في السنوات الأخيرة كان أهل المسرح الجاد ينظرون بشيء من الحس والضيق الى مسارح الشونسونييه المنتشرة والتي يقبل عليها الجمهور، في وقت يبتعد عن ارتياد المسرح الكلاسيكي. وسنة تلو سنة كان وضع مسرح الشونسونييه يصاب بالعدوى نفسها فيبتعد عنه الجمهور تدريجاً واليوم يواجه هذا المسرح المأزق نفسه الذي سبقهم اليه أهل المسرح. ونتيجة ذلك تراجع عدد فرق مسرح الشونسونييه ومكثت قلة من هذه الفرق تعمل في الشكل المطلوب وعلى رأسها فرقة مارك قديح التي تعتبر اليوم من أبرز فرق الشونسونييه. هذا المسرح العريق الذي أطلقته في الستينيات مجموعة من الأسماء الفنية اللامعة وعلى رأسها الراحلة ايفيت سرسق والراحل غاستون شيخاني والفنان وسيم طبارة "المحتجب" منذ موسمين والذي يحضر الآن عملاً جديداً سيقدمه في الأسابيع القليلة المقبلة. قبل أسبوعين أطلق مارك قديح عمله الجديد "شواز مدني" وهو يحفل، كالعادة باسكتشات قصيرة كثيرة وهذه ميزة أساسية من ميزات مسرح مارك قديح تتضمن اطلالة نقدية عميقة على الواقع الفني والاجتماعي والمعيشي والسياسي والاقتصادي والإعلامي الذي يعيشه لبنان، ولا يعتمد مارك فقط على النص أو الكلمة كما هي الحال عند معظم فرق الشونسونييه الجيدة التي تهتم بالنص وتهمل العناصر الأخرى أو على الأقل لا تعيرها الاهتمام الكافي مثل التمثيل والاخراج والديكور، بل يهتم مارك بكل شاردة وواردة كما يقال. وهو بهذا المعنى يقدم عملاً مسرحياً متكاملاً له شروط المسرح الجاد. وطبعاً من الطبيعي أن يستأثر النص باهتمام خاص. ونص مارك هو من بداية العرض وحتى آخر كلمة، نص متماسك جريء ذكي ولامع ولا يتضمن أي حشو أو ثرثرة. ويحمل رؤية فكرية وسياسية والبعض يشبّه نص مارك بنص زياد الرحباني في مضمونه وحبكته وسخريته، إذ أنّه يثير الضحك والمرارة والبكاء على الذات وعلى الأوضاع التي نعيشها، ويطرح المشكلة بجرأة وشمولية. وأهمية نص مارك شمولية القضايا التي يطرحها. ولا يمكن فصل النص عن أداء الممثلين فهو مرتبط بهم ويعطي الممثل دفعاً ويحوّل هذا الآخر هذا الدعم الى عطاء من دون حدود ومن يشاهد الممثلين في مسرح مارك يدرك تماماً الجهد الكبير الذي يبذله كل واحد منهم. ثلاثي معروف بأن له جمهور كبير: ماريو باسيل الذي يملك "كاريزما"، وحضوراً كوميدياً يذكّر بالممثلين الكبار وطوني أبو جودة الموهبة الكبيرة في التقليد وفي التمثيل معاً، وهو بحق أحد أبرز الممثلين في هذا المجال وهو بالتأكيد سيحظى بمستقبل فني لامع. وايلي هاغوبيان الذي أثبت وجوده هذه السنة مع الفرقة وبات من العناصر الأساسية فيها. والصبيتان في مسرح مارك باتريسيا داغر وكارلا حداد تؤديان أدوارهما أفضل بكثير من الماضي وقد تحسّن كثيراً مستوى تمثليهما. مواضيع مسرحية "شواز مدني" كثيرة ومتنوعة محلية وعالمية، فنية وسياسية مضحكة وموجعة، فهي تحذر وترفض وتناقش وتطرح الصوت عالياً لبناء وطن نظيف وجميل.