بعد الافتتان الذي مارسه الفن الافريقي في فرنسا في مطلع القرن العشرين اذ سحر عدداً من الفنانين امثال فلامينك ودوران وماتيس وبيكاسو تبعاً لتعبيره القوي وخطوطه الصافية، يعود هذا الفن الى الواجهة منذ فترة في باريس عبر المعارض المخصصة له والمزادات العلنية والمبيعات. في مطلع السنة الجارية، كان اول هذه المعارض لتماثيل السنيغالي عثمان سو الضخمة على "جسر الفنون"، وثانيها في "سيتي دو لا موزيك" الذي جمع للمرة الاولى مئة قيثارة من منطقة البحيرات الكبرى الواقعة في وسط القارة الافريقية مظهراً تنوع هذه الآلة البسيطة التي تزخر بخيال غني ومعقد تجاه العالم حيث الموسيقى تحاور قوى العالم الظاهرة والخفية. وفي معرض ثالث، قدمت صالة "داتون هوردي" تماثيل قبيلة "تيكي" الآتية من مجموعة روبير وراوول لوهوار البارزة للفن الافريقي. وقد يلقى فن هذه القبيلة اهتماماً واسعاً اليوم لدى جامعيه وأصبحت اسعاره مرتفعة جداً في السوق الفنية. وخلال الصيف وحتى نهاية شهر أيلول سبتمبر المقبل، تعرض بلدية باريس في مقرها اعمال نحات سنغالي كبير هو مصطفى ديميه الذي توفي العام الماضي عن 46 عاماً، وعرف شهرة دولية في السنوات الاخيرة من حياته فحصل سنة 1992 على الجائزة الاولى لمعرض داكار، ومثل السنغال في معرض البندقية سنة 1993 وفي معرض جوهانسبورغ سنة 1997. وفي تلك السنوات، كان ديميه يسكن جزيرة غوريه، قرب العاصمة داكار، ووحيداً كان يعمل في برج مراقبة برتغالي مواجه للمحيط الاطلسي حيث كان ينحت تماثيله انطلاقاً من تجميع "اشياء" وجدها على الشاطئ - مصدرها البحر - ليصل بها الى اشكال بسيطة، تحمل تجريداً طبيعياً. وكان ديميه، بعد اكمال دراساته، تبع تكويناً، في مركز حرفي، في تجارة الآبنوس والاثاث وفي النحت، وبعد مواجهة تراتب عائلته القاسي، قرر ان يتفرغ للنحت. وكان هدف بحثه اعادة اكتشاف الجذور الحضارية والروحية التي هدمتها في السنغال الديانات والاستعمارات اذ كان يعتقد ان الانسان هو سليل الاجيال السابقة ويرى ان "المادة المعثور عليها" والنحت يحملان الانسان على العودة مجدداً الى جذوره. ومن جهة اخرى، سمحت له رحلات متتالية، عبر منح حصل عليه، الى مالي وبوركينا فاسو وغانا وتوغو وبينان ونيجيريا سمحت له في اكتشاف أفريقيا والتعرف الى الفروق القائمة بين تلك الدول. أخذ مصطفى ديميه، في فنه، مسافة كبرى من التقليد وكان يفترض ان العلاقات مع الغرب يجب ان تتم في الاتجاهين: فإن تمكن الفن الافريقي، في حالات عدة، من تنشيط الفن الغربي فلماذا لا يمكنه ان يستلهم بدوره الابحاث الطليعية في أوروبا والولايات المتحدة؟ كان يأمل بأن تجد أفريقيا فناً خاصاً بها، له نظرته في استخدامه لغة عالمية. وجاءت تماثيله بعيدة عن المفهوم الاثني، مستقية مصدرها من الثقافة الشعبية السنغالية ومتحررة منها في الحين نفسه. اعماله الخفيفة للغاية والاثيرية ولدت من ملح ودم الاطلسي ليس فقط لأنه كان يجد مواده على شواطئ جزيرة غوريه وبين صخورها بل لأنه كان يستمد من المحيط قوة إلهامه وخفته وعظمته. ويقول: "هنا، انا في الموجة". وما احبه النحات السنغالي في الاخشاب العائمة وقطع المراكب المخلوعة من العواصف التي كان يحتفظ بها في خيمة، على شرفته، هو "حكاية الماء على الخشب" كالتي احتفل بها الشاعر والكاتب ليوبولد سيدار سنغور، على طريقته، عندما قال: "ولكن الزورق سيولد ثانية من زهرات نينوفر المجاج، ليطفو فوق نعومة الخيزران، في صباح العالم الشفاف...". مصورات شعرية تستعير موادها من الطبيعة، تجميعات هشّة انجزت بالخيطان والخشب المنحوت في البحر، بالحبال والاسلاك الحديد، هكذا تظهر تماثيل مصطفى ديميه خفة الوضع الانساني العابرة.