تهيمن التوترات المستمرة بين اسرائيل وجيرانها على حياتها اليومية والسياسية منذ خمسين عاماً، لكن هناك تصدعات اخرى ذات طبيعة داخلية تكتسب اهمية فائقة في المجتمع الاسرائيلي. وهي تشمل العلاقة بين الديني والعلماني، وبين الفئات النافذة اقتصادياً والفقراء من ضمنهم 250 الفاً من العاطلين عن العمل في الوقت الحاضر واطفالهم الذين يقدر عددهم بنصف مليون، وبين يهود اسرائيل وعرب اسرائيل، وبين اليهود من اصل اشكينازي اوروبيون واليهود الشرقيين او الميزراحي، الذين يُعرفون ايضاً بالسفارديم. ما تفجّر اخيراً بشكل علني هو "المشكلة الاثنية"، موضوع هذا المقال، اذ تبادل مواطنون اسرائيليون الاتهامات بدل ان توجّه الى من يُعتبر "العدو الخارجي". "بعد كل الذي فعلناه من اجلكم" أثارت كل هذا الضجيج الحالي مقابلة اُجريت مع اوري اور 59 سنة، وهو عضو في الكنيست من حزب العمل وجنرال سابق في الجيش الاسرائيلي. ادعى اور، الذي ولد في اسرائيل ومن اصل اشكينازي، انه يكاد يكون من المستحيل، بالمقارنة مع اخرين "ذي طباع اكثر اسرائيلية"، ان "تجري محادثة طبيعية مع اعضاء كنيست من السفارديم لانهم يفسّرون أي انتقاد مشروع بان وراءه دوافع اثنية". وفي اشارة موجهة بشكل اساسي الى اليهود من اصل مغربي، اتهمهم اور ب "الافتقار الى الفضول لمعرفة ما يجري حولهم ولماذا". وعبّر بلهجة متعالية عن احساسه بالخيبة لان "كل ما فعلناه من اجلهم السفارديم لم يجد نفعاً". كما تحدث باستهانة عن عضو الكنيست من حزب العمل شلومو بن-امي، وهو بروفسور مشهور من اصل مغربي، قائلاً: "قبلناه في قيادة الحزب بمنتهى الود". كان رد الفعل الاولي لقيادة حزب العمل، على ما اعتبرته تصريحات ذات طبيعة عنصرية سافرة يمكن ان تترتب عليها نتائج كارثية في الانتخابات، هو ان اور ينبغي ان يستقيل من مقعده في الكنيست. لكن اور رفض الاستقالة، على رغم تجريده من كل المناصب المهمة التي كان يشغلها في كتلة العمل في الكنيست، وادعى انه قد اُسىء فهمه. وبعد وقت قصير على تسلّم إيهود باراك زعامة الحزب من شمعون بيريز، التمس علناً من اليهود السفارديم المغفرة عن "الالم والمعاناة" التي كان حزبه سبّبهما لهم عندما تولى الحكم في السنوات الاولى من بناء الدولة، في عهد بن غوريون. ورفض الكثير من السفارديم هذا الاعتذار بأي حال، لكن بدا ان المقابلة مع اور قد تعيق قنوات اتصال محتملة بين حزب العمل وحوالي نصف الناخبين. اعتذار مرفوض كان ما يزيد على ثلاثة ارباع اليهود في فلسطين قبل اقامة دولة اسرائيل من اصل اوروبي، لكن في اعقاب موجة الهجرة الكبرى من بلدان الشرق الاوسط في الخمسينات، اصبح اليهود، من اصول شرقية، يؤلفون نسبة 5،55 في المئة من مجموع السكان بحلول نهاية الستينات. لكن الفئات المتسلطة في المؤسسة الحاكمة لا تزال اوروبية. وأشار باراك الى "ألم ومعاناة" المهاجرين، لكن ذلك لم يكن مجرد معاناة اقتصادية. فوراء شعارات "دمج جماعات السكان" التي كانت تدعو الى دمج القادمين الجدد في المجتمع الاسرائيلي، شعر اليهود الشرقيون بتحطيم كبريائهم واضعاف الاطر العائلية التقليدية وعاداتهم الدينية والاستهزاء بها. ولفتت حركات احتجاج، مثل حركة "الفهود السود" في القدس 1973، انتباه الرأي العام الى معاناة الفئات المحرومة من السفارديم، لكن مشاعر العداء المتأصلة تجاه ما كان يُعتبر هيمنة الاشكيناز - حزب العمل تجلت على صعيد انتخابي في 1977. ساعدت اصوات ابناء وبنات المهاجرين الشرقيين الساخطين، للمرة الاولى، على وصول حكومة يمينية بزعامة مناحيم بيغن الى السلطة. كما لم يكن بمقدور بنيامين نتانياهو ان يفوز بالسلطة قبل سنتين من دون هذا الدعم. ففي مجتمع يمتاز بفجوة اجتماعية - اقتصادية اكبر مما عليه الحال في معظم البلدان النامية، تعكس انماط تصويت الناخبين في اسرائيل على رغم ذلك ميولاً اثنية، بل تكاد تكون قبلية. هكذا، في أفقر البلدات الجديدة الواقعة في الاطراف، حيث تتفشى البطالة ومعظم الناخبين هم من اليهود الشرقيين، حقق المرشحون اليمينيون فوزاً ساحقاً في الانتخابات الاخيرة. كيف كانت حظوظ اليهود الشرقيين في مجالات الحياة التي تقرر موقعهم في المجتمع الاسرائيلي، اخذاً في الاعتبار نقطة الانطلاق غير المتكافئة بالنسبة الى معظم المهاجرين الاوائل؟ لقد احرزوا تقدماً في الحياة الاقتصادية، لكن عدد السفارديم الذين يعيشون تحت خط الفقر، وسط العاطلين والعاملين باجور متدنية، يفوق عدد الاشكيناز. يشغل عرب اسرائيل ادنى درجات السلم الاقتصادي. من جهة اخرى، حقق السفارديم بالتأكيد مساواة في التمثيل السياسي على كل المستويات، المحلية والوطنية. واستطاع نتانياهو ان يعلن اخيراً بفخر انه للمرة الاولى اصبحت غالبية وزراء الحكومة من السفارديم. كما انهم احرزوا تقدماً في التعليم، وهو بالطبع مفتاح الوصول الى مستقبل اقتصادي افضل. ويدعي احد الخبراء ان الفجوة الاثنية في التعليم تضيق بمعدل 2 في المئة سنوياً وستختفي خلال 15 سنة. لكن هذا التكهن لا ينعكس في الاحصاءات الرسمية او في تحليلات معظم الخبراء. فهذه تبيّن مثلاً انه في الوقت الذي كان فيه اليهود من اصول شرقية يؤلفون عام 1993 نسبة 57 في المئة من الفئة العمرية 25-29 سنة، فانهم لم يشكلوا سوى 3،26 في المئة من طلبة الجامعات، وحتى نسبة أقل في مرحلة الدراسات العليا. وتُظهر الارقام حسب ما يبدو ان الفجوة تتقلص لكنها لا تتلاشى اطلاقاً. وفي ظل الازدهار الاقتصادي استثمرت حكومتا رابين وبيريز بكثافة في قطاع التعليم، بينما يعاني الاقتصاد في عهد نتانياهو الركود وتوجّه اولويات الموازنة الى الفئات الدينية المتطرفة والمستوطنات في الاراضي المحتلة. وتكمن المفارقة في ان الكثير من الناخبين قد يتمسكون في الانتخابات المقبلة بتقاليد الاقتراع وفق الميول الاثنية التي لا تتوافق بالضرورة مع مصالحهم الفعلية. قبائل تائهة ومحرومة تساءلت غولدا مائير ذات مرة علناً، في إشارة الى الهجرة الجماعية من المغرب وبلدان عربية اخرى، "هل سنتمكن من رفع هؤلاء المهاجرين الى مستوى حضاري لائق؟". ووصفهم اسحق بن زفي، وهو ثاني رئيس لاسرائيل ايضاً من حزب العمل وباحث في اليهود الشرقيين، بانهم "تلك القبائل التائهة والمحرومة". واعتبر مراقبون كثيرون ان اوري اور لم يكن يعبّر الاّ عن اراء "الغالبية الساحقة من الاشكيناز في اسرائيل". وحسب رأي احد الخبراء، البروفسور سامي سموحا، فان "معظم الاشكيناز يعتقدون انه ليس هناك اي مشكلة ولم يعد هناك اي تمييز، بل مشاعر حرمان غير مبررة فحسب، ومجرد ذكريات تتسم بالمرارة". ويرى سموحا في الواقع ان هناك تكريساً "لبنية تقوم على عدم التكافؤ الاثني في المجتمع الاسرائيلي". ورداً على اور، خاطب نتانياهو السفارديم من منبر الكنيست قائلاً: "نحن انتم، وانتم نحن". احسب ان هذا السياسي من حزب العمل لم يتصرف بحكمة عندما اطلق التنين الاثني من قمقمه وجعل نفسه هدفاً سهلاً للمنتقدين، الاّ ان التنين لن يتلاشى بمجرد مرور الوقت. لكن اور لم يسهّل على المعارضة التصدي لاختبارها الحقيقي: البرهنة للناخب ان الحكومة الحالية مناهضة للسلام ومناهضة للوفاق الاجتماعي في آن. وللأسف، لا يبدو حزب العمل مقنعاً على أي من الجبهتين. * رئيس تحرير مشارك لمجلة "فلسطين - اسرائيل".