"أول دخوله شمعة على طوله". هذا المثل الشعبي العربي المعروف ينطبق على ايهود باراك رئيس الوزراء الاسرائيلي الجديد بسبب تصرفاته الأولية ونواياه الغامضة ولاءاته التي رددها عدة مرات عند فوزه في الانتخابات العامة وتجنبه مسايرة الصوت العربي الذي ساعده على الفوز، وأخيراً رد الناطق باسمه على تصريحات الرئيس الأميركي بيل كلينتون بشأن حق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة الى ديارهم. هذه الممارسات "الباراكية" التي تدخل في خانة المناورة السياسية تكشف عن شخصية باراك الغامضة وتأرجح مواقفه بالنسبة الى السلام ومساراته الفلسطينية والسورية واللبنانية كما "تبشر" بمعركة صعبة سلاحها حرب الأعصاب وبالونات الاختبار وعمليات شد وجذب وأخذ ورد ومحاولات خبيثة لفصل المسارين السوري واللبناني ومحاولة اللعب على حساسيات العرب عبر الايحاء بأن الأولوية ستكون للمسار السوري أو المسار الفلسطيني وان أي تقدم على مسار من المسارين سيكون على حساب المسار الآخر. وعلى رغم موجة التفاؤل التي سادت الأجواء العربية والعالمية والأميركية بالذات بعد فوز باراك على منافسه المتعنت بنيامين نتانياهو فإن "عناوين المكتوب" تدفع للحذر الشديد واليقظة والاستعداد لمواجهة سلسلة مناورات وألعاب اسرائيلية تهدف الى حمل العرب على تقديم مزيد من التنازلات وتفريغ مسيرة السلام من الكثير من مسلماتها وشروطها وايجابياتها وحصول اسرائيل على أكبر قدر من المكاسب والفوائد وتحسين صورتها التي شوهها نتانياهو. ولكن غموض شخصية باراك ومواقفه لا يعني أن استراتيجيته بالنسبة لمبادئ السلام ليست واضحة، بخاصة بالنسبة الى الخطوط العامة والرئيسية التي قامت عليها المبادرة الأميركية وقادت الى انعقاد مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 على أساس مبادئ الشرعية الدولية وقراري مجلس الأمن 242 و338 ومبدأ الأرض مقابل السلام. صحيح ان نتانياهو كان متشدداً وصاحب سياسة توسعية متعنتة ترفض الالتزام حتى بالتفاصيل الصغيرة والاتفاقات التي تم التوقيع عليها، ولكنه كان صريحاً وواضحاً في كل مواقفه قبل أن ينتخب رئيساً للوزراء، وبقي ملتزماً بها حتى آخر لحظة سبقت سقوطه المريع مما سهل على العرب اتخاذ موقف مضاد وحاسم ودفع العالم لنبذه والتنديد به وبتعنته المفضوح، ولكن باراك أطل علينا بوجه يوحي بأنه سيتبع سياسة مختلفة ويدفع مسيرة السلام الى الأمام وينهي حالة التعثر التي وصلت اليها خلال السنوات الماضية، فيما يخفي وراء قناعه المصطنع مواقف متشددة تجاه أكثر القضايا حساسية وأهم البنود الأساسية لاقامة سلام عادل وشامل ونهائي في المنطقة، فهو يعلن انه سيعمل من أجل السلام... ولكن أي سلام؟ لقد بدأ باراك عهده بلاءاته العجيبة: لا لإعادة القدس للعرب ولا للدولة الفلسطينية المستقلة ولا لإعادة الجولان والأراضي السورية المحتلة، أي لا عودة لحدود الرابع من حزيران يونيو 1967، ولا للانسحاب الكامل من الضفة الغربيةالمحتلة ولا لتفكيك المستعمرات الاستيطانية أو وقف تمددها الطولي والعرضي اضافة الى لا لعودة اللاجئين الفلسطينيين الى ديارهم، وربط الالتزام بأي اتفاق سلام مع العرب بنتائج استفتاء شعبي يدعو اليه. وقد جرى التأكيد على هذه النقطة بالذات عندما رد الناطق باسم باراك على التصريحات الايجابية والمتطورة للرئيس الأميركي بيل كلينتون التي أيد فيها للمرة الأولى في تاريخ الولاياتالمتحدة حق العودة وإعرابه عن رغبته في أن يكون الشعب الفلسطيني حراً وأن يشعر الفلسطينيون آن لهم ان يسكنوا حيثما أرادوا. وجاء الرد الاسرائيلي ليكشف عن جانب من مواقف باراك برفض هذا الحق مطالباً "بتوضيح من الادارة الأميركية". ومن مؤشرات "الخبث الغامض" أيضاً تحريك الماكينة الاعلامية للترويج لمحاولة القفز على الاتفاقات والبدء بمفاوضات الحل النهائي - وهو ما كان يردده نتانياهو نفسه - او للايقاع بين العرب عبر الايحاء بأن الأولوية ستكون للمسارين اللبناني والسوري على حساب المسار الفلسطيني، أو العكس، مما أثار بلبلة في المواقف ودفع الفلسطينيين وجهات أخرى للعمل على تحريك المسار الفلسطيني أولاً. وحتى التعهد الواضح والمعلن الوحيد لباراك حول الانسحاب من الشريط الحدودي في جنوبلبنان والبقاع الغربي خلال عام واحد لفة "الغموض الخبيث" ايضاً، إذ أنه يخفي وراءه مناورة لفصل المسارين السوري واللبناني ومحاولة جر لبنان الى مفاوضات منفصلة تفجر أوضاعه الداخلية، أو الضغط للتفاوض مع سورية على خطوات تبدأ أولاً بوضع آلية للانسحاب من لبنان قبل البحث بمصير الجولان ومتطلبات السلام، وهو ما تنبه له البلدان وأعلنا رفضه سلفاً، مع العلم بأن مزاعم الرغبة بالانسحاب خلال عام تختفي وراء شروط تعجيزية كشف عنها الاعلام الاسرائيلي أخيراً من بينها ضمان أمن الحدود مع اسرائيل ونزع سلاح المقاومة واقتسام المياه والعفو عن ميليشيا الجنرال لحد المتعاونة مع اسرائيل وتشكيل لجان ارتباط وتنسيق ودوريات مشتركة تحل محل لجنة تفاهم نيسان التي حاولت اسرائيل نفسها من خلال عدوانها الإجرامي الأخير الذي طال البنى التحتية لإبعاد باريسوواشنطن ودمشق وحصر المفاوضات بالجانبين اللبناني والاسرائيلي. ومن مظاهر الغموض الخبيث، أو "الخبث الغامض"، أيضاً حرص باراك على عدم التشاور مع الأعضاء العرب في الكنيست خلال مشاوراته لتشكيل حكومته الجديدة واستبعاد الأحزاب والشخصيات العربية تماماً من صورة المشهد السياسي الاسرائيلي على رغم تعهداته لها خلال المعركة واستجدائه الصوت العربي الذي أسهم الى حد بعيد في الفوز السهل الذي حققه بوجه منافسه العنيد نتانياهو. وأرفق باراك تجاهله للأعضاء العرب بمناورات رخيصة لاستجداء الأحزاب الاسرائيلية الصغيرة، لا فرق بين يمينية متطرفة ودينية ويسارية ومعتدلة، على رغم ان حجمها لا يقارن بحجم الكتلة العربية المتمثلة بأكثر من 10 نواب، الى أن تمكن من التوصل لتشكيلة عجيبة من المتطرفين والمعتدلين ودعاة اسرائيل الكبرى وتعزيز الاستيطان والعنصرية ضد العرب ليضمن الثقة بأكثرية 75 صوتاً من أصل 120، بعيداً عن أي ضغط عربي أو حاجة لدعم الأعضاء العرب عند مواجهته لأي طارئ في الكنيست! هذه العوامل والمؤشرات المستخلصة من ممارسات باراك وشخصيته الغامضة تدعو للحذر واليقظة، يضاف اليها تاريخه الارهابي الطويل والتجارب المريرة للعرب مع حكومات حزب العمل التي شنت معظم الحروب واستخدمت "القبضة الحديد" ضد الانتفاضة وكرست سياسة الاستعمار الاستيطاني منذ قيام اسرائيل حتى يومنا هذا. ومع هذا يبقى الانتظار سيد الموقف حتى لا يستبق المرء الأحداث. فكلام الانتخابات والاستهلاك المحلي قد يختلف عن كلام المسؤولية والواقع عند البدء بممارسة الحكم. كما ان الموقف الأميركي لا بد أن يلعب دوراً حاسماً في المرحلة المقبلة ان على صعيد استئناف المفاوضات على جميع المسارات أو بالنسبة الى اتجاهات ريح سياسة باراك سلباً أو ايجاباً. ولا يخفى على أحد ان إدارة الرئيس كلينتون، لعبت دوراً رئيسياً في اسقاط نتانياهو وإنجاح باراك بمساعدة قوى فاعلة في اللوبي الصهيوني في الولاياتالمتحدة التي تميل لحزب العمل وتشعر بالحرج من مواقف ليكود وتعنت نتانياهو الذي دخل في مواجهة مكشوفة مع الرئيس كلينتون وهدد باحراق واشنطن في وقت بدا الرأي العام الأميركي والعالمي مستاء من السياسة الاسرائيلية ومتعاطفاً - الى حد ما - مع الموقف العربي المعبر عن الرغبة الأكيدة والتصميم على تحقيق السلام ومحاربة الارهاب والعنف والتطرف. ولا يمكن الحكم مبدئياً على جدية الرئيس كلينتون وإدارته، وتجاوب باراك وائتلافه العجيب إلا بعد انعقاد "قمتهما" المرتقبة الاسبوع المقبل في ضوء خطاب رئيس الوزراء الاسرائيلي أمام الكنيست الذي ردد فيه مقولة سلام الشجعان والعمل على تحريك جميع المسارات لانهاء 100 عام من الصراع العربي - الاسرائيلي. فهذه القمة ستكون أول اختبار عملي لمواقف الطرفين، وأول احتكاك مباشر بين الرئيسين ومن خلالهما يمكن تحديد أبعاد صورة مستقبل السلام ومدى التقدم الذي سيحصل وعلى أي مسار، مع الأخذ بعين الاعتبار عدة عوامل من بينها التصريحات الأخيرة للرئيس الأميركي بشأن اللاجئين والتقدم على جميع المسارات وتصميمه على تحقيق مثل هذا التقدم قبل انتهاء ولايته الرئاسية الثانية، حتى ينهي عهده بانجاز سياسي تاريخي، اضافة الى متطلبات النظام العالمي الجديد وقرار إطفاء لهيب الحرائق المشتعلة في العالم ومصالح الولاياتالمتحدة وعبرة كوسوفو على صعيد العالم كله وما تردد أخيراً عن ابلاغ اسرائيل بخفض المساعدات الاقتصادية الأميركية وتعليق المساعدات المقررة 1.2 بليون دولار لتغطية النفقات الأمنية المرتبطة باتفاق واي وربطها بتنفيذه. والأهم من كل ذلك "شكل المشهد العربي" خلال هذه المرحلة الحرجة والدقيقة، وكيفية تعامل العرب مع "استحقاقات سلام باراك" وامكانية التوصل الى موقف عربي موحد وحاسم ومنع الانقسامات وصد محاولات التفتيت وإثارة النعرات حتى لا نردد مرة أخرى ما سبق ان قلناه يوم الهرولة والتفرد بالاتفاقات وهو "أكلوك يوم أكلوا الثور الأبيض"! أما بالنسبة الى الموقف الأميركي فإنه لا بد من الأخذ بعين الاعتبار ان الوقت من ذهب، ولهذا يجب التنبه لمحاولة اسرائيل استخدام هذه الورقة لكسب الوقت والمناورة حتى يقترب عهد كلينتون من نهايته وينشغل الجميع في معركة الانتخابات الرئاسية والاضطرار للرضوخ لإرادة اللوبي الصهيوني، خصوصاً أن نائب الرئيس آل غور معروف بانحيازه لاسرائيل، وأن منافسه الجمهوري الأقوى جورج بوش الابن يتعرض لحملة صهيونية ضارية بسبب تصريح له أكد فيه ان مصالح الولاياتالمتحدة النفطية والاقتصادية لها الأولوية، اضافة لمصلحتها في دعم اسرائيل. ولم تنفع زيارته الأخيرة لاسرائيل في كسب تأييدها بخاصة ان الاسرائيليين على اختلاف اتجاهاتهم يكنون عداء واضحاً لأبيه الرئيس السابق جورج بوش. لكن ما صرح به بوش الابن يمثل عين الحقيقة والواقع لأن السلام، على رغم أنه قرار استراتيجي عربي، فإنه يجب أن يكون قراراً استراتيجياً أميركياً أيضاً، إذا أرادت الولاياتالمتحدة حقاً ضمان مصالحها وتكريس الأمن والاستقرار ومكافحة الارهاب وأعمال العنف وانهاء العداء لسياستها ومعاييرها المزدوجة. كما أن مثل هذا السلام لا بد من أن يحسن علاقاتها مع جميع الدول، بما فيها ايران، ويمهد لحل الأزمات الأخرى في المنطقة، مثل أزمة العراق المستعصية وهو ما أكده مارتن انديك مساعد وزير الخارجية الأميركية أخيراً. حقاً انه قرار استراتيجي، وأي مماطلة أو تأخير في تحقيقه سيثير الاضطراب مجدداً ويحيي موجات التطرف والعنف ويهدد السلام العالمي وأمن الجميع، وأمن اسرائيل بالذات، ومعها المصالح الأميركية. كل ما هو مطلوب سهل التحقيق: العدل وإحقاق الحق وتطبيق مبادئ الشرعية الدولية. * كاتب وصحافي عربي.