إنتظرت الساحة الأدبية في الجزائر طويلاً لتحتفي بصدور أول مجموعة قصصية للكاتب والمثقف الجزائري الساخر والمتميز السعيد بوطاجين، الذي تثاقل مدة تزيد عن الخمسة عشر عاماً قبل أن يلقي للقرّاء بأول كتاب له. والواقع أن هذا الحدث كان منتظراً من بوطاجين منذ منتصف الثمانينات بالنظر إلى تميز ما كان ينشر من قصصه أو يقرأه في الأمسيات الأدبية، مقارنة بما كان ينشر ويطبع وقتها، بل وحتى قبل ذلك من قصص لكتّاب جزائريين شباب. وأخيراً يخرج السعيد بوطاجين - كما جاء في كلمة الروائي الطاهر وطار - "من باطنه لا ليرى الدنيا، بل لتراه". تضم المجموعة التي تحمل عنوان "ما حدث لي غداً" تسع قصص طويلة، وتقع في نحو خمس وسبعين صفحة، وقد صدرت عن منشورات "التبيين" التي يخصصها صاحبها الطاهر وطار رئيس جمعية "الجاحظية" للأعمال الإبداعية والفكرية لشباب العربية في الجزائر. تتمحور قصص المجموعة التي كتبت ما بين عامي 1986 و1996 حول همّ أساس وهو وضعية الإنسان في ظل ثلاثة أبعاد شديدة التأثير على حياته ومساراته وهي: السياسة والمجتمع والثقافة. ويبدو البعد السياسي في المجموعة من خلال مأساة عبدالله اليتيم في مواجهة قوانين جائرة، يطبّقها قضاة فاشلون، مما يفضي إلى محاكمات شكلية تكال فيها التهم من دون براهين ولا يسمح للمتهم بالدفاع عن نفسه. وعبدالله ليس خارجاً على القوانين بوصفها شرائع تفصل بين الحق والباطل، بل هو عدو القضاة اذا كانوا على صورة من يتهمه عن غباء، وبنيّة مبيّتة في معاقبته، لمجرد ان تكون ثمة عقوبة ما دام ثمة متهم. ويبدو ان هذا لم يكن موقف عبدالله اليتيم الشخص، الحالة المنفردة، بل هو موقف الإنسان العربي في حالات تتكرر يومياً وفي كل مكان داخل "الثكنة الكبيرة التي ... يسمونها الوطن العربي"ص10. غير أن هذا الموقف لا يكاد يتبلور انطلاقاً من قناعات سياسية محددة، أو إيديولوجية مضادة، بل هو مجرد رد فعل عنيف يتخذ، في الغالب، طابعاً سخرياً دونكيشوتياً، عن واقع ليس الإنسان المقهور في بعض البلاد العربية، مسؤولاً عنه، فيقدمه بوطاجين في هذه الصورة المقلوبة، والتي يكون فيها العزوف عن منصب الوزير او رئىس الجمهورية حالة عادية: "حتى مهنة رئىس الجمهورية بدت صعبة المنال"ص55. وتكون الرغبة في الإنتحار المعلنة صراحة حدث عرضياً لا يكاد يثير انتباه أحد، وذلك ما ينذر بحالة من التفسخ العام والموت النهائي للشعور بالآخر، والإنتماء إلى الجماعة. وعندما تصل الأمور الى هذه الدرجة تغدو الظاهرة اكبر من المأساة، بل تتحول، في ظل شعور حاد بالإحباط والقنوط، الى كوميديا او عبث حقيقي يقتل كل شيء في الإنسان. وهنا لا يبقى للمسمّيات من معنى، او على الأقل، تفتقد معانيها حين تفتقد وظائفها. والسائد في هذه الحال، وخلافاً للأعراف المنتشرة بين المجتمعات الإنسانية المحترمة، حيث لا ينال الوظائف المهمة إلا مَن يصلح لها فعلاً ويكون جديراً بإعطائها معناها الحقيقي، وفي وضع كالذي يصفه بوطاجين، يموت الفاشلون والسفلة كمداً لأنهم يخفقون في تحقيق أبسط الأشياء كمنصب رئىس جمهورية او وزير، اي معنى بقي للأشياء وأي وظائف بعد ذلك؟ بل أي منطق يتقبل هذه الصورة المتناقضة المعكوسة؟ وينال الإنسان في هذه المجموعة قسطاً من المعاناة الإجتماعية جراء الحيف الذي يمارسه الواقع الإجتماعي والقوانين ضد بعض المغلوبين الذين لا يجدون بداً من الإستسلام لحرارة الواقع والرضى به عن صغار وقلة حيلة، وهو ما ينفذه "يعقوب" في قصة "أعياد الخسارة" التي تتحول إلى إدانة صارخة لجور القوانين التي تجبر عاملاً بسيطاً في الميناء أصيب بكسر على الموت تحت رحمة البطالة والجوع والتنكر لحقوقه في التعويض عن طرده من العمل. لكن الجور يزداد ضراوة في تلك القوانين التي تصنعها الأعراف والتقاليد الإجتماعية وهي تحتمي بالمرجعيات التي تزعم أنها عقيدية، حيث تتبدى مأساة يعقوب عارية لم تغنها حيل المداراة والأكاذيب "البيضاء" من أن تظهر للناس صبيحة عيد الأضحى، عندما يضطر إلى ذبح ديك بدل كبش، كما فعل جيرانه ميسورو الحال ليثير ذلك ضحكهم منه وينتهي الأمر بانتحاره مشنوقاً معلقاً كأكباش الأغنياء في تلك الصبيحة. ومن وجهة نظر الكاتب، فإن "يعقوب" لم ينتحر، وإنما قتله نفاق الناس ورياؤهم حين أرادوا للعيد أن يكون دائماً "سيداً متعجرفاً يتظاهر بالتقوى، يدخل الديار قسراً وينتهك أعراض الفقراء طالباً الفدية، يعرّي البئر المغطاة"ص27. أما الوجه الآخر لمأساة الإنسان العربي فهو ثقافي، وإدراكه لا يكون إلا بعين المثقف ووعيه، ولم يكن ردّ الفعل هذه المرة، كما نقف عليه في قصة "السيد صفر فاصل خمسة" صراخاً ولا قنوطاً، وإنما ظل يحتفظ بمقدار كبير من السخرية التي هي نتيجة حتمية لتراكم ألوان شتى من المآسي. وقلما يجتمع لدى كاتب عربي اليوم مثل هذا الأمر. ومن حيث الآثار، لا تبدو المأساة في وجهها الثقافي هذا أقل منها في وجهها السياسي، ومع ذلك فإن السعيد بوطاجين يأنف من المصارحة ويختار أن يحشد لعرض آلامه ومآسي هذا الإنسان العربي الشقي بوجوده وسلالته وانتماءاته أقصى ما يستطيع من المشاهد الكاريكاتورية الضاحكة الباكية في آن واحد. وهل ذلك مجرد هروب؟ وأي نوع من الهروب هو؟ لا يبدو بوطاجين مثقفاً انهزامياً، على رغم حجم الإحباط الذي تظهره القصص، ولا يبدو متخوفاً من نظام سياسي يضطهد الأفكار والمثقفين والأقليات، وفي وضع كهذا يتحول عدم الإكتراث الشامل وتتفيه كل ما يزعم القيمة من ذاته إلى قاعدة تنبني عليها كل الأطروحات المضادة، وتتقلص المسافة بين المعقول واللامعقول وعندها لا يظهر المثقف الذي يحيا في زمن هو "اسفنجة ملقاة على الطريق العمومي"ص34 ومدينة "تقدس الجهل وتعبد المال اكثر من الله"ص39، لا يظهر سلبياً بالمعنى المتداول، بل هو إيجابي عندما أدرك عبثية اتخاذ مواقف ما كانت توصف بالإيجابية، وهذا ما يكشف عن الإنهيار الشامل، حين تتداعى آخر قلاع المجتمعات الإنسانية ممثلة في وعيها الثقافي. هل مات الوعي؟ في لحظة تداخل هي أشبه بالهذيان أو الهلوسة ينتفض أحد معالم الوعي في ذلك الإنسان الذي كفّ عن التفكير بإيجابية تحت صدمة ذلك الإنهيار الشامل، فإذا قضايا العرب المصيرية تطفو - عرضاً من دون قصد - من خلال رص الكلمات المركزية فيها: فلسطين، الصهيونية، القدس ... الموت هنا، موت الوعي وموت القضية لا معنى له، لأن الموت الذي لا يقطع الذكر وحب الأشياء والقيم المتأصلة في الإنسان، بعث وحياة متجددة، لذلك فنموذج المثقف الذي قدمه السعيد بوطاجين يملك هذه المقدرة على الإحياء، حتى في عتمات اللاوعي والإحباط، كلما لاحت للموت بوادر. ويفيض صوت الأنا على قصص السعيد بوطاجين، الذي يصرّ على أن تظل أناه حاضرة تمارس التفكير والوعي من الداخل وقراءة الأشياء وتفكيك العلاقات الخارجية، حيث لا يتشكل العالم إلا من الداخل، من الذات التي تسعى، مسلحة برؤيتها الخاصة، إلى هدم كل شيء يسهم في خلل البنى العامة الكلية للإنسان والمجتمع والنظام والكون، ثم طرح ما يتشكل انطلاقاً من ذلك الوعي الداخلي والرؤية الخاصة بديلاً، وهذا يستدعي إعادة تنظيم جديد للمفاهيم المتراكمة التي أفرزت علاقات قادت الأفراد والمجتمعات العربية إلى حالة من التخلف والإنهيار الكلي والشامل. وعلى صعيد اللغة، يحاول بوطاجين تكسير الرتابة وتجاوز المدلولات القاموسية الثابتة ونحت معان جديدة للألفاظ. إنها لغة تتعدى حدود المجاز لتخلق هوية خاصة يمتزج فيها العبث بكل شيء والدعوة الصارخة الى قلب السائد رأساً على عقب لتستوي الأمور على النحو الذي يريده صوت الكاتب ويتمثله وعيه الخاص. واللغة في المجموعة تصرّ على النظرة المقلوبة لنواميس الحياة والمجتمع والفكر، هي ساخرة الى ابعد الحدود، لكن هذه السخرية تنطوي على مأساة حقيقية تتعاظم في الإنسان منذ بداياته الأولى في الحياة.