من ناحية مبدئية كانت رحلة ارنستو غيفارا إلى موسكو رحلة تقنية، هدفها الاتفاق مع سلطات الاتحاد السوفياتي على ما يمكن أن تقدمه لكوبا التي كانت تريد، في ذلك الحين، ان تنتقل بسرعة من مستوى الثورة إلى مستوى الدولة. على الرغم من ان غيفارا كانت له على موسكو تحفظات كثيرة، من الناحية الايديولوجية على الأقل، فإنه كوزير في حكومة كوبا الثورية، وضع كل تحفظاته جانباً وتوجه إلى البلد - الأم في المعسكر الاشتراكي. مهما يكن، فإن مناخاً ولو محدوداً من الثقة كان بدأ يخيم منذ العام 1959 على العلاقات بين غيفارا وخروتشوف، وذلك بعد اللقاء الرسمي الأول الذي حصل بينهما. من هنا حين توجه غيفارا هذه المرة، كان يعرف أن عليه أن يستغل ذلك المناخ إلى أقصى حد وأيضاً ينسي قادة الكرملين مواقفه السابقة كثوري مناضل، حين كان يعتبرهم خارجين على الاشتراكية الحقيقية. ويبدو ان غيفارا نجح هذه المرة في مسعاه، بل نجح أكثر مما يجب. وكان ذلك النوع من النجاح المفرط ضرورياً في وقت كانت فيه كوبا والعالم كله يعيشان الآثار التي ترتبت على غزوة خليج الخنازير التي أوصل فشلها سمعة الولاياتالمتحدة الأميركية إلى الحضيض، وأوقع اليأس في قلوب الكوبيين المنفيين الذين كانوا هم من رتب الغزوة بمباركة ومشاركة وكالة الاستخبارات المركزية. وكانت تلك الغزوة فتحت عيون الكوبيين جيداً: ادركوا حقيقة الأخطار المحيطة بهم، وأن الجارة الأميركية الكبرى لن تدعمهم أبداً في امان، وان عليهم - انطلاقاً من ذلك - إما ان يهادنوا الأميركيين، وإما أن يتقربوا أكثر وأكثر من السوفيات. وتقرر اتباع الاختيار الثاني: التقرب أكثر وأكثر ناحية موسكو. وضمن هذا الإطار كانت زيارة غيفارا التاريخية الجديدة لموسكو، والتي أسفرت عن صدور بيان مشترك يوم 3 أيلول سبتمبر 1962. من ناحية مبدئية - كما حال الرحلة نفسها - كان البيان نفسه ذا صبغة تقنية: فهو تحدث عن عون تقني يقدمه السوفيات للكوبيين في مجال صناعة التعدين كما في مجال الزراعة، ناهيك عن العون الذي سيقدمونه لهم في مجال الري وانتاج الطاقة الكهربائية. فهل كان هذا كل شيء؟ ربما، ولكن كانت هناك أيضاً إشارة إلى "مساعدة عسكرية"، إشارة بدت هكذا في البيان عابرة ومقحمة، إلى درجة ان كثيرين لم ينتبهوا إليها في الصورة خروتشوف في مواجهة غيفارا. لكن هؤلاء سينتبهون بعد أسابيع قليلة إلى أن هذه الاشارة كانت هي "بيت القصيد". لماذا؟ لأن الرئيس الأميركي جون كنيدي ظهر مساء يوم الثاني والعشرين من تشرين الأول اكتوبر التالي، من على شاشة التلفزة ليعلن للشعب الأميركي ان بلاده تفرض حظراَ شاملاً على كوبا. وكان ذلك بعد أن برهنت صور التقطت بواسطة طائرات الاستطلاع أن السوفيات نشروا فوق الأراضي الكوبية صواريخ موجهة صوب المدن الأميركية. إنها الحرب، إذن؟ هذا على الأقل ما شعر به ملايين الأميركيين. فالخطر الصاروخي السوفياتي الذي طالما حُدثوا عنه وأثار مخيلاتهم ومخاوفهم، وشكل مادة للصحافة والأفلام والكتب، هذا الخطر السوفياتي لم يعد موجوداً لا في المخيلة وحدها، ولا في أوروبا وآسيا وحدهما، بل هو هنا على بعد أميال من الأراضي الأميركية. وكان هذا الخطر وحده كافياً لإثارة الأميركيين شعباً ومسؤولين، واندلعت على الفور تلك الأزمة الشهيرة التي سميت بأزمة الصواريخ. نعرف، طبعاً، أنه بعد أن وصل العالم إلى شفير الحرب، وربما الحرب النووية، آثر الرئيس السوفياتي خروتشوف ان يتراجع، وتراجع وسحب الصواريخ وانتهت الأزمة. ومع الأيام طواها الزمن. لكن غيفارا لم ينس. فهو، المسؤول الذي كانت زيارته لموسكو أوائل أيلول الفائت محرك الأزمة وبداية التعاون العسكري الحقيقي مع السوفيات، أحس أنه قد غُدر به: غدر به الكرملين تحديداً، مرة حين أقنعه الزعماء السوفيات بفائدة وضرورة تصعيد التعاون العسكري إلى درجة نشر الصواريخ، مؤكدين له ان الأميركيين لن يدركوا ما يحدث، فإن أدركوه، لن يكون لهم أي رد فعل عنيف. ومرة ثانية حين بادروا إلى سحب الصواريخ لإنهاء الأزمة