لم تكن المحادثات التي أفضت إلى اتفاق أوسلو هي المحادثات السرية الأخيرة التي تجرى بين الفلسطينيين والإسرائيليين. فخلال فترة الحكومة الليكودية السابقة سربت مصادر إسرائيلية معلومات عن انعقاد سلسلة من المحادثات الخفية بين حزب العمل ومنظمة التحرير الفلسطينية. ففي 25 أيار مايو الماضي كشفت صحيفة "معاريف" الإسرائيلية النقاب عن توصل رئيس الحكومة المنتخب ايهود باراك ورئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات إلى اتفاق يتضمن خطوطاً عريضة عن استكمال المفاوضات بما في ذلك بحث مستقبل القدس. وقالت الصحيفة آنذاك إن لقاءات سرية اجريت بين شخصيات فلسطينية وأخرى إسرائيلية في عدة عواصم أوروبية. وأضافت ان الرئيس الفلسطيني أبدى استعداده خلالها للتنازل عن مطلب الحصول على جزء كبير من القدسالشرقية مقابل إدارة 150 ألف مواطن فلسطيني يقيمون في المدينة وإعادة السيطرة على عدة مواقع دينية فيها، في حين أكد باراك أنه لن يعارض اعلان عرفات في نهاية السنة عن إقامة دولة فلسطينية عاصمتها أبو ديس الواقعة خارج حدود نفوذ القدس التي نقلت إلى الإدارة الفلسطينية قبل ثلاث سنوات. باراك عقب على هذه التسريبات بالقول: "لا أساس من الصحة لهذا النبأ". ونفى عضو الكنيست الإسرائيلي العمال المعروف وأحد المشاركين في مفاوضات التسوية الدائمة يوسي بيلين وجود اتصالات، وأكد أنه لا يعرف شيئاً عن هذه المعلومات. من جانبها، نفت السلطة الفلسطينية على لسان كبار مفاوضيها صائب عريقات ان تكون أية لقاءات سرية جرت مع أعضاء في حزب العمل في عواصم أوروبية، في حين زاد دنيس روس على هذا النفي بالقول: "عندما تطالعون عناوين الصحف عن صفقات تمت يجب أن تتعاملوا معها بشك بالغ". وعلى رغم هذا النفي، جاءت التصريحات الأخيرة لرئيس الحكومة الإسرائيلية عن وجود خطوط عريضة لاتفاق سلام مع الفلسطينيين حول قضايا الحل النهائي وضرورة النجاح في بلورتها خلال أشهر وإلحاح الولاياتالمتحدة للتوصل إلى اتفاق سريع إلى التصريحات المتفائلة لمسؤولين الفلسطينيين وعلى رأسهم عرفات الذي اعتبر خلال قمته الأخيرة مع باراك أن الوقت حان لشروق "فجر السلام"، لتزيد من حجم الشكوك عن وجود مثل هذه اللقاءات السرية، التي يرجح أن تخرج إلى العلن باتفاق شبيه باتفاق أوسلو 1993. ويذكر ان حزب العمل هو صاحب اتفاقات أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية، وصاحب اتفاق وادي عربة مع الأردن، وهو الساعي بجد لعقد اتفاق مع كل من سورية ولبنان. ويؤكد المراقبون ووسائل الإعلام الإسرائيلية هذه المعلومات. فكتابات زئيف شيف ويوئيل ماركوس وغيرهما من المحللين السياسيين تحمل على الاقتناع بأن ما يقولونه من معلومات عن الفصل الختامي للجولة الحالية بين إسرائيل والسلطة مؤسس على وقائع إلى حد كبير ليس فقط في ضوء ما يأتيهم من معلومات من مصادرها الأولى ولكن أيضاً بفضل التصريحات الصادرة من الطرفين. ويعتبر هؤلاء المحللون ان السرية التي تكتنف "التقدم" تفسر رغبة الطرفين في الإبقاء على مفاوضاتهما بعيداً عن واجهة الصحافة للحيلولة دون إثارة أجواء عدم ثقة بينهما في وقت يحتاجان فيه إلى أجواء تعزز التفاهم. الحقيقة التي يدركها رئيس الوزراء الإسرائيلي تقول إنه لا غنى لحكومته عن الفلسطينيين، وان التقدم في أي من المسارات الأخرى لا بد وأن يسبقه تحقيق تفاهم مع الفلسطينيين. ففي مقابلة مع صحيفة "هآرتس" في 18/6/1999 سألت مراسلة الصحيفة حنه كيم باراك إذا ما كان يعتقد أن القضية الفلسطينية هي لب النزاع العربي - الإسرائيلي فرد قائلاً: "الفلسطينيون على رغم انهم ضعفاء من جميع النواحي، إلا أنهم يشكلون مصدراً لشرعية استمرار النزاع في المنطقة". وتصب نصائح مستشاري باراك في الاتجاه ذاته، فهم ينصحونه بضرورة اجراء مفاوضات متوازية مع الفلسطينيين على التسوية الدائمة تؤدي إلى سلام وتعايش، ومع السوريين واللبنانيين عن الانسحاب من جنوبلبنان. ووجه المحلل السياسي رون بونديك الذي يكتب في صحيفة "يديعوت احرونوت" نصيحة إلى باراك قال فيها: "إذا كان يجب الاختيار بين المسارين، فإن المصلحة العليا تكمن في التقدم بأسرع ما يمكن في المسار الفلسطيني، الأمر الذي يمهد الطريق أمام التسويات السلمية مع كل دول الشرق الأوسط". كذلك كانت توصيات مركز البحوث الاستراتيجية في تل ابيب الذي شجع مباراك على ضرورة التقدم بسرعة على المسار الفلسطيني مع مراعاة تقليص الدور الأميركي وتعامل الطرفين مباشرة ومن دون وسطاء. لهذا لم يكن غريباً أن يحبس باراك نفسه في جدولين زمنيين متلاصقين: أولاً الانسحاب من لبنان وحدده بنفسه "خلال سنة"، والثاني التسوية مع الفلسطينيين استناداً إلى اتفاق أوسلو بعد تمديد سريانه من قبل نتانياهو حتى عام 2000. إذن ستجد الحكومة نفسها مع مطلع العام المقبل في مواجهة جبهة مزدوجة سيكون باراك معنياً بخوضها على المستويين السياسيين. الإدارة الأميركية بدورها في سباق مع الزمن، فهي تدرك ان دخول باراك ديوان رئاسة الوزراء سيترك لها خمسة أشهر قبل تحول البيت الأبيض إلى مقر هيئة آل غور الانتخابية. وتعهدت هذه الإدارة مراراً باطلاق محادثات سريعة ومكثفة بين الجانبين تستهدف انهاء مفاوضات الحل النهائي وتطبيق الاتفاقات النهائية في إطار فترة زمنية محددة. أما مدة مفاوضات الوضع النهائي فلا يجب أن تستمر لفترة طويلة، وقد يتم تحديد موعد مستهدف لانهائها سنة تقريباً من دون أن يكون موعداً أخيراً لأن إدارة البيت الأبيض لا تفضل أن تكون نهاية العملية السلمية محددة بتاريخ معين. ولمح السفير الأميركي في إسرائيل مارتين انديك في 26 أيار مايو الماضي خلال حديثه مع الصحافيين ان "الوقت قصير والمهمة التي يجب تنفيذها كثيرة الجوانب". وضرب انديك مثالاً على إمكان التوصل إلى اتفاقات من خلال لقاءات لا تجرى بالعلن كمشروع أبو مازن - بيلين. وقال انديك إن "يوسي بيلين وأبو مازن أجريا مفاوضات غير رسمية أفضت إلى حل واحد، وأنا على ثقة ان هناك حلولاً أخرى...". وكما يبدو، فإن اتفاق بيلين - أبو مازن تحول إلى أحد الوثائق الأكثر طلباً في واشنطن، لأن امكان استنساخ التجربة ممكن والإدارة الأميركية لا تستغرب حدوث مثل هذه الاتفاقات واللقاءات، بل أن المراقبين السياسيين يؤكدون أنه وقبل أن تقوم إسرائيل بإعداد الطاولة، ستقوم واشنطن بارسال رسالة تقول "إن قضية بيلين - أبو مازن ستقابل بالترحاب". هذان العاملان: رغبة باراك القوية في إزالة الفتور وفي تسويق نفسه محلياً واقليمياً ودولياً من خلال السير المتوازن في مسارات التفاوض، ورغبة الإدارة الأميركية الحالية من جانب آخر تسجيل انجاز لها قبل نهاية العام 2000 يقولان إنه لن يكون بمقدور باراك تحقيق انجازات مقنعة بهذه السرعة تكون جلساتها مضغوطة بالمتابعة الإعلامية والمفاوضات العلنية. والملاذ الوحيد يكون ب"تجهيز" حلول مسبقة من دون أن تمر بالضرورة بأجواء المفاوضات المباشرة نفسها التي ستغرق منذ الجلسة الأولى في قضايا شائكة ومعقدة. وتتضح استراتيجية باراك أكثر من بنود الخطة التي أعدها بشأن اطلاق عملية السلام على المسار الفلسطيني، وهي التي عرضها على الرئيس الأميركي خلال القمة التي عقدها معه في 15 الجاري. وتتضمن هذه الخطة استكمال تنفيذ جزء كبير من اتفاق "واي بلانتيشن" في اعتبار ذلك بادرة حسن نية من جانب إسرائيل، واستكمال تنفيذ مسائل اطلاق سراح الأسرى والمعبرين الأمنيين، وتشغيل ميناء غزة وامتيازات اقتصادية أخرى، مع البدء بمفاوضات الحل النهائي. وصرح مقربون من باراك أنه من الممكن التوصل إلى إعلان مبادئ كهذه خلال ثلاثة أو ستة أشهر، وسيسبق هذا الاعلان "مرحلة استكشاف" تشمل لقاءات بين باراك والرئيس عرفات والرئيس الأميركي. وبهذه المرحلة سيسعى باراك إلى تشخيص كل المشاكل المعلقة منذ عهد حكومة نتانياهو السابقة. كذلك، أشارت صحيفة "يديعوت أحرونوت" في عددها الصادر في 11 تموز يوليو الجاري ان باراك يريد تغيير اسلوب المفاوضات حتى يتم بلورة حلول متفق عليها من خلال المفاوضات، وليس من خلال طرح مقترحات إسرائيلية والحصول على مقترحات مضادة كما كان يحدث سابقاً. من هنا، سيتطلب تنفيذ "خطة المراحل" لباراك القيام بسلسلة مكثفة من اللقاءات من أجل إزالة العقبات التي خلفتها حكومة نتانياهو والتوصل خلال أشهر، ربما مطلع الخريف، إلى مفاوضات مكثفة على الحل الدائم للقضية الفلسطينية.