"كل ما هو حقيقي معقول، وكل ما هو معقول حقيقي". كذا قال هيغل، وكذا ذهب مبدأ الحتمية التاريخية عند انجلز وكارل ماركس، وتبعهم ليو تولستوي في تفسيره لمسار التاريخ في روايته "الحرب والسلام". وهو ما يتضمن معنى أنه ما من حركة تفشل، وما من متمرد لم يوفق في تحقيق اغراضه، إلا كانا مقضياً عليهما أصلاً بالخيبة، حتى لو لم يكن بالوسع عزو الفشل الى سوء تنظيم في الحركة، أو الى قصور في شخص المتمرد أو خططه. فالتاريخ لا يكلل بالنجاح الا ما كان مسايراً لأغراضه ومجرى تطوره، ولو هُيئ للناس أن الفشل كان نكسة او ردة، وبالتالي فإنه من الحماقة عند هيغل وماركس وانجلز وتولستوي، وعند هوبز من قبلهم، القول إنه لو كان اتيحت للحركة الظروف المواتية، ولولا انها قُمعت من جانب هذه الجهة أو تلك، أو تعثرت لهذا السبب أو ذاك، لكانت مسيرة البشرية تغيرت، ولكان مجرى التاريخ غير ما هو عليه "وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين". ذلك ان كل ما بوسع الانسان ان يفعله، تتحكم فيه من أسفله تأثيرات القوى المادية، ومن اعلاه ما يسميه هيغل بغرض الله من العالم، فالافراد حتى العباقرة والعظماء منهم، عاجزون عن تغيير مجرى التاريخ، وعن صنعه أو التأثير فيه، إن هم حاولوا عرقلة مجراه، او تغيير اتجاه المسيرة، وجدوا انفسهم في النهاية وقد لُفِظوا وطُرحوا جانبا، وسخر هيغل من مشروع كانط لإحلال السلام العالمي الدائم واستئصال الحروب، باعتبارهما من المستحيلات، مضيفا قوله إن مهمة الفيلسوف اكتشاف مسار التاريخ لا تحويله، وان ما يجعل العظماء عظماء انما هو قدرتهم على التنبؤ بالمرحلة التالية من التطور التاريخي، وعلى تبني الاتجاهات المستقبلية، وتكييف انفسهم وفق اهداف المسيرة. عندئذ - وعندئذ فقط - تَضْحى هذه القلة القليلة شخصيات تاريخية عالمية، حيث اتفقت اهدافهم مع اهداف وارادة "روح العالم" واثبتوا قدرتهم على استكشاف حاجات العصر، والحقيقة اللازمة للعالم الذي يعيشون فيه، وعلى التنبؤ بما هو في رحم الزمان، وما هو في سبيله الى النضج والخروج الى النور. ووافق ماركس على هذه الفكرة عند هيغل، مضيفاً قوله إن دور القائد هو ان يسهم بجهد في دفع المسيرة الحتمية الى الامام في سبيل اختصار الوقت، وتوفير الجهد، وتقليل التضحيات. اما تولستوي فيرى الايمان بالقيادة والزعامة خداع بصر، وان من يؤمن بفعالية "الابطال" و"الزعماء" كمن يراقب مسيرة قطيع من الماشية من دون ان يلتفت الى تفاوت خصوبة المرعى في مختلف انحاء الحقل، أو الى توجيه الراعي للقطيع، فينسب اتجاه مسيرته الى الشاة التي صودف أن كانت على رأسه. هذا المذهب لا يحمل في اعتقادي غير جانب واحد من الحقيقة. اذ ما أدرانا ان فشل الحركة الثورية او خطط المتمرد هو دائما نكسة ضرورية تقتضيها الحتمية التاريخية ومسار الحياة البشرية، وانه بالتالي نعمة في صورة نقمة، "وعسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم". نعم أسهمت نهاية المسيح المأسوية في خدمة نمو المسيحية. ولكن، هل خدم إعدام سقراط رسالته؟ هل تسبب اغتيال احمد كسروي العام 1946 في ايران في ازدهار فكره وانتشاره بعد موته؟. بوسع كارل ماركس ان يتحمس لنشوب ثورات 1848 في اوروبا، وان يُسهم فيها على اساس ما ارتآه من العوامل التي تؤهلها للنجاح في اسقاط النظم الرجعية واقامة النظام الاشتراكي. وبوسعه هو وانجلز، بعد فشلها الذريع ان يشرحا اسباب هذا الفشل وان يعزوا حماسهما السابق الى إغفالهما اعتبارات معينة من الحسبان. نعم، ولكن، ما قيمة النظرية العلمية إن كان سيظل بمقدورك الى الأبد ايجاد المبررات لعدم انطباقها على الواقع؟ وفي نيتي أن أعرض في هذا المقال ثلاثة الوان او امثلة من الفشل، من اجل ايضاح تباين دواعيه: اولا: الفشل الذي تقتضيه الحتمية التاريخية: وهنا تصدق قولة هيغل ومذهب ماركس، وأجد من ابرز الامثلة التاريخية لحالة علي بن ابي طالب في صراعه مع معاوية. تولى علي الخلافة والفتنة قائمة، وكان رجلا بورك له في الدين والخلق، وبورك لخصمه معاوية في السياسة والرأي، وصفه اعداؤه انفسهم بأنه أعبد اهل الارض وأزهدهم وأعلمهم وأخشاهم لله، وانه نعم الخليفة لو صادف أوان الخلافة. غير انه - كما ذكر طه حسين في كتابه "الفتنة الكبرى" لم يصادف أوانها. اذ انه اراد ان يرد الناس الى السيرة التي ألفوها ايام النبي والشيخين، فلم ينشطوا وانما رأوه خليفة يدبّر جيلا جديدا لسياسة قديمة، ورأوه غريبا في العصر الذي عاش فيه، واصبح الاغنياء قادة السخط عليه اذ علموا انه لن يقرّهم على ما هم فيه، ولن يلبث ان يحاسبهم على ما جمعوه من المال، او يأخذ عليهم طريق المزيد، فلم يعد لهم مطمع في النفع على يديه وخانوه وناصروا اعداءه. فمأساته اذن تتلخص في انه، بمثاليته وتقواه وتشبثه بما يعتقد انه الحق، لم يتمش مع الروح الدنيوية المادية للعصر الذي عاش فيه ومع حاجات ذلك العصر وتطلعات رجاله. فالدنيا عنده دائما، حتى اثناء خلافته دار ممرّ لا دار مقرّ، فإذا وهو يتقرب الى الله بدينه اغضب مريدي الدنيا بتتبّعه لعوراتهم وبسياسته اياهم بالشدة. وكانت العرب بعد فتوحات عهدي ابي بكر وعمر رأوا في الامصار حضارة راعتهم، وفنونا من الترف سحرت عيونهم وتعلقت بها قلوبهم وجمعوا من الاموال الطائلة ما ايقظ فيهم مآرب كانت غافلة وخلق لديهم حاجات لم تكن معروفة ولا مألوفة. الا قلة قليلة - عليٌ منها - كانت تعيش في آخر الزمان الذي غلب الدين فيه على كل شيء وجاهد عليٌ في خلافته ان يرد الناس الى ما كانوا عليه قبل نعيم الفتوحات، فأخفق حيث يشرفه ان يخفق، وحيث يعيبه ان ينجح. كان اعداؤه يتهمونه بالعجز عن تكييف نفسه وفق مقتضيات الموقف، ولصرامته في تطبيق الشريعة واصراره على رفض الاستماع الى نصح اعوانه بان الزمن تغير عما كان عليه وقت النبي - عليه الصلاة والسلام. فهنا محاولة لتغيير مجرى التاريخ كان مشكوكا منذ البداية في انها ستلقى القبول، ولا يصح الحديث بصددها عما عساه ان تكون الامور عليه لو انها نجحت ولا حتى الاشارة الى اسباب اخرى لفشلها. ثانيا: الفشل الموقت: قد يخرج احد المفكرين أو العلماء بفكرة صائبة فلا تلقى صدى او قبولاً وذيوعا بين الناس، إما لانه لم يدلل عليها التدليل الكافي، ولم يتيسر له جمع الشواهد على صحتها، أو - وهو الاهم - ان المناخ السائد وقتها "كالمناخ الديني أو السياسي"- لم يكن ليسمح بذيوع تلك الفكرة، ولم يكن المجتمع والناس مهيئين بعدُ لتحمل نتائجها في مختلف مناحي الحياة. فاذا بمفكر إثر مفكر، او عالم إثر عالم، يكرر المحاولة فيتكرر الفشل، حتى تتهيأ الظروف المواتية في المجتمع، ويبلغ الناس درجة معينة من النضج والتحرر، فيخرج بالفكرة نفسها انسان آخر، ما يصرح بها حتى تلقى من فورها قبولا وتهليلا واشادة، وكأنما لم يقل بها احد قبله، فتغير مجرى التاريخ، وتحدث انقلابا خطيرا في تفكير البشر، لمجرد ان البشرية باتت وقتها على استعداد لتقبلها. وربما كانت نظرية دارون الخاصة بالتطور والانتقاء الطبيعي وبقاء الاصلح من ابرز الامثلة في هذا الباب. فالنظرية المح اليها بعض فلاسفة الاغريق خصوصا هرقليطس وامبيدوقليس وارسطو، من دون ان تصادف جذورها التربة المناسبة للنمو. ولاحظ امبيدوقليس ان ثمة تطورا تدريجيا يطرأ على الكائنات الحية، وان الأشكال غير الكاملة من المخلوقات تحل محلها في بطء شديد أشكال ارقى واقرب الى الكمال. كما كتب ارسطو عما اسماه بسلم الطبيعة scala naturae بادئا بالنباتات الدنيا، فالنباتات العليا، فالاسفنج، فالاسماك، فالحيوانات الثديية قائلا ان الطبيعة تتطور من الكائنات غير الحية الى اعلى مراتب الحيوان تطورا غير منقطع، غير انه من البطء بحيث يخيل لنا انه لا فارق بين كائنات درجة من السلم وكائنات الدرجة التالية لها مباشرة، في حين يبدو الفارق شاسعا بين الانسان وكائنات الدرجة الدنيا. لم يلتفت احد بعد ارسطو الى ما ذهب اليه هؤلاء ولا كان بالامكان في ظل مسيحية القرون الوسطى ان تسمح الكنيسة لاحد بالقول ان ظهور الانسان كان نتيجة تطور استغرق ملايين السنين. لذلك وُئدت نظرية التطور نحو الف عام، حتى جاء الفيلسوف السياسي الفرنسي مونتيسكيو، فكتب العام 1721 يعلق على اكتشاف حيوان الليمور الطائر في جزيرة جاوة "وكان الناس يسمونه بالقرد المجنّح" ويقول: "إن هذا الاكتشاف يعزز من اعتقادي ان أوجه الاختلاف بين انواع الحيوان يمكن ان تتزايد على مر الايام، او ان تتناقص على مر الايام، وبالتالي فثمة احتمال ان يتحول الحيوان من نوع الى نوع آخر". ثم خطا الفيلسوف دينيس ديدرو خطوة اخرى العام 1753 حين كتب يقول: "لو اننا درسنا المملكة الحيوانية، ولاحظنا ان الحيوانات ذات الاربع قوائم ليس منها ما تختلف اعضاؤه ووظائفها - بخاصة ما هو منها داخل الجسم - بعضها عن بعض، لوصلنا الى النتيجة التالية: انه كان ثمة في الاصل حيوان واحد هو النموذج الاوّلي للحيوانات كافة بعده، ثم تسببت الطبيعة بعد ذلك في اطالة بعض اعضائه او تقصيرها أو تغييرها او مضاعفتها او الاستغناء عنها كلية". ثم جاء عالم البيولوجيا الفرنسي جورج بيفون 1707 - 1788 فلاحظ في كتابه عن التاريخ الطبيعي شَبه الحمار بالحصان وامكن تزاوجهما وتساءل "الا يمكن اذن ان يكون هذان النوعان من اصل مشترك" واثارت نظريته هذه ثائرة كلية اللاهوت في جامعة السوربون التي رأت ان القول بانتماء الحمار الى عائلة الحصان، وبان اختلافه عن الحصان هو مجرد نتيجة لتدهوره قد يؤدي الى الزعم بعد ذلك ان القرد ينتمي الى عائلة الانسان، وان القرد والانسان من اصل واحد"، لذلك بادر بيفون بالاعتذار عن نظرية صلة النسب بين الحيوانات كافة بما في ذلك القرد والانسان، وكتب يقول "انها نظرية خاطئة، فالمؤكد من الكتاب المقدس ان الحيوانات كافة كانت موجودة وقت بدء الخليقة، وان كلا منها خرج من يد الخالق بالصورة التي هو عليها في يومنا هذا". وتلا هؤلاء حشد من العلماء والفلاسفة مثل ايرازموس دارون "جدّ تشارلس". فالعالم الفرنسي لامارك الذي تدين له نظرية دارون في التطور افدح الدين، فمالتس، فجُوته الشاعر الالماني فهيغل، بالاضافة الى ويليام ويلز، وادوارد بلايث، وباتريك ماتيو، وروبرت تشيمبرز، كلٌ يردد ما قاله اسلافه او يضيف اليه من دون ان يجرؤ واحد منهم على تحدي الكنيسة تحديا صريحا، وزلزلة ايمان الناس بما ورد في التوارة عن قصة الخلق. وظل تشارلس دارون نفسه سنوات طويلة بعد وصوله الى نظريته العام 1838 لا يجد في نفسه هذه القدرة على التحدي، وبقي صامتا لا يتفوه بها على مدى عشرين عاما، حتى مع ظهور افكار شبيهة بفكرته في كل من سويسرا واسكوتلندا والنمسا، ساهمت في خلق مناخ جديد في القارة الاوروبية حتى اذا ما وصلت دارون العام 1858 رسالة من عالم البيولوجيا الانكليزي الفريد راسل والاس المقيم في جزر الهندالشرقية، يخبره فيها بنظريته في النشوء والارتقاء، ورأى دارون ان تلك النظرية لا تكاد تختلف في كثير أو قليل عن نظريته هو وان من شأن نشرها ان يجعل كتابه مجرد تكرار لما يذهب والاس اليه. بادر الرجلان في الوقت نفسه بتقديم بحثين الى اجتماع لاحدى الجمعيات العلمية العام 1858 ثم خرج كتاب دارون "اصل الانواع" بعد ذلك في العام التالي 1859. وكان ظهور الكتاب بمثابة فتح سد مائي تجمعت وراءه امواج متلاطمة تريد ان تتحرر وتنطلق لا في مجال البيولوجيا فحسب، وانما في المجالات الاخرى كافة كالاقتصاد والاجتماع والسياسة والفلسفة والدين، بل وحتى الفنون والاداب، بحيث تغيرت معالم الحياة الفكرية بعد دارون تغيرا جذريا عنها قبله. غير اننا نضيف القول ان تلك التيارات التي تدفقت بعد ان فتح دارون امامها السد هي التي ساعدته على الظهور بنظريته واسهمت في نجاحها وفي قبولها على نطاق واسع، في حين فشلت نظريات اسلافه في ان تحظى بالقبول، لا لانها كانت خاطئة وانما لان المناخ العام - كما سبق القول - لم يكن مهيئأ بعد لانتشارها. ثالثا: الفشل الذي لا مبرر له: ثمة افكار وسياسات كان يمكن بكل سهولة ان يقدر لها التوفيق والنجاح، غير انها فشلت فشلا لا مبرر له، ولا يمكن ان نعزوه الى أي تقصير من اصحابها، والى انها لم تكن موافقة لحاجات العصر، أو مسار التاريخ، او الى ان المجتمع والناس وقتها لم يكونوا مهيئين بعد لتحمّل عواقبها. فهى بالتالي مما يتعذر انطباق نظريات هيغل وانجلز وماركس عليها. وسنورد الان مثلين في هذا الباب من التاريخ الاسلامي: أ - صلاح الدين الايوبي 1138 - 1193: لم يكن صلاح الدين - على رغم انتصار جيشه الساحق على الصليبيين في موقعة حطين - من المبرّزين كقائد عسكري او كمخطط استراتيجي، وانما كان تكتيكيا جيدا وهو لم يكن اداريا بارعا، فالظاهر انه لم يول اهتمامه الشخصي للتفاصيل الادارية الا قليلا ومن دون ان يتعدى ذلك محاولة القضاء على المفاسد والفصل في المظالم، وانما كان انجازه الاكبر انه استطاع ان ينشل الاسلام طيلة فترة حاسمة وإن كانت وجيزة من وَهْدة الانحطاط الاخلاقي السياسي، وذلك بفضل ما أوتي من صلاح وطيبة وثبات في الخلق، ودفاعه العنيد عن مُثل اخلاقية رفيعة، وتجسيده هذه المثل في حياته الخاصة واعماله، موجداً بذلك حوله حافزا للاتحاد، كان كافيا لمجابهة التحدي الذي ألقته الاقدار في طريق الامة. إنه لمن الطبيعي حين يقوم امرؤ بانجاز عمل عظيم "كطرد صلاح الدين للفرنجة من فلسطين وبلاد الشام" ان نحسب ذلك بمثابة الهدف الذي وضعه دائما نصب عينيه، غير ان الواقع ان ما ينجزه الانسان من اعمال ليس في غالب الاحيان سوى جزء مما عقد العزم على انجازه في البداية. ولعله لم ينجح في تحقيق ما انجزه الا لانه وضع نصب عينيه هدفا أبعد منالا مما انجزه بكثير. ولم يكن المخطط الاوسع لصلاح الدين الا مخطط رجل يتصف بطموح لا يعرف حدا، او ببساطة لا حدّ لها. واتصف صلاح الدين بالامرين معا. لكن طموحه نشأ عن بساطة خلقه وسداد نظره، فهو رأى بوضوح ان ضعف الجسم السياسي الاسلامي وهو الضعف الذي افسح المجال لقيام الدويلات الصليبية واستمر في افساحه امام بقائها كان نتيجة للانحطاط في الخلق السياسي. وعلى هذا الانحطاط ثار صلاح الدين، فلم يكن هناك في رأيه سوى طريق واحد لوضع حد له، وهو إحياء الكيان السياسي الاسلامي في ظل دولة واحدة موحدة، ليست تحت حكمه هو، وانما تحت إشراف الخلافة العباسية. كان يدرك ان مشكلة العالم الاسلامي ليست سياسية فحسب، بل هي ايضا الى حد كبير مشكلة اخلاقية ونفسية، وان التصدي لها على مجرد الصعيدين السياسي والعسكري، من شأنه ان يؤدي الى الاخفاق في حلها، فهو رأى انه إن شاء الحصول على نتائج فاعلة فمن اللازم ان يعزز الولاء السياسي بحوافز وروادع اخلاقية ونفسية، وكان اصراره على هذا الرأي مثيرا للحيرة والدهشة في نفوس اصدقائه ومعاونيه. كان دَيْدَنه في التعامل مع الامراء والقواد سواء كانوا من الاصدقاء ام الاعداء، هو الصدق في قوله والوفاء المطلق به، حتى مع الصليبيين انفسهم كانت الهدنة تعني له هدنة. ولا يحوي سجله حالة واحدة نقض فيها العهد معهم. غير انه كان عليه من اجل تحقيق هدفه، ان يعزز انجازاته وانتصاراته بخلق تيار خُلقي ونفسي يعمل لمصلحة الامة جمعاء، ويكون من القوة بحيث تتعذر مقاومته. ونجح صلاح الدين في هذا بفضل إلزامه نفسه بمبادئ العدل والاخلاص والصدق وانكار الذات. فهو وإن لم يكن حاكما مدربا ولا قائدا مُلهما، كان المصدر الذي ألهم العناصر والقوى كافة الساعية الى وحدة الاسلام في وجه الغزاة والبؤرة التي اجتمعت هذه العناصر حولها. وتحقق له هذا الامر بسبب القُدوة التي تجلت في شجاعته وعزمه ونكرانه لذاته وتواضعه وكرمه وبساطته ونزاهته. وأوقعت هذه الخلال فيه، أعداءه من المسلمين ومن الصليبيين على السواء في حيرة من امرهم، لانهم توقعوا ان يجدوا الحوافز التي تحركه على غرار حوافزهم، وتوسموا فيه ان يمارس اللعبة السياسية على طريقتهم. كان بريئاً كل البراءة، ولم يكن قادراً حتى على ان يفهم المكر عند الآخرين. وهو ضعفٌ استغله أعداؤه، بل وأفراد أسرته في بعض الاحيان. ثم اذا هم في النهاية يصطدمون بصخرة إخلاصه الموطد العزم على خدمة مُثله العليا. وهو إخلاص لم يتهيأ لأحد أو لشيء أن يزعزعه أو ينتقص منه. وكانت صفاته الخُلقية هذه هي المسؤولة عن نجاحه الباهر، وكان تشخيصه لداء بني قومه ودينه، هو التشخيص الوحيد الذي كان بمقدورهم أن يفيدوا منه. غير أنهم تناسوه، وركزوا بدلا منه، في حديثهم عن الرجل، على انتصاراته وإنجازاته العسكرية. فما مات حتى دبّ الخلاف بين خلفائه، وتمزقت بخلافهم وحدة المسلمين، فذهبت ريحهم، وأحاق الفشل بهم، دون أن يكون لهذا الفشل أدنى مبرر، أو أية ضرورة تاريخية. ب - مدحت باشا 1822-1884 هو مصلح سياسي عثماني. ساهم بدور بارز في خلع السلطان عبدالعزيز فلما ولي رئاسة الوزارة في عهد السلطان عبدالحميد، أعلن الدستور القائم على مبدأ اشتراك المواطنين كافة في شؤون الدولة من غير تفرقة بين عنصر ودين. وحاول إدخال الاصلاحات الكفيلة بالنهوض بدولة تلفظ أنفاسها الاخيرة، واستئصال المفاسد التي استشرت فيها. كان يرى أن أي إصلاح في الدولة العثمانية يجب ان يقوم على أساس من الحكم الديموقراطي على النمط الانكليزي أو الفرنسي. فلا مناص إذن من الاخذ بدستور، ومن إنشاء مجالس نيابية تمثل فيها كل عناصر الدولة وكل أقطارها، فتحكم الأمة نفسها بنفسها، لا أن يحكمها السلطان بإرادته، ويهيمن عليها المقربون الى السلطان وأفراد أسرته ممن لا تعنيهم غير مصالحهم المادية الخاصة. وبالدستور يصبح الحكام في كل ولاية مسؤولين أمام البرلمان، أي أمام الأمة، فيضطرون الى تحري العدل والنهوض بالاصلاحات، وإلا حوسبوا وعوقبوا. ومرت غالبية الدول الاوروبية بمثل هذا التطور الذي تمر به الدولة العثمانية، فلم ينقذها إلا الأخذ بأساليب الديمقراطية ومبادئ الحرية التي تربي الامم، وتحيي النفوس، وتردّ للمرء حقوقه، وتشعره بشخصيته، وتضمن له العدل. أما فقدان الحرية فمن شأنه أن يملأ أفراد الرعية خوفاً، ويُفقدهم رجولتهم، ويخلّقهم بأخلاق العبيد، من ذلة وضعة، وعدم الالتفات إلا الى المأكل والملبس وسائر الشهوات الحسية، ينالونها من أخسّ الطرق. وعنده أن الوضع في الدولة العثمانية لا يمت الى الاسلام بصلة. فالاسلام يأمر بالشورى وهو ما يسميه الاوروبيون البرلمان. ويدعو الى الأمر يالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ما يأخذ في المدنية الحديثة شكل حرية الصحف في النقد، وحرية الافراد في التأليف، وحرية الجميع في إبداء الرأي. فلا أحد معصوم، ولا الحكومة معصومة، ولا السلطان أو الوالي معصوم. وإنما الذي يقوّمهم ،يخيفهم ويُلزمهم الجادّة، يتمثل في يقظة الرأي العام وحريته في النقد، وهو ما أسماه القرآن "التواصي بالحق". ثم هذه اراضي الدولة من أخصب أراضي العالم، وهي مع ذلك فقيرة مهملة بسبب هجرة الكثير من أهلها فراراً من الظلم ومن الضرائب التي تثقل كاهلهم، وبسبب مطامع الدول الاوروبية التي تناهض إصلاح الدولة وبسبب الافتقار الى السياسة الاقتصادية الرشيدة. فلا شركات ولا مصانع. والقطن كثير في البلاد، ومع ذلك فالمنسوجات القطنية تُجلب من أوروبا. بل وحتى علب الكبريت والطرابيش على رؤوسنا نجلبها من الخارج. ولا شك في أن قدرة الدول الاوروبية على إملاء إرادتها علينا، راجعة في المقام الاول الى القروض التي نتلقاها منها. فمتى كثرت ديوننا ضاع استقلالنا الاداري والسياسي والاقتصادي معا، وتدخّل الاجانب في شؤوننا بحجة حفظ أموالهم. غير أن مدحت فشل في تنفيذ أي مما كان يخامر ذهنه من أفكار. لا لأنها كانت خيالية غير واقعية، ولا لأن الدولة لم تكن في أمسّ الحاجة اليها، وإنما لأن السلطان رأى في الاصلاح السياسي تحدياً لإرادته، ورأى رجال الدين التشريعات المدنية منافية للاسلام، ورأى الرعايا الاجانب في المساواة نهاية لامتيازاتهم، ورأت الدول الاجنبية في الترشيد الاقتصاري خطراً على نفوذهم. وتحالف هؤلاء جميعاً مع عدد جم من كبار رجال البلاط والدولة ممن كانوا يحققون لأنفسهم الثراء الطائل من النهب والظلم، فأطاحوا بمدحت باشا وعزلوه، ثم حاكموه ونفوه، ثم خنقوه في منفاه، ثم كان أن عطلوا الدستور، وكان أن أعادوا الاوضاع الى ما كانت عليه. * كاتب مصري