ثمة أسباب قليلة للشكوى ورئيس وزراء اسرائيل، ايهود باراك يقول في واشنطن الكلام الذي يجب ان يُقال، اذا كان لمسيرة السلام ان تُستأنف، واذا كان لها ان تنتهي بسلام شامل عادل. الرجل اعلن التزامه بكل الاتفاقات التي عقدتها الحكومات الاسرائيلية السابقة، وأعلن عزمه تنفيذ اتفاق واي، والعمل بنشاط للانسحاب من لبنان خلال سنة كما وعد، وبدء مفاوضات جدية مع سورية للانسحاب من الجولان. كل ما سبق صحيح، و"أصحّ" منه عدم الاغراق في التفاؤل، فبواطن الامور قد لا تكون مثل خواتمها. باراك كرر أمام الرئيس كلينتون ان "عمق الانسحاب الاسرائيلي" من الجولان يعتمد على التزام سورية بالسلام، بما في ذلك مكافحة الارهاب، واقتسام موارد الماء. ما سبق قنابل موقوتة، مع ان باراك قال بعد وصوله الى واشنطن انه جاء لينزع فتيل القنبلة التي تركتها السنوات الثلاث من حكم بنيامين نتانياهو. لا يوجد عمق للانسحاب من الجولان او عرض، بل انسحاب كامل او لا اتفاق. وكان أكذب اهل الارض نتانياهو زعم في مقابلة تلفزيونية، انه اجرى مفاوضات سرية مع سورية، واتفق الجانبان على بقاء محطات انذار مبكر اسرائيلية في جبل الشيخ، وهو غير صحيح لأن المُتفق عليه سورياً واسرائيلياً ان المفاوضات السورية مع حكومة رابين توقفت بعد رفض سورية هذا الطلب، وليس معقولاً ان ترفضه مع العمل وتقبله مع ليكود، او مع باراك اليوم. اذا كان باراك يعتقد انه يستطيع ان يحصل على السلام مع سورية من دون انسحاب كامل فهو مخطئ. واذا كان يظن انه يستطيع اقتسام موارد المياه فهو مخطئ مرة ثانية، لأن الاحتلال لا يمكن ان يُكافأ باعطاء المحتل ماء سورياً او لبنانياً. وانما هو قد يتفاوض بعد السلام على حاجته ضمن اتفاق تجاري. ويبقى ظاهر الكلام افضل من باطنه حتى في موضوع الانسحاب من لبنان، فقد نشرت الصحف الاسرائيلية ان باراك اتفق مع وزير خارجيته ديفيد ليفي على الانسحاب من لبنان خلال سنة، حتى اذا لم يتم التوصل الى اتفاق مع سورية. وسبب هذا الانسحاب ليس الاقتناع بعدم فائدته، بل "خفض ثمن المطالب السورية في المفاوضات"، اي سحب الورقة اللبنانية من يد سورية. واذا كان باراك يتعامل مع "ورقة" لبنانية لا مسار مستقل في المفاوضات فهو امر مقلق، ومثله بين اسباب القلق ان باراك حاول في البداية تجاوز اتفاق واي للدخول في مفاوضات المرحلة الاخيرة وعندما رفض الفلسطينيون التجاوب معه، تراجع الا انه عاد في واشنطن ليتعهد بتنفيذ اتفاق واي مع دمجه في مفاوضات المرحلة الاخيرة. بل اننا قرأنا ان باراك درس مع كلينتون "مستقبل ايران" ولا ادري كيف يكون مستقبل ايران بين يدي اميركا واسرائيل، الا ان هذا موضوع يستحق تعليقاً وحده فنبقى مع عملية السلام. مرة اخرى، باراك يريد السلام، وهو افضل كثيراً من نتانياهو. ومرة اخرى السلام ليس في متناول اليد والحذر واجب. قبل ان يذهب باراك الى واشنطن، وقبل الانتخابات وبعدها، التزم خطوطاً حمراً او لاءات تشمل بقاء القدس تحت السيادة الاسرائيلية الى درجة عدم التفاوض عليها، وعدم العودة الى حدود 1967، وعدم تفكيك المستوطنات الاسرائيلية في الاراضي الفلسطينية. وربما زدنا الى ما سبق عدم عودة اللاجئين، فقد قال الرئيس كلينتون رداً على سؤال في مؤتمر صحافي ان اللاجئين الفلسطينيين يجب ان يكون لهم حق الاستيطان حيث يريدون، بما في ذلك حق العودة الى بلادهم، الا ان هذا مستحيل اسرائيلياً لانه يعني تحول اليهود الى اقلية في اسرائيل، وقد تراجع الرئيس كلينتون عن موقفه كما تراجعت السيدة هيلاري كلينتون عن مواقفها، فهي مرشحة لمجلس الشيوخ عن نيويورك، ولم تعد بالتالي تتحدث عن دولة فلسطينية مستقلة وانما عن القدس عاصمة أبدية لاسرائيل. وهنا سبب آخر لعدم التفاؤل كثيراً، فالولايات المتحدة كلها ستكون مشغولة السنة القادمة بانتخابات الرئاسة، والمواقف السياسية الاساسية سيقررها ما يفيد هذا المرشح او ذاك انتخابياً، لا مستقبل السلام في الشرق الاوسط. وفي حين ان الرئيس كلينتون يطمح الى انهاء ولايته الثانية بانجاز تاريخي من نوع السلام بين سورية واسرائيل، فإن نفوذه سينحسر تدريجاً مع قرب انتهاء ولايته، كما ان الضغوط السياسية عليه ستتصاعد، وستصبّ كلها في مصلحة اسرائيل. مع ذلك، الوضع الآن افضل كثيراً منه خلال سنوات نتانياهو العجاف، وثمة اسباب للتفاؤل، الا انه تقابلها اسباب للتريث او الحذر، وقراءة متأنية للتصريحات الصادرة من واشنطن، ربما غلَّبت أسباب الحذر على أسباب التفاؤل.