لعبة «عض الأصابع» بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل لم تنته فصولاً بعد، إذ أن الأسابيع القليلة المقبلة ستشهد حلقات متتالية من عملية «شد الحبل» بين الطرفين وصولاً الى مواجهة باردة مؤجلة منذ بداية عهد الرئيس الأميركي باراك أوباما، بعد أن جرد المتطرفون الصهاينة العلاقات الأميركية الإسرائيلية من كل الأوراق التي كانت تسترها ولم يبقوا منها سوى ورقة التوت التي سيؤدي نزعها الى فضح المستور وكشف العورات المتراكمة على مدى السنين، وهو ما بدا من خلال تحذير قيادات أميركية بارزة من مواصلة مسايرة إسرائيل وتهديد المصالح الأميركية. والسؤال المطروح في كل مكان اليوم من واشنطن الى تل أبيب وصولاً الى عواصم عربية وغربية هو هل يشرب أوباما «حليب السباع» ويحسم أمره ويتخذ القرار الصعب المنتظر في مواجهة حكومة المتطرفين الصهاينة بزعامة بنيامين نتانياهو؟ أم أنه سيتراجع أمام الضغوط التي يتعرض لها ويعود الى الصفوف الخلفية ليفقد آخر معاقل الصدقية والكرامة وتفقد معه الولاياتالمتحدة ثقة العالم والعرب والسمعة والهيبة وتعرض مصالحها للخطر الأكيد؟ وهل سيتجرأ نتانياهو ويفعلها ثانية بتحدي الولاياتالمتحدة وتحطيم صورة أوباما؟ هذه الصورة التي بدأت تتعرض للاهتزاز رأى فيها الكثيرون يوم انتخابه خشبة خلاص من سياسة بوش الرعناء وبداية تغيير حقيقي في السياسة الأميركية المنحازة الى الظلم عبر عنه في خطابه الشهير في القاهرة وفيه سلسلة خطوات عمل من خلالها على تحسين صورة الولاياتالمتحدة وكسب ثقة العرب والمسلمين وتبني مبادئ العودة الأكيدة الى خيمة الشرعية الدولية وقراراتها والنفاذ منها الى مظلة العدالة والإنصاف، وصولاً الى إنهاء حالة الفوضى المتراكمة التي سميت زوراً وبهتاناً «الفوضى الخلاقة» في عهد المحافظين الجدد أو الصهاينة المتخفين وراء قناع ديني متطرف. ومع وصول الآمال بإعلان موقف أميركي من التعنت الإسرائيلي الى حالة ضبابية مشوشة وتلاشي إمكانات رد الفعل على التحدي الصهيوني للدولة المصنفة بالأقوى في العالم، فإن العالم منقسم اليوم بين رأي يستبعد أي موقف دراماتيكي ورأي آخر يتوقع خطوة مهمة يتخذها أوباما قريباً مستنداً الى حتمية وقوع مواجهة بعد وصول العلاقات الى مفترق طرق نتيجة للتعنت ورفض وقف الاستيطان الاستعماري والإصرار على إقامة مستعمرات جديدة في القدسالمحتلة والتحايل في الرد على الأسئلة التي وجهتها واشنطن لإسرائيل حول السلام والمفاوضات مع الفلسطينيين والجدول الزمني، إضافة الى الصفعة المدوية التي وجهتها حكومة نتانياهو للولايات المتحدة وللرئيس أوباما بالذات عندما استقبلت نائبه جوزف بايدن بالإعلان عن بناء وحدات سكنية استيطانية في القدسالمحتلة. ولكن هل يمكن اعتبار «خريطة الأسئلة» التي وجهها أوباما لنتانياهو مبادرة للسلام؟ وهل يمكن الركون للردود الإسرائيلية الملتبسة والمتبنية لأسلوب «اللعم» أي بين اللا والنعم أو «نعم ولكن» التي تحمل في طياتها بذور نسف كل معاني ومباني هذه الخريطة؟ وهل سيتغاضى أوباما عن المناورات الإسرائيلية لنسف المفاوضات غير المباشرة التي تم الاتفاق على استئنافها بشق الأنفس؟ الأكيد أن أي عاقل أو خبير مطلع على مجريات الصراع العربي الإسرائيلي يدرك جيداً أن هذه الأسئلة لا ترقى الى مصاف المبادرة ولا تصل حتى الى مستوى مبادرات الرؤساء الأميركيين السابقين، من نيكسون الى ريغان ومن كلينتون الى بوش، ولا حتى الى مسار خريطة الطريق التي تبنتها اللجنة الرباعية الدولية (أوروبا والولاياتالمتحدة وروسيا والأمم المتحدة). إلا أن من يروج لهذه الخريطة يجد فيها بدايات طيبة لطريق صعب وطويل ونقطة تحول أولية لتوجه الولاياتالمتحدة نحو تبني سياسة أكثر اتزاناً وأقل انحيازاً لإسرائيل، فالمهم هو أن تبدأ من نقطة ما وأن تسعى الى تحطيم الجدران القائمة وكسر الجليد وإزالة الألغام الكثيرة التي وضعها الصهاينة في طريق أي حل يؤدي الى سلام عادل وشامل ينطلق من مبادئ الشرعية الدولية ومبدأ الأرض مقابل السلام. وعلى رغم «تواضع» ما لا يمكن أن يطلق عليه صفة «المبادرة» فإن الأطراف العربية والأوروبية متحمسة لها وتنتظر لما قد يؤول إليه «الأخذ والرد» بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل، ولهذا السبب اتخذت «لجنة المبادرة العربية» قرارها الصعب بإعطاء فرصة للسلام حددتها بأربعة أشهر يتاح خلالها للسلطة الوطنية الفلسطينية الدخول في مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل قبل اتخاذ أي قرار عربي حاسم ونهائي في حال مواصلة إسرائيل سياستها الاستيطانية ورفضها تجميد بناء المستوطنات الاستعمارية. والمتفائلون بخطوة أميركية حاسمة يبنون نظرياتهم على شخصية أوباما وأسلوبه ومصلحة الولاياتالمتحدة. فالرئيس الأميركي يتبنى نهج النحت في الصخر أي التصميم على قضية معينة ومواجهة المصاعب بالصبر والإقناع والمثابرة واستخدام الإعلام في الترويج لها، كما فعل في قضية التأمينات الصحية، فقد جوبه بمعارضة عنيفة من قبل الشركات والحزب الجمهوري وصقور حزبه الديموقراطي، وتعرض لضغوط قاسية من أجل سحب مشروعه لكنه أصر عليه وتمسك بمبادئه الى أن حقق النصر بإقراره في الكونغرس، واتبعه بالإعلان عن سياسة نووية جديدة. أما بالنسبة الى مصالح الولاياتالمتحدة الحيوية فهي تنطلق من حاجتها الى دعم الدول العربية والإسلامية لتنفيذ سياستها الخاصة بالانسحاب من العراق وحسم الموقف في أفغانستان قبل إقرار خطة الانسحاب الثاني، وهي لن تنجح في حال عدم نزع فتيل الانفجار في الشرق الأوسط وخسارة ثقة العرب بدور الولاياتالمتحدة في عهد أوباما. وقد نجح مبدئياً في العراق عبر دعم الانتخابات وتجنيب القوات الأميركية المزيد من الخسائر بعد أن انحصرت العمليات والتفجيرات في مهاجمة أهداف عراقية مدنية، ثم في أفغانستان بعد إقرار خطة تعزيز القوات وإتمام عملية هلمند ضد «طالبان» و «القاعدة» والاستعداد لعملية قندهار الحاسمة. أما المتشائمون فيرسمون صورة قاتمة حول المسعى الأميركي ويتوقعون تراجع الولاياتالمتحدة عن تشددها وتسليمها بالأمر الواقع للاعتبارات التالية: * جنوح إسرائيل نحو التطرف ومواجهة أي ضغط وتزايد نفوذ المتطرفين من المستعمرين والأحزاب الدينية التي أصبح نتانياهو أسيراً لها في عملية الاختيار بين السيئ والأسوأ والمتطرف والأكثر تطرفاً، مما دعا معظم المحللين الى استبعاد أي مرونة والتأكيد على أن الحكومة لن تتراجع، وأنها حتى لو فعلت ذلك فإنها ستجابه بمعارضة شرسة قد تسرع في خطوات سقوطها. * تزايد احتمالات إقدام إسرائيل على خطوات هوجاء تقلب المائدة على الجميع وتورط الولاياتالمتحدة في أزمات جديدة تتمثل إما في مهاجمة إيران على خلفية ملفها النووي أو إشعال نار جبهة غزة أو الجبهة اللبنانية لكسب الوقت واستغلال النتائج وإبعاد احتمالات الضغط عليها. * تحرك اللوبي الصهيوني ضد إدارة أوباما ونجاحه في حمل أكثر من ثلثي أعضاء الكونغرس على تقديم مذكرة الى البيت الأبيض تدعو الى وقف الضغوط على إسرائيل وتحسين العلاقات معها. * على رغم الانتصار الذي حققه أوباما في معركة التأمينات الصحية فإن الضغوط تشتد عليه من كل حدب وصوب ولا سيما من اليمين والمحافظين الجدد والبيض في شكل عام بعد تنامي النزعة العنصرية وتزايد المعارضة لتولي رئيس أسود تقاليد الأمور في البيت الأبيض. * اقتراب موعد الانتخابات النصفية لأعضاء الكونغرس وحكام الولايات في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل واقتراب مواعيد بداية حملة الانتخابات الرئاسية المقبلة التي بدأت باكراً بتلميح الجمهوريين الى ترشيح الجنرال ديفيد بترايوس قائد القوات الأميركية للرئاسة في معركة كسر العظم مع الديموقراطيين. وبانتظار حسم الأمور لا بد من الإقرار بدقة أوضاع أوباما وبالتركة الثقيلة التي خلفها له بوش في الداخل (الأزمة الاقتصادية الخانقة) وفي الخارج من العراق الى أفغانستان ومن كوريا الشمالية الى أميركا اللاتينية مروراً بروسيا والصين وتركيا وإيران. وقد نجح أوباما في تفكيك بعض حقول الألغام وهو الآن يحتاج الى الدعم والصبر والحظ والظروف المناسبة. كما أعاد ترتيب البيت من الداخل ونجح في تحسين صورة الولاياتالمتحدة ثم في إعادة الحرارة الى علاقاتها مع مختلف الدول، ولا شك في أن تنفيذ خطته الخاصة بالانسحاب من العراق العام المقبل وتدعيم ركائز الاستقرار في أفغانستان سيعطيه زخماً كبيراً ويساعده للانطلاق بقوة في دفع مسيرة السلام في الشرق الأوسط، ليس بين الفلسطينيين والإسرائيليين فحسب بل على مستوى سورية وإسرائيل من طريق الحوار مع سورية وإعادة ترتيب العلاقات مع تركيا ودعم جهودها لاستئناف المفاوضات السورية - الإسرائيلية. وهذا يعني بالطبع المزيد من الانتظار والصبر وعدم القيام بأية خطوة ناقصة قد تستغلها إسرائيل لإزالة آخر أمل بإحلال السلام. والأهم من كل ذلك هو بناء موقف عربي موحد يواجه العالم ويواكب التطورات المنتظرة لتشجيع إدارة الرئيس أوباما على المضي قدماً في جهوده لتحريك عملية السلام. ومن غير هذا الموقف لا يحق للعرب انتظار أي إنجاز أو توقع أي احترام من أي طرف، فإن لم يوفروا أدوات الاحترام ومتطلباته عليهم أن لا ينتظروا احترام أحد وهم قاعدون خاملون في محطة الانتظار منذ أكثر من 62 عاماً! * كاتب عربي