من بين المجموعات الشعرية الست للشاعر عبدالكريم كاصد، كنت عرفته من مجموعته الثالثة "الشاهدة" دار الفارابي - 1981، وكانت سبقتها مجموعتان لم أطلع عليهما: "الحقائب"، دار العودة، 1975، و"النقر على أبواب الطفولة" بغداد 1978. وأعتقد أن "الشاهدة" كانت علامة بارزة في شعر السبعينات العربي. والآن، ها هما المجموعتان الجديدتان للشاعر: "سراباد" و"دقات لا يبلغها الضوء" دار الكنوز الأدبية. بعد غياب يقارب تسع سنوات من صدور مجموعته "نزهة الآلام" التي لم أقرأها أيضاً، وكان آخر ما قرأت قبل مجموعتيه الجديدتين هو "وردة البيكاجي" 1983. بقراءة "سراباد" و"دقات..." أجدني أعود وأتواصل مع شعر أعرفه، أعرف الأصوات والأضواء والظلال الذي تشكله. أعرف هذا النبض الحميميّ الذي يشيع في روحه. وهذا النسج البديع لعوالم إنسان، أناس، بيوت، طبيعة، حوادث، موت، ذكريات،... عوالم التجربة المعاشة والمقروءة، تجربة الوطن والمنفى ومنفى المنفى. تبدأ مجموعة "سراباد" بنَصّ يوبّخ الشعر الغائب، الهاجر "أتهجرني أيها الشعر"... قبل أن يقودنا الشاعر الى مدينة محكومة بالسراب ومنسوجة من خيوط السراب. فلا ندري ان كانت هي المدينة التي نحن فيها أم التي تجاوزناها أم البلد الذي سيأتي أم هي جبل أو بحر أو... ولكنها الأسطورة أو الخرافة ذات الجذور الواقعية والتفاصيل الحقيقية. تكثر في هذه القصيدة الأسئلة، وما من اجابة. ثمة سرد وايقاع غنائي تساعد "مفاعيلن" على امتدادهما وسلاسة صوغهما. ويطوّع الشاعر البحرَ الكامل في رثاء المدن في عراق الفترة المظلمة وفي رثاء ابن خلدون الذي يتقمص الشاعرُ وجوهاً منه ويستعير بعض سماته، خصوصاً رحيلَه عن دمشق، وكذلك حين يرسم "صورة سلمان" في لوحة ملحمية تذكر بملحمة "سرحان يشرب القهوة..." لمحمود درويش من حيث الإيقاع وبعض الصور، وفي استعادته "سيرة الإنكليزي ابن وبدان"... وحتى في رسم مشهد الجنود العائدين من الحرب في اجازة، أو في اعادة ذكريات الطفولة وزمن الجوع، وبصرف النظر عن التفاصيل فإن قصائد هذه المجموعة مسكونة - من جهة - بالحنين الى ماض يمثله، ربما، البيت الذي تركه الشاعر "هناك... يُزازُ حتى لو نأيتُ... أعرف بابه / ولعلني ما زلت أطرقه هناك / لعلني ما زلت أسكنه / وأنكر كل بيت"، وهي مسكونة، أيضاً، بهاجس قراءة هذا الماضي ومحتوياته ، ورصد المشاعر نحوه، لكنها - من جهة ثانية - مسكونة بالحقد والنقمة والغضب حيال أسباب ومظاهر الخراب والموت التي نجدها تغطي مساحة واسعة من المجموعة، حتى أنه لا تخلو قصيدة من الموت بأشكاله المختلفة. هي قصائد لرثاء الذات والعالم الذي يسكن هذه الذات أو يحيط بها. ففي "دقات لا يبلغها الضوء"، أيضاً، هذا الرثاء، لكنه يقترب هنا من الزمن الحاضر أكثر مما يذهب الى الذكريات. فهو يذهب الى هذه الذكريات في القليل من نصوصه، في فصل الشعراء تحديداً، لكنها ذكريات قريبة في الغالب، ولا تغور الى الزمن الذي تغور اليه قصائد سراباد، زمن البصرة والطفولة الأولى، والبيت الأول - الوطن، والأحلام الأولى. كما أن قصائد "دقات..." لا توغل في غنائية سراباد الجارحة. فهي تميل الى "الواقعية" السحرية، وحين تعود الى الذاكرة، تعمل على تخييلها وتغريبها واعطائها بعداً ذاتياً ولكن في اطار انساني أشمل، اطار ومضمون يميلان الى التكثيف والى ما يمكن تسميته بالاستخلاصات "الحكيمة". وتتعدد مستويات الشعر تعدُّدَ أدوات القصيدة، وتعدُّد مضامينها ومحاور انشغالها، والمساحة الشعورية التي تعبر عنها. فالقصائد، في المجموعتين، تجمع الوزن الى النثر اللاوزن، والإيقاع الغنائي المتدفق الى السرد الموزون والموقَّع والمقفّى أحياناً. وكما تحتشد القصائد بالأسئلة، فهي تحفل بالصور والتضمينات، بالاستعارة والمجاز، وبالتصوير المشهدي، وبالإحالات والحذف. ومن القصيدة الطويلة صورة لسلمان: نحو خمس عشرة صفحة الى القصيدة القصيرة جداً - الومضة السريعة، أو اللقطة أو الرعشة... ومن القصيدة ذات الهم اليومي، الى ذات الهم الوجودي، وما بينهما من هموم ومعاناة تأخذ أشكالاً وتتجسد في صور يصعب حصرها. ومن الخطاب السياسي الى ال"مخاطبات" الصوفية والرؤى الرومانسية، ومداعبة عناصر الطبيعة والتأمل فيها وأنْسَنَتها فصل الأوراق حيناً، وتجريدها تشكيلياً وجمالياً حيناً آخر. هذه التجربة الممتدة الموزعة على سنوات من التشكيل واللعب القاسي في "الملعب الواسع الذي غص بالشعراء" كما يخاطب الشاعر صديقه الشاعر مهدي محمد علي تنطوي على قراءة فذّة، ومن زوايا شديدة الخصوصية، لجوانب من عالمنا المحتشد بالحروب والطغاة والخراب. وبقدر ما في هذه التجربة من "خصوصية عراقية" فإنها تتجاوز هذه الخصوصية الى فضاء عربي، وإنساني. فهي وإن تناولت الهم العراقي، وتفاصيل كثيرة منه، إلا أنها رفعته الى مستوى الهم الإنساني. وفوق ذلك، فثمة تناول لهموم الإنسان العربي، والإنسان بعامة نساء النُزُل في اطار زمن كوني، هو نفسه زمن الشاعر، زمن ذاكرته وخياله، زمن الروح ومتناقضاتها، والرؤى وعماءاتها، زمن الهباء، الموت إذن! في القصائد ذات اللغة والرؤيا الصوفيَّين، تتبدّى الشعرية في هذه الثنائيات المتقابلة: لا تحجب حبك فتنفضح / ولا تبده فتحتجب / لا راحة أهبُها / ولا هبة تريحني / البوح محنة / والكتمان محنة". أو في استعارة روح المعنى كما في أقوال الصوفيين "لا تكن كالحرف تحرف المعنى"، أو في المزج بين رؤى صوفية وواقع شديد البؤس كما في "الرائي" الذي أراد أن يقف على الماء كما يقف على اليابسة، لكنه غرق، وقبع في زاوية من البحر: "تمرّ بي حيتانه وطواطمه وقتلاه / لا أرى من السفن / غير أسفلها / ومن الطيور غير ظلالها / ومن البشر / غير أصواتهم / ومن الماء / غير الماء". كما تتبدى في هذا التوحد مع الأشياء، "جسدي شجرة" أو "الشجرة المصبوغة بالحناء طفولتي"، و"الشجرة قامة، والورقة عين" و"الشجرة منفاي"... الخ. وعدا "المخاطبات" التي نجدها في صور مختلفة وعديدة، ففي قصيدة "مخاطبات" نقرأ اللغة الصوفية ذاتها "جاءتني وقالت: أسعدك من أشقاك"، ولكن الرؤية تختلف عن رؤى الصوفية، فتميل الى "الأرضية"، إلا أنها تحمل روحاً شفيفة، خصوصاً في هذا المقطع "نجمتي أنتِ، لن أسألك الطريق ولن أدلك على ليل، وان شئت أصر نهاراً يخفيك، فلا يهتدي إليك سواي" الذي ينطوي على تجريد الحال وتجسيدها في آن واحد... حيث النجمة المرأة، والنجمة النجمة، لا فرق. هذه سمة من سمات قصائد النثر التي لا يفصل الشاعر - في هذه المجموعة - بينها وبين القصائد الموزونة. فهذه الأخيرة غالباً ما تأتي في اطار من التجسيد والتشخيص، لا من التجريد. إننا إزاء تجربة شعرية ناضجة بما يكفي لتضيف الى الشعر العربي صوتاً بالغ الخصوصية في جوانب كثيرة منها هذه الفجائعية الممزوجة بحس وجودي وبنبرة إنسانية عالية وشفافة، الى روح مشبعة بتجارب وعلاقات يجري توظيفها، وصنعة لطيفة لا يظهر فيها أثر للتصنع أو "التصنيع" الذي تعاني منه الشعرية العربية الجديدة. ليس هذا سوى إطلالة عمومية على عالم تتطلب دراسته قراءته بحثاً وتدقيقاً لا يتوافران لقراءتي هذه.