الجدل الذي شهدته الدورة 54 للجمعية العامة حول دعوة كوفي أنان السكرتير العام للمنظمة الدولية لإعادة تعريف السيادة ودور مجلس الامن في القرن المقبل، ليس الأول من نوعه ولن يكون الأخير، فقد ثار جدل مماثل تقريبا مطلع هذا العام، عندما اندلعت أزمة كوسوفو واتجه "الناتو" الى التدخل عسكرياً من دون الرجوع الى الأممالمتحدة، وكانت فكرة التدخل لحماية الإنسانية، برزت مطلع هذا العقد عندما اتجهت الولاياتالمتحدة لحماية الأكراد في شمال العراق بعد الانتهاء من تحرير الكويت، ثم استخدمتها الولاياتالمتحدة في آخر ايام الرئيس السابق جورج بوش عندما اعطت لنفسها الحق في التدخل في الصومال لحماية أهله من الاقتتال الذي انفجر بينهم، ثم حوّلت المهمة بعد فترة قصيرة الى المنظمة الدولية. وها هو الجدل ثار مرة اخرى، استناداً الى سوابق جديدة في التدخل لحماية حقوق الانسان، كما جرى اخيراً في تيمور الشرقية، والأهم الى تساؤلات وأفكار عدة طرحها كوفي انان، السكرتير العام للأمم المتحدة، امام أعضاء الجمعية العامة، وفي كل مرة يكون هناك المؤيدون لهذا المبدأ باعتباره مدخلاً لتغيير نوعي في العلاقات الدولية ولإفساح المجال لقوى العولمة لأن تأخذ مجراها بسهولة أكبر، وهناك ايضاً الرافضون له نظراً الى ما ينطوي عليه من نيل من سيادة الدولة القومية التي يتمسك بها الصغار، كخط دفاع اخير ضد عالم قوي ومتغير لا يصنعه سوى الأقوياء وفي هذه المرة يبدو الأمر مختلفاً ولو نسبياً، ليس فقط للمكانة المعنوية التي يمثلها السكرتير العام في السياسات الدولية، ولكن ايضا بسبب مضمون دعوته وما شهدته من بعض تفاصيل واستناجات. طرح انان في مقال منشور في "الايكونوميست" 19/9/99 بعنوان "مفهومان للسيادة" كذلك في كلمته امام الجمعية العامة، افكاراً عدة حول السيادة ودور مجلس الامن جنبا الى جنب مجموعة من الاشكاليات السياسية المستندة الى خبرة حالات عدة للتدخل الانساني كما في رواندا وكوسوفو وأخيراص في تيمور الشرقية، وتحتاج جميعها قدراً من التأمل والدراسة معا. من تساؤلات انان المهمة ما أثاره حول مدى مشروعية تدخل المنظمات الاقليمية واستعمالها القوة لوقف انتهاكات جمة لحقوق الانسان من دون تفويض من الاممالمتحدة؟ وهل من المقبول ان تُترك الانتهاكات المنظمة لحقوق الانسان تستمر بكل تداعياتها المأسوية من دون ان يكبح جماحها؟ اهمية هذين التساؤلين وإثارتهما معا تنبعان من مقولة انان "ان لا شيء في الميثاق يعوق الاعتراف بأن هناك حقوقاً وراء الحدود الجغرافية"، فالميثاق يقول إنه يجب ألا تستعمل القوة المسلحة الا لحماية المصالح المشتركة. وهنا يثير انان تساؤلات عدة مهمة: ما هي المصلحة المشتركة؟ ومن يحددها؟ ومن سوف يدافع عنها؟ وتحت أي سلطة؟ وبأي وسائل من التدخل؟ للإجابة عن هذه التساؤلات طرح السكرتير العام أربعة عناصر: -إن التدخل يجب ألا يفهم على انه ذلك الذي يتضمن استعمال القوة، فهنالك اشكال اخرى من الالتزام الجديد للتدخل الانساني مخصص لدعم شعوب العالم، فإنه يجب ان يكون عالمياً وشاملاً بصرف النظر عن الاقليم او الدولة، فالانسانية في النهاية كلٌ لا يتجزأ. - إن التعريفات التقليدية للسيادة ليست وحدها العقبة امام الفعل المؤثر في الأزمات الانسانية فثمة حاجة الى تعريف جديد وواسع للمصلحة القومية يتناسب مع متغيرات القرن الجديد التي ستغري الدول لإيجاد توحد اكبر في الحفاظ على القيم والأهداف المشتركة. - انه في الحالات التي لا نتطلب التدخل النشط، فإن مجلس الأمن عليه ان ينهض لمقابلة التحدي، وألا يتعرض للانقسام وأن يسمح بالتدخل الاقليمي، وفي كل الأحوال، على الأممالمتحدة ان تجد الأسس المشتركة لدعم مبادئ الميثاق والعمل من اجل الدفاع عن انسانيتنا المشتركة. واذا ما أدركت الدول التي تورطت في سلوك إجرامي ان الحدود لن توفر لها الدفاع المطلق، وأن المجلس سوف يتخذ الفعل المناسب لوقف الجرائم ضد الانسانية، فإنهم لن يلجأوا الى هذا الاسلوب، فالميثاق يتطلب من المجلس ان يكون المدافع عن "المصالح المشتركة"، وإلا ستكون العولمة والاعتماد المتبادل وحقوق الانسان في خطر كبير. - إن العمل الانساني لكي يكون عالمياً ومشروعاً، فلابد الا ينتهي فور وقف اطلاق النار، فمرحلة ما بعد إنهاء الحرب تتطلب مهارات وتضحيات وموارد لا تقل عن الحرب نفسها، وذلك من اجل استمرار السلام وتأمينه. ولم ينس انان الإشارة الى حقيقتين متلازمتين، الاولى ان سيادة الدولة أعيد تعريفها بواسطة قوى العولمة والتعاون الداخلي، والدولة الآن تفهم على انها خادمة للأفراد وليس العكس، اما الثانية فهي ان السيادة الفردية تدعمت بالوعي المتجدد بحق كل فرد في السيطرة على مصيره، والخلاصة ان هذين التطورين المتوازيين يتطلبان منا ان نفكر بطريقة جديدة حول كيف تستجيب الاممالمتحدة للأزمات الإنسانية، ونزيد من عندنا كيف يمكن للمنظمات الاقليمية ان تتكيف مع الاتجاهات الحالية لإعلاء حقوق الانسان من ناحية والحد من سيادة الدولة من ناحية أخرى. ويخلص انان الى ان السيادة لم تعد خاصة بالدولة القومية التي تعتبر اساس العلاقات الدولية المعاصرة،، ولكن تتعلق بالأفراد انفسهم، وحسب انان فهي تعني الحريات الاساسية لكل فرد، والمحفوظة من قبل ميثاق الاممالمتحدة وكل المعاهدات الدولية اللاحقة، والمدعومة بإدراك منتشر ومتجدد معا. ويتوصل انان الى قراءة جديدة لبعض ما ورد في ميثاق الاممالمتحدة، بقوله إن قراءة الميثاق الآن تجعلنا ندرك ان اهدافه هي حماية الوجود الانساني للأفراد، وليس حماية الذين ينتهكونها، في إشارة الى الحكومات التي تشارك في مثل الانتهاكات وتتمتع بعضوية المنظمة الدولية، ويوضح ان المطلوب الآن هو الوصول الى إجماع ليس على إدانة انتهاكات حقوق الانسان، باعتبار انه متحقق نظرياً، ولكنه إجماع على الوسائل التي تحدد اي الأعمال ضرورية ومتى ومن يقوم بها؟ إذاً ما يطرحه سكرتير الاممالمتحدة يصب في خانة تفعيل دور مجلس الأمن والمنظمة الدولية إجمالاً في الأزمات الانسانية، وكيف لا يكون - المجلس - عقبة امام تدخل اي منظمة اقليمية ذات مسؤوليات امنية وسياسية محددة في مثل تلك الأزمات الانسانية التي قد تحدث في اقليم هذه المنظمة. بعبارة اخرى دعوة الى تنظيم التعاون الوظيفي بين مجلس الامن والمنظمات الاقليمية في الأزمات الانسانية. ولكي يصل الى هذا الهدف، قدم انان تعريفات جديدة لمفاهيم مختلفة كانت مستقرة على نحو معين طوال النصف قرن الماضي، مثل تعريف المصلحة المشتركة الواردة في الميثاق، والذي ارتبط تقليدياً بالعمل على منع الحروب والحفاظ على الأمن والاستقرار الدولي، بما في ذلك سيادة الدول وجغرافيتها وحدودها، فاذا بأنان يعرّفها بأنها "الحفاظ على حقوق الافراد في السيطرة على مصيرهم"، ورابطاً ذلك بتعريف آخر لدور الدولة المعاصرة بأنها "حراسة حقوق الافراد"، وبالتالي فإن حق التدخل العسكري والسياسي يمكن ان يحدث ولو ضد رغبة الدولة المستهدفة، ما دام ثبت إدانتها بانتهاك حقوق الانسان داخل حدودها الجغرافية، وبالتالي فإن المرجعية القيمية والأخلاقية للمجتمع الدولي ممثلاً في الاممالمتحدة لم تعد الدولة في حد ذاتها بل الفرد وحقوقه. وهنا نشير الى مشكلة كبرى لم يشر اليها انان تتعلق بمن هي تلك الجهة التي سيناط اليها تقرير ان هذه الدولة او تلك تخلت عن دورها في حماية الافراد وحراسة حقوقهم، وبالتالي وجب معاقبتها. وربما امكن القول ان روح افكار انان تعطي هذا الحق الى مجلس الامن، ثم المنظمات الاقليمية. وبالتالي فإن الحال لا تقتصر على تعديل وظيفة الدولة وحس، ولكنه ينطوي ايضاً على تغيير كبير في وظيفة ودور مجلس الامن والمنظمات الدولية والمنظمات الاقليمية معاً، أي اننا امام دعوة لإعادة تغيير المعادلات الدولية التقليدية الى معدلات جديدة، وأمام التزامات ومسؤوليات جديدة. ماذا يهمنا نحن العرب في هذه الأفكار؟ بعيداً عن ان بعض تلك الافكار سيكون محلاً للمعارضة العربية الشديدة، فظني ان هناك الكثير للتفكير فيه والبحث عن اجابات عربية له، وأشير الى قضيتين رئيسيتين اتصور انهما ترتبطان بحماية الذات والحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه من مصالح مشتركة للحاكم العربي والمحكوم العربي معاً. الاولى النظر بجدة من دون استهانة الى واقع حقوق الانسان العربي، وما يتطلبه ذلك من اصلاحات سياسية ومؤسسية وتشريعية في كل البلدان العربية من دون استثناء، فالاصلاح الإرادي أفضل كثيراً من عمل قسري. اما الثانية فهي للبحث في الدور الذي يمكن ان تقوم به الجامعة العربية ليس من جهة تفعيلها وإخراجها من ركن التهميش المحشورة فيه قصراً وعنوة وحسب، ولكن ايضا من زاوية "احتمال" ان تقوم بمعالجة ازمة انسانية في هذا البلد العربي او ذلك، وأحسب ان تدخل الجامعة العربية اذا توفرت له الارادة والأدوات والامكانات المناسبة سيكون افضل كثيراً وأرحم بما لا يقاس من تدخل مجلس الأمن او "الناتو" مثلاً، فهل تعتبر النخب العربية بما يجري حولها؟ * كاتب مصري.