طوال العام 1959 كانت دقيقة تلك اللعبة بين جمال عبدالناصر والشيوعيين، في "الاقليم الشمالي" - سورية - من الجمهورية العربية المتحدة، ولكن ايضاً وخصوصاً في "الاقليم الجنوبي" - مصر -، وكان من الواضح ان جوهر اللعبة هو العلاقة مع الاتحاد السوفياتي، لا مع الشيوعيين انفسهم. فالحال ان العلاقات بين الرئيس جمال عبدالناصر والزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف لم تكن على ما يرام خلال ربيع ذلك العام. ففي شهر آذار مارس كان عبدالناصر وجّه ضربة كبيرة الى الشيوعيين واليساريين عموماً، وأبعد خالد محيى الدين عن ادارة صحيفة "المساء" وارسل الى المعتقل العديد من المثقفين الشيوعيين. وسيقول انصار عبدالناصر لاحقاً ان معظم عمليات التعذيب التي مورست في حق الشيوعيين في ذلك الحين، مورست بغير علم منه. المهم ان خلاف عبدالناصر مع الشيوعيين السوريين والعراقيين بشأن قضية الوحدة ما كان له الا ان يؤدي الى توجيه ضربة الى الشيوعيين المصرييين، على الرغم من ان معظم مثقفي هؤلاء كانوا من انصار عبدالناصر، ومن انصار التقارب معه، بل كان بعضهم يميل الى حل الحزب الشيوعي المصري ودمجه في تنظيم يساري ناصري. غير ان المسألة كانت، بالطبع، تتعدى هذا الاطار الداخلي، حيث ان عبدالناصر رأى في موقف الشيوعيين العرب منه، تواطؤاً بينهم وبين موسكو، خصوصاً وان خروتشوف كان وجه العديد من الانتقادات العلنية لعبدالناصر شخصياً، وهي انتقادات ردّ عليها الاخير بعنف في خطاب شهير القاه في دمشق. اذاً، اندلعت الخلافات بين القاهرةوموسكو، ودفع الشيوعيون المصريون الثمن. لكن عبدالناصر لم يكن قادراً على الوقوف حتى النهاية ضد السوفيات، فهم - في نهاية الامر - يموّلون بناء السد العالي ويشرفون على وضع ما يتعلق به من خطط. وهذا ما اشار اليه - على اية حال - تشي غيفارا حين زار مصر صيف ذلك العام والتقى الرئيس عبدالناصر. من هنا، حين احتفل هذا الاخير يوم السابع من كانون الثاني يناير من العام التالي 1960، بوضع حجر الاساس لبناء السد العالي، ما يعني ان بإمكان اعمال البناء ان تبدأ، لم يفته ان ينوّه وبقوة بالدور الذي لعبه الاتحاد السوفياتي في وصول اشغال السد الى بداياتها المنطقية، متحدثاً بالتحديد عن "العون اللامشروط الذي قدمه هذا البلد الصديق لمصر في مشروعها هذا". وكان من الواضح ان هذه الاشارة تعكس تحسّن العلاقات بين القاهرةوموسكو، وهو تحسن كان لا بد لعبدالناصر من ان يسعى اليه، هو الذي كان حتى في عزّ خلافه مع خروشوف في العام المنصرم، قد اشار الى ان على موسكو ان تلتقط يد مصر الممدوة تجاهها. فاذا اضفنا الى هذا ان انفجار الصراع بين عبدالناصر والبعثيين السوريين، جعل موقف عبدالناصر من الوحدة اكثر ضعفاً من الناحية العملية، اذ بات يتوقع - كما سيقول الكثيرون لاحقاً - انفراط عقد الوحدة مع سورية ان آجلاً او عاجلاً، ما قرّب موقفه من موقف موسكو التي كانت - في الاصل لا ترى فائدة منظورة من هكذا وحدة في ظل الاوضاع العالمية السائدة - يمكننا ان نفهم سر التقارب الجديدة بين القاهرةوموسكو. وهذه الاخيرة ما كان يمكنها على اية حال ان تبتعد عن القاهرة كثيراً في ذلك الحين. من هنا كان لا بد من الاشارة الى ان عبدالناصر راح في ذلك الوقت بالذات يعزز من علاقاته مع دول العالم الثالث، في الوقت نفسه الذي بدأ يعدّ العدة فيه لاتخاذ جملة من القرارات الاشتراكية، التي قدّم لها بتأميم العديد من المجموعات المصرفية 11 شباط/ فبراير 1961. وفي ظل هذا المناخ الانفتاحي الجديد، على القوى الاشتراكية وعلى اليسار، أتى اغتيال المناضل شهري عطية في السجن، واعتبر عبدالناصر والمقربون منه اغتيال ذلك المثقف الماركسي ضربة موجهة الى عبدالناصر نفسه، لأن عطية كان من المنادين بالتحالف مع الشيوعيين وعبدالناصر، ولان عبدالناصر كان في تلك الآونة بالذات، يستعد لاطلاق الشيوعيين واليساريين عموماً، بعد ان وجد في وضع حجر الاساس للسد العالي 7/1/1961 مدخلاً لسياسة جديدة يكون التحالف مع السوفيات اساساً لها، والاجراءات الاشتراكية جوهرها. الصورة: السد العالي