الإسرائيلية وقوّت حكومة بنيامين نتنياهو الإتلافية، في وجه ليبرمان زعيم حزب إسرائيل بيتنا المتطرف، وأوقفت قطار السلام في الشرق الأوسط، الذي ترعاه الولاياتالمتحدة، التي جعلت منه مهمة رئيسة لها يجب أن تصب في مصلحتها، وتعيد تصحيح صورتها الإيجابية في المنطقة العربية، ولتزيد من التعنت والمراوغة الإسرائيلية، بل تحدت الإدارة الأميركية من خلال التسريع في مشاريع الاستيطان في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة، ما يجعل العوائق تزيد في وجه أي مفاوضات تتضمن تفكيك هذه الكتل الاستيطانية، وتفقد الراعي الأميركي صدقيته أمام الفلسطينيين والعرب. إن التنازلات الفلسطينية، التي إن صدقت وثائق الجزيرة، لعبت دوراً حيوياً في مساعدة حكومة نتنياهو في إفشال المشاريع الأميركية، ونجاحها في الخلاص من أي عقاب سياسي، ولو حتى معنوي، ولذلك نرى أن الحكومتين الإسرائيلية والأميركية لا تسمحان لأي طرف، سواء عربياً أو دولياً، في التدخل بالمفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ما عزل الفلسطينيين أمام الإسرائيليين، وجعلهم يواجهون تعنتاً وصلفاً إسرائيلياً من جانب، وضغطاً أميركياً، لإبداء مزيد من المرونة والتنازل عن بعض الثوابت، من جانب آخر. يبدو أن مصير المشروع الأميركي للسلام في الشرق الأوسط أصبح معروفاً، إذ دخل مرحلة الاحتضار، وذلك بسبب عوامل كثيرة، سواء أميركية أو إسرائيلية أو حتى فلسطينية، فبالنسبة للإدارة الأميركية فقد أفقدتها انتخابات الكونغرس الأخيرة، الغالبية الديموقراطية في مجلس النواب، وجعلها تتوانى في التسريع لمشاريعها السلمية في المنطقة، والتركيز على أوضاعها الاقتصادية، والاستعداد للانتخابات الرئاسية بعد أقل من سنتين من الآن، أما الإسرائيليون فهم مستفيدون من التشرذم العربي والانقسام الفلسطيني والخلاص من الضغوط الأميركية، أما الفلسطينيون فهم في وضع لا يحسدون عليه من التمزق والانقسام. منذ أن بدأت المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية بشكل مباشر بين الطرفين في «أوسلو» عام 1991، والعرب أصبحوا في دور الداعمين بشكل غير مباشر، ما حد من الدور العربي في المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، لذلك أعتقد أن التفرد الفلسطيني في المفاوضات مع الإسرائيليين أضعف المواقف الفلسطينية أيضاً، بسبب فقدانها للدعم العربي المباشر، وعدم امتلاكها الخبرة الكافية في مجال المفاوضات الدولية السياسية، فمنظمة التحرير كانت منظمة عمل مسلح، تختلف أهدافها وكوادرها وقيادتها ورؤيتها عن المنظمة التي تنتهج النهج السياسي، فلا يعقل أن يكون القائد العسكري هو نفسه القائد السياسي الذي يفاوض في القوانين وردهات المنظمات الدولية، لذلك أعتقد أن الفلسطينيين لم يستفيدوا من الخبرات العربية السياسية في مجالات التفاوض والقوانين الدولية. بالنسبة للمواقف الدولية، في ما عدا الموقف الأميركي المؤيد بشكل أعمى للمواقف الإسرائيلية، فإنها جميعها ليست فاعلة للتأثير على الإسرائيليين، خصوصاً بعد الضعف الكبير الذي دب في التضامن العربي بعد مؤتمر أوسلو، والهزات التي تعرضت لها المنطقة منذ احتلال العراق، وانعكاسه على القضية الفلسطينية، وتسيد الولاياتالمتحدة للعالم قبل أن تتعثر في احتلال العراق وأفغانستان. أعتقد أن الوثائق المسربة سوف تزيد الانقسام الفلسطيني بشكل كبير، الذي هو انعكاس للانقسام العربي، والعكس أيضاً صحيح، ما أضعف القضية الفلسطينية أمام الرأي العام الدولي الشعبي والرسمي، وكلما كسبت هذه القضية دعماً جراء الحماقات الإسرائيلية مثل حرب غزة، إلا أن الاختلافات الفلسطينية والعربية ما تلبث أن تُعيد لها سلبيتها من جديد، وتفتح الباب أما التدخلات الدولية والإقليمية غير العربية التي دائماً لها تأثيرات سلبية جداً على أوضاع الفلسطينيين ومواقفهم التفاوضية، وهو واقع نراه ونلمسه دائماً. لن يكون هناك استقرار في الشرق الأوسط، إذا لم تحل مشكلة الشعب الفلسطيني بشكل عادل، وتعاد له حقوقه المغتصبة، لأنها مشكلة مصيرية وتتعلق بها أطراف عدة، سواء بشكل مباشر مثل الفلسطينيين الموجودين في الشتات والداخل، أو غير مباشر مثل الدول العربية المجاورة التي تحتضن فلسطينيي الشتات، ولذلك لن يكون من صالح الفلسطينيين تقديم تنازلات بناء على وعود غير مضمونة وغير موثقة من أطراف أخرى، فالشعب الفلسطيني يريد مفاوضاً لا يفرط في مكتسباته، وحقوقه. أعتقد أن قناة الجزيرة أظهرت مدى احترافيتها ومهنيتها كقناة إخبارية عندما بثت الوثائق التي تخص المفاوضات الإسرائيلية – الفلسطينية والتنسيق الأمني التي حصلت عليها، لتظهر للرأي العام حقيقة ما يدور بين الطرفين، من جانب، ولتترك المجال للطرف الآخر بنفي أو إثبات صحة هذه الوثائق، أو حتى مقاضاة القناة إذا ضلّلت أو زوّرت، ولكن يبدو أن السلطة الفلسطينية تحسست بشكل كبير من هذه الوثائق، وإلا لماذا هذه الضجة من نشرها؟ السؤال المطروح هو: ما انعكاسات تسريب وثائق المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، والتنسيق الأمني بين الطرفين على الرأي العام الفلسطيني والعربي؟ وما قدرة هذه الوثائق على التأثير في مجرى الأحداث مستقبلاً؟ وهل بالفعل سوف نشهد شرق أوسط جديداً؟ أكاديمي سعودي.