مع تراجع الازمة في بقايا يوغوسلافيا بعيداً عن مقدمات نشرات الاخبار والصفحات الأولى عادت التساؤلات الاساسية تطرح نفسها من جديد، تساؤلات من نوع: هل حرب حلف شمال الاطلسي هذه ستكون الاولى في سياقها أو الاخيرة؟ هل هي حالة معزولة في سياقها او نموذج يمكن ان يتكرر في حالات اخرى وقارات اخرى؟ هل انهار نهائياً مبدأ سيادة الدولة وحصانتها داخل حدودها، او ان تلك السيادة ستستمر حجر الاساس في العلاقات الدولية؟ هل اصبحت القيم الانسانية مدخلا جديداً لضرب الدول عسكرياً أو ان مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية ما يزال متماسكا؟ ومن الذي يحدد - أصلاً - القيم الانسانية؟ ثم، هل ستؤدي حرب الاطلسي تلك الى تقوية الاممالمتحدة كمنظمة دولية، أو أنها ستمهد الطريق الى وفاتها؟ تلك كلها اسئلة جادة كانت مثارة من قبل على المستوى النظري، لكنها اصبحت تفرض نفسها في ارض الواقع بسبب الملابسات الخاصة المقترنة بحرب حلف شمال الاطلسي. ليست المسألة هنا هي المأساة الانسانية المروعة التي خلقها تفكك يوغوسلافيا، لانه في مواجهة تلك المأساة جرى، من قبل، تدخل دولي فعلا في البوسنة والهرسك انتهى باتفاق دايتون في سنة 1995، بعد تعاون روسياوالصين وكل مجلس الامن والاممالمتحدة من قبل. فلماذا اختلف الامر في هذه المرة ونشأ انقسام دولي، بل وحتى داخل الدولة الواحدة؟ دولة مثل جمهورية تشيكيا، مثلاً، انضمت رسمياً الى عضوية حلف شمال الاطلسي قبل اسبوعين فقط من مبادرة الحلف بضرب يوغوسلافيا. ومع ذلك كشفت استطلاعات الرأي العام في تشيكيا أن 35 في المئة فقط يؤيدون الحرب بينما الغالبية تعارضها، وخرج رئيس وزراء تشيكيا يقول ساخراً: إننا لم ننضم الى عضوية حلف شمال الاطلسي لكي نحمي انفسنا من يوغوسلافيا. في المقابل كان فاكلاف هافيل رئيس جمهورية تشيكيا أيضاً هو الذي أعطى لنفسه مهمة التنظير للحرب قائلاً إنها اول حرب اخلاقية تتم باسم القيم الانسانية بدلا من المصالح الوطنية، وإنه - من الآن فصاعداً - يجب ان تصبح لحقوق الانسان مكانة اعلى من حقوق الدول، لأن حرية الفرد - في رأيه - تمثل قيمة أعلى من سيادة الدولة. هذه الفكرة تحديداً هي التي حاول حلف شمال الاطلسي من البداية الترويج لها دعائياً كغطاء لحربه الجوية في كوسوفو وبقايا يوغوسلافيا. ومن هناك - بالتبعية - بدأت عملية اعادة تسويقها في عالمنا العربي خصوصاً. لكن، حينما لم يجد الالحاح على الفكرة رواجاً كافياً عاد الجدل مجدداً الى جوهر الموضوع، والجوهر هنا لا يمس واقعاً دولياً قائماً فقط، لكنه يتعلق اساساً بالمستقبل، والاممالمتحدة في قلب هذا المستقبل. وكما نعرف فإن الاممالمتحدة قامت كمنظمة دولية بعد الحرب العالمية الثانية تعبيراً عن فكرة الامن الجماعي على مستوى العالم. ولأنها انطلقت في حينها من تصور خاص اعدته وزارة الخارجية الاميركية مستخلصاً دروس فشل منظمة "عصبة الامم" في مرحلة بين الحربين العالميتين، فقد اعطت اولوية قاطعة لمبدأ "سيادة الدولة" داخل حدودها. لم يقم هذا المبدأ في أي وقت على أساس اخلاقي، بمعنى أن كل الدول أخيار، لكنه قام على اعتبارات الضرورة والواقع وحصر الاخطار ضد الامن والسلام الدوليين في حدها الادنى. وسمح ميثاق الاممالمتحدة بعقوبات ممكنة ضد أي دولة، تصل الى درجة الحرب الفعلية، لكنه وضع لذلك ضوابط ومعايير اهم ما فيها هو وجود توافق دولي على تعريف الخطر على - والعدوان ضد - الامن والسلام الدوليين، سواء على مستوى مجلس الامن أو مستوى الجمعية العامة للامم المتحدة. في حال حرب حلف شمال الاطلسي الاخيرة تحديداً - وهي ايضا حربه الاولى منذ قيامه قبل خمسين سنة - كان هناك حرص اميركي من البداية على تجاوز مجلس الامن والاممالمتحدة وتجاهلهما. وفي سياق الحرب طوال 78 يوماً اصبح كوفي أنان، الامين العام للامم المتحدة، في موقف لا يحسد عليه، متردداً بين الصمت المطبق وترديد الشروط المعلنة من جانب حلف شمال الاطلسي. لكنه حينما فكر - ربما من باب إبراء الذمة - في السفر الى يوغوسلافيا او ايفاد مندوب عنه، نبهته وزيرة الخارجية الاميركية مادلين اولبرايت بضرورة التزام الصمت والاكتفاء بمشاهدة التلفزيون. اما حينما اجتمع مجلس الامن في نهاية المطاف لكي يصدر قراراً بالتسوية فلم يكن هذا اجتماعاً للتشاور او المناقشة، إذ ان الصفقة جرى طبخها وإعدادها بعيداً عن الاممالمتحدة وسكرتيرها العام. لا احد يفترض هنا ان السكرتير العام للامم المتحدة طرف فاعل في الازمات الدولية من حيث هو. فهو بحكم ميثاق الاممالمتحدة ذاته "كبير موظفي السكرتارية الدائمة" للامم المتحدة. هو موظف لدى الاممالمتحدة، وعملياً لدى مجلس الامن الذي هو بدوره السلطة التنفيذية الحاكمة في الاممالمتحدة. لكن الفكرة هي أن كوفي انان تحديداً اصبح سكرتيراً عاماً للامم المتحدة بناء على الحاح وضغوط من الولاياتالمتحدة، وعلى أساس ان الولاياتالمتحدة ستصبح، بوجوده، اكثر تعاونا مع الاممالمتحدة، وايضا سوف تسدد ديونها الضخمة التي رفضت تسديدها طوال سنوات سابقة. في البداية لم يكذب كوفي انان خبراً، وسجل على نفسه سابقة مدهشة حينما ذهب الى واشنطن، لا ليجتمع بالرئيس الاميركي ووزير خارجيته فقط، وانما ليجتمع ايضاً بقيادات الكونغرس الاميركي مناشداً اياهم الموافقة على تسديد ألف وخمسمئة مليون دولار متأخرات مستحقة للامم المتحدة على الولاياتالمتحدة. سابقة كانت في حينها شاذة تماماً، لان اي سكرتير عام سابق او لاحق لم ولن يفعلها مع اي دولة اخرى ترفض سداد المتأخرات عليها للمنظمة الدولية. مع ذلك، في حينها وحتى الآن، وعلى رغم مناشدات كوفي انان غير المسبوقة، لا تزال الدولة الاقوى والاغنى في هذا العالم ترفض تسديد المستحقات عليها. لا تتعلق المسألة هنا بمأزق مالي فقط لكنها تتعلق اساساً بمصير الاممالمتحدة في عالم متغير. ففي اعقاب انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي راجت في العالم افكار عن مستقبل مشرق ينتظر الاممالمتحدة كمنظمة دولية تجسد مبدأ الامن الجماعي. جرى في وقتها ايضا حديث مطول عن الرغبة في تطوير الاممالمتحدة ذاتها لكي تصبح اكثر ديموقراطية في تمثيلها لهذا العالم الجديد المتغير. من بين الافكار التي نوقشت - مثلا - فكرة توسيع عضوية مجلس الامن بشقيها الدائم والموقت. وقيل إنه آن الأوان لكي يصبح لليابان وألمانيا مثلا مقعدان دائمان ونصيب اكبر في موازنة الاممالمتحدة. وقيل كذلك إن افريقيا تستحق تمثيلها بمقعد دائم - يمكن ان تشغله مصر أو نيجيريا او جنوب افريقيا - واميركا الجنوبية بمقعد دائم آخر تشغله البرازيل أو الارجنتين، وآسيا بمقعد دائم - بخلاف الصين - تشغله الهند أو غيرها. الآن، في سنة 1999، تبخر كل ذلك الحديث، واصبح بدلا منه يتم ابعاد الاممالمتحدة بكاملها عن المشاكل والازمات الدولية، سواء في مستواها الاقليمي او الاوسع نطاقاً. تابعنا الولاياتالمتحدة أيضاً وهي تستبعد الاممالمتحدة بالكامل من تسوية صراع بحجم الصراع العربي - الاسرائيلي. واصبحت دولة صغيرة بحجم لبنان مثلاً كلما تعرضت لعدوان متوحش جديد من اسرائيل يتم التنبيه عليها اميركياً بالابتعاد عن مجلس الامن والاممالمتحدة. والكونغرس الاميركي يبسط، بدوره، ولايته التشريعية الى ما وراء حدود الولاياتالمتحدة، كما ان وزارة الخارجية الاميركية، مثلا، تصدر لائحة سنوية بالدول التي تعتبرها "راعية للارهاب" وتتوقع من كل الدول الاخرى الإلتزام بها، حتى ولو لم تر في الامر أكثر من عدم الإذعان للسياسة الاميركية. لم تكن الاممالمتحدة في أي وقت مثالية في ادائها ولا هي ايضاً سلطة بحد ذاتها. لكن فاعلية الاممالمتحدة استمرت املاً دائماً للدول الصغيرة التي اصبحت "الشرعية الدولية" حصانة لها، ولو محدودة، ضد تجبر الاقوياء في الغابة الكبرى. الآن يتحلل الاقوياء من تلك "الشرعية الدولية" ليفرضوا بدلاً منها شرعية اخرى خاصة بهم سندها الوحيد هو القوة المجردة. وحينما تنتحل هذه القوة السافرة لنفسها غطاء من "القيم الإنسانية" التي تحددها هي - وهي وحدها - فإن هذا يذكرنا فوراً بأقوياء القرن التاسع عشر الذين ادعوا لأنفسهم في حينها شرعية مماثلة عنوانها "رسالة الرجل الابيض" في هداية الآخرين الى التحضر. في وقتها - كما هو الوضع الآن - لم يكن في الامر رسالة ولا تحضر. فقط هي المصالح السافرة التي زاد عليها فقط اعلام فوري يغطي المعمورة. إعلام، كلما استغرقنا فيه ازددنا جهلا بما يجري حولنا من احداث وتحولات حاسمة. تحولات، ربما يكون في مقدمها دخول الاممالمتحدة مرحلة خريف العمر وهي في سن الخامسة والخمسين. مع ان الثقافة الشعبية الاميركية تروج من قديم لفكرة أن "الحياة تبدأ بعد الستين". لكن: أي حياة؟ * نائب رئيس تحرير "اخبار اليوم" القاهرية.