أثار مقال لصلاح عيسى في عنوان "اشكاليات حركة مقاومة التطبيع" في السابع من تموز يوليو الجاري جدلاً واسعاً، علماً أنه دعا في هذا المقال أنصار الحركة الى مراجعة شاملة تحقق أهدافها، في ضوء المتغيرات التي لحقت بالواقع المحلي والاقليمي. وتزامن نشر المقال مع مواجهات عدة شهدتها القاهرة، حيث دعا معارضو التطبيع الى فعاليات شعبية مضادة لمؤتمر السلام الذي نظمته جمعية "القاهرة للسلام" العضو في "التحالف الدولي من أجل السلام" والمعروفة باسم "جماعة كوبنهاغن"، وتبادل المعنيون بالقضية الهجوم والاتهامات واصدار التوصيات والقرارات. ونشرت صحف حزبية ومستقلة مقالات رداً على عيسى كانت في جوهرها تعبيراً عن رفض الحديث عن مراجعة مطلوبة أو تطوير مرغوب فيه، على خلفية أن حركة مقاومة التطبيع لم يعلُها الصدأ أو يصبها الوهن أو العصاب، وان ما يردده عيسى ليس أكثر من محاولة للالتفاف على الحركة. من جهته تولى عيسى الرد على معارضيه، فأكد على موقفه الرافض من التطبيع، غير أنه أوضح في المقابل، ما آلت اليه الحركة وتحولها الى "مشتمة" وختم بعض مقالاته بالدعوة الى أن تنتقل "حركة مقاومة التطبيع من مشتمة الى معركة". وعلى رغم عنف الاتهامات التي وجهها عيسى الى أعضاء الحركة، وتوضيحه استمرار موقفه الرافض التطبيع، الا ان ذلك لم يمنع معارضيه من التشكيك في ما كتبه أو محاولة دحض الخلفيات السياسية والفكرية، التي أقام عليها أفكاره ورؤيته الجديدة. وهنا بعض الردود التي تلقتها "الحياة" على مقال عيسى. تنحصر وظيفة القصف عن بُعد في تدمير الخصم، من دون كسبه، لذا شُغفت بصيغة الحوار بين المتخاصمين التي تبدأ بعبارة "هبْ أن.."، أو "فلنسلّم جدلاً ب...". ذلك أن هذه الصيغة من شأنها تضييق المسافة بين الخصوم في الفكر أو الموقف السياسي، بل إنها تجمعهم فوق أرض واحدة، بدل تحصن كل منهم، بعسكره، والتقاذف من بعيد، مما يشعل مناطق الخصم، ويدمر أجزاء منها، من دون أن يسمح باجتذاب أحد من معسكر الخصم الى المعسكر الآخر، بل يوصد كل الأبواب بين المعسكرين المختلفين، تماماً. ذلك أن معسكر دعاة "التطبيع" يفتقر الى التجانس الفكري والسياسي، فليس كل أطرافه منتفع ب"التطبيع"، بل ثمة من وقع ضحية التضليل وتزييف الوعي، فضلاً عمن جاؤوا الى ذلك المعسكر، على مضض، تحت ضغط الإحباط، أو اليأس، بعد ما بدا من إنسداد أفق استمرار المواجهة مع العدو. عدا هؤلاء واولئك، ثمة من انتسب الى معسكر "التطبيع" نكاية في الطهارة، وإن كان الاخيرون هم القلة. ربما لا تزال صيغة الحوار تلك الأكثر جدوى في الخلاف الدائر حول "التطبيع" الثقافي، الذي أخذ في الاستفحال المطرد، منذ مؤتمر كوبنهاغن، أواخر كانون الثاني يناير 1997 وتجدد الجدل، منذ مؤتمر القاهرة الأخير 5-7/6/1999. افتراض حسن النية إذا كان المستوى السياسي وقع تحت ضغوط هائلة شتى، لا قِبل له بمقاومتها، فرضخ، ووقع اتفاقا جائراً مع الأعداء، على حساب القضية الوطنية، في تراجع اضطراري، فإن القلعة الثقافية غير مضطرة الى الاقدام على الأمر نفسه، ليس لأنها حاملة ثوابت الأمة وقيمها فحسب، أو لأنها غير معنية إلا بكل ما هو استراتيجي، من دون التكتيكي، تاركة الشأن الأخير للمستوى السياسي، شرط أن يخدم التكتيك الاستراتيجية، بل، أيضاً، لأن القلعة الثقافية غير مرغمة على التفريط، أساساً لعدم وقوعها تحت الضغوط نفسها، أو ما يقترب من حجم هذه الضغوط. من جهة أخرى، إذا كان المستوى السياسي وقَّع "اتفاق الإذعان"، مقدماً تنازلات كبيرة، فإن من العبث تقديم المزيد من التنازلات المجانية الى العدو. بل يكفي ما دُفع من ثمن باهظ في هذا الصدد. الى ذلك ثمة اعتراضات جدية على ما سبق للمستوى السياسي أن قدمه من تنازلات. ذلك أن ألف باء الصراع مع العدو، تحتم على المستوى السياسي الحرص على عدم تقديم تنازلات، للوصول الى تسوية معه، فيما ميزان القوى، منذ عقدين من السنين، آخذ في الميل المتزايد لمصلحة العدو، منذ "مبادرة السادات"، خريف 1977، حتى وصل هذا الميل أقصى مدى له، حين فقد العرب حليفهم الاستراتيجي، المتمثل في الاتحاد السوفياتي، الذي انفرط عقده في 1991، بعدما كان "المعسكر الاشتراكي" تقوض، على النحو المعروف، أواخر سنة 1989، ناهيك عن الآثار الكارثية التي تخلفت عن حرب الخليج الثانية 1990 - 1991. أما إذا كانت كل التنازلات التي قدمها المستوى السياسي، فشلت - على فداحتها - في التوصل الى "اتفاق إذعان"، فمن الجنون تعزيز الفشل، بإهداء المزيد من التنازلات المجانية، على حساب القلعة الثقافية. أما الزعم بأن اندفاع بعضهم في خط "التطبيع" الثقافي، ليس إلا من باب توزيع الأدوار داخل الجبهة الثقافية، فغني عن القول ان ذلك يشبه - الى حد بعيد - توزيع الأدوار داخل كتيبة عسكرية واحدة، فبينما تقصف مجموعة من الجنود الأعداء بالمدفعية والصواريخ، ترسل القيادة العسكرية مجموعة أخرى لمهاودة الأعداء. والأنكى حين تقدم المجموعة الأخيرة على "مبادرتها" هذه على مسؤوليتها، تحت زعم "حرية الرأي"، أو "حرية الضمير" أو "حرية السفر" أو من باب "حق الاقلية في التعبير عن رأيها"، كإحدى أهم ركائز الديموقراطية. إن توزيع الأدوار داخل الجبهة الثقافية ضروري جداً، على أن يتكامل هذا التوزيع مع بعضه بعضاً، ولا يتعارض أو يتنافر. فثمة جنود كوماندوز يخترقون خطوط الأعداء، بينما تغطيهم المدفعية والصواريخ، وتعززهم الطائرات الحربية من الجو، والبوارج من البحر. سفن العودة إن "اتفاق الإذعان" غير قابل للاستمرار الى ما شاء الله، فهو ليس، في التحليل الأخير، سوى مجرد هدنة مع العدو، وليس مهاودة له. وشتان بين الحالين. ذلك أن الهدنة - كما هو معروف - تفصل بين حربين، مدة قد تطول أو تقصر، فيما تعني المهاودة الرضوخ الكامل لكل ما يطلبه العدو. وتؤكد التجربة المصرية، بعد "اتفاقيتي كامب ديفيد"، هذا المفهوم، بل إن رئيس سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني، ياسر عرفات، يحاول الإفلات من حال المهاودة، بكل جهده. لأن دوام حال من المحال، لذا تستجد ظروف، محلية وإقليمية وعالمية، تشجع المستوى السياسي على إعادة النظر في "اتفاق الإذعان" والارتداد عنه، والعودة الى حال المواجهة مع الأعداء. ومن الخير ألا يخيب أمل المستوى السياسي، حين يفاجأ بالجبهة الثقافية مقوضة، لا تسمح بالمراكمة عليها. ما يقطع الطريق على مجرد العمل التحضيري، من أجل تجهيز مسرح العمليات للمواجهة. ناهيك عن أن وحدة الجبهة الثقافية، وصمودها، من شأنهما تعزيز موقف المستوى السياسي، بين عقد "اتفاق الإذعان"، والارتداد عنه. غني عن القول إن احتمالات تجديد المواجهة مع العدو الإسرائيلي تفوق كثيراً تصور أن تكون حرب 1973 آخر الحروب بيننا وبين إسرائيل. ولهذا مقال آخر. * كاتب فلسطيني مقيم في مصر.