لا يفيد الجانب العربي عموماً والفلسطيني خصوصاً، المرور مرّ الكرام على نتائج الانتخابات الاسرائيلية الاخيرة، وتصغير قيمة سقوط نتانياهو من رئاسة الوزراء، وتبهيت مدلولات خسارة ليكود اكثر من ثلث مقاعده في الكنيست، واختفاء بعض القوى اليمينية المتطرفة تسوميت، والطريق الثالث من خارطة الاحزاب الاسرائيلية واعتزال عدد من رموزها العمل السياسي. والقول ان باراك صقر متنكر في ريش حمامة، وان ليكود في لباس حزب العمل، وان الفروق بين ليكود والعمل بسيطة وشكلية وغير جوهرية في القضايا الاساسية …الخ، يمكن فهمه اذا ادرج في خانة التفاوض وممارسة الضغوط السياسية عبر وسائل الاعلام، او في اطار الرد على بعض المواقف المتطرفة التي ظهرت ابان الحملة الانتخابية. لكنه يصبح غير مستوعب وضاراً ومربكاً للموقف العربي الفلسطيني ويفقده القدرة على اشتقاق التوجهات الصحيحة واستغلال الظروف الملائمة اذا عكس الامرين الآتيين او احدهما: قراءة خاطئة لأثر التطورات الدولية والاقليمية على حركة المجتمع الاسرائيلي، وتأثيرها في المرتكزات الفكرية والتنظيمية والاجتماعية لنظامه السياسي. والثاني الارتباك عند المنعطف الحاسم، والهروب في اللحظة الحرجة من مواجهة استحقاقات المرحلة الجديدة التي ستدخلها المفاوضات والعلاقات العربية - الاسرائيلية بعد تشكيل الحكومة وزيارة رئيسها باراك لواشنطن. الى ذلك، ليس من حكمة استراتيجية او تكتيكية في تبسيط قيمة عودة حزب العمل للسلطة، وحصول حركة ميريتس على 10 مقاعد في الكنيست، ووجود 13 عضو كنيست من العرب، على مسار عملية السلام الفلسطينية العربية، او اهمال حزب المتدينيين "شاس" الذي تحول الى قوة الرقم 3، ويولي حياة الانسان اليهودي اولوية على الاحتفاظ بالارض، حتى لو جلس في صفوف المعارضة. واذا كان من الضروري والمهم جداً عدم المبالغة في قراءة النتائج الايجابية للانتخابات الاسرائيلية على مستقبل اوضاع المنطقة وبخاصة الاوضاع الفلسطينية والسورية واللبنانية، فمن الخطأ ايضاً ان يحصر المفكرون والسياسيون العرب والفلسطينيون نظرهم في زاوية ضيقة تمكنهم من رؤية دور الافراد في تحقيق النصر او جلب الهزيمة، وتركيزه فقط على الفروقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ظهرت خلال الحملة الانتخابية في برامج الحزبين الكبيرين. فمثل هذه النظرة تقود الى التعاطي مع الوضع الجديد ونتائجه من زواياه الشخصية والحزبية والمحلية الاسرائيلية الضيقة، ولا تظهر الترابط الوثيق بين سقوط ليكود وتعطيله تقدم مسيرة السلام على المسار الفلسطيني ثلاث سنوات، وتغفل اثر عناد نتانياهو وتصادمه مع توجهات الادارة الاميركية، ومقاومته "الباسلة" لرياح التغيير التي هبّت على المنطقة بعد انهيار برلين وانتهاء الحرب الباردة وظهور نظام القطب الواحد. كما ان هذه النظرة تبين دور تواصل عملية السلام وما انبثق عنها من اتفاقات وعلاقات سلام خلال ما يقارب 8 سنوات في الاطاحة ببعض القوى اليمينية المتطرفة واضعاف بعضها الآخر، وتهمل فعل الخطاب العربي الواقعي، والموقف السياسي الفلسطيني البراغماتي المرن الذي انتهجته قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في التأثير على خيارات الناخب الاسرائيلي. صحيح ان الادارة الاميركية ودول السوق الاوروبية المشتركة لم تعاقب نتانياهو وحكومته، علناً، كما عاقبت حكومة شامير عام 1992، وكما تتعامل هذه الايام مع ميلوشفيتش لكن الصحيح ايضاً انها عبّرت بصيغة أو بأخرى عن معارضتها لمواقف نتانياهو تجاه عملية السلام مع الفلسطينيين ولسياسة حكومته تجاه الاتفاقات التي وقعها معهم. والناخب الاسرائيلي توجه الى صناديق الاقتراع وهو يعرف مدى تأزم علاقة حكومته بالادارة الاميركية وبالدول الاوروبية والعربية وكان يشعر بأنها تقف على حافة التدهور بل الانفجار المعلن. وخطورة محاكمة الانتخابات من زاويتها المحلية الضيقة لا تكمن فقط في تقويم الماضي القريب، الذي سيتحول مع الايام الى تاريخ، وانما على ما تشتقه وما ستفعله القيادات السياسية الفلسطينية والعربية خلال الاسابيع والاشهر والسنوات الاربع المقبلة. فالعمل في ضوء نظرة جزئية ضعيفة يقود الى حسابات خاطئة لا تساعدها في تقدير الموقف ورسم مواقف سياسية صحيحة في مجال مفاوضات السلام، واستشفاف آفاق بناء علاقات مستقبلية مع قوى النظام السياسي الاسرائيلي الحاكمة والمعارضة. والرؤية المحلية آحادية الجانب تظهر ايهود بارك وقادة حزب العمل وتحالفهم الجديد وكأنهم احرار في رسم سياسة اسرائيل لأربع سنوات. وتغفل مصالح اسرائيل الاستراتيجية والمباشرة التي تفرض عليها التجاوب والانسجام الى حد كبير مع متطلبات السياسة الاميركية اولاً والاوروبية ثانياً في المنطقة. وتلغي مفعول العلاقة الحميمة القديمة بين حزب العمل والادارة الاميركية، وقدرة الاخيرة على التأثير في السياسة الاسرائيلية في عهد الحكومة الجديدة. ولا مجازفة في القول ان الاستعداد العالي الذي يبديه باراك للتكيف مع السياسة الاميركية والانسجام في الوضع الدولي والتعامل بواقعية اكبر مع مقتضياته كاملة على المسارين السوري واللبناني، وجزئية على المسار الفلسطيني، سيقود الى خلق حقائق جديدة في المنطقة، قادرة، مع الزمن، بديناميكيتها وميكانزمها الذاتي على تعميق الواقعية في الفكر السياسي الاسرائيلي اكثر فأكثر، ودفع القناعات الايديولوجية التوسعية والمعتقدات الغيبية المثالية الى الوراء، تاركة لمن يشاء الحق في الاحتفاظ بها في اعماق الضمير. وتنفيذ بقايا اتفاق واي ريفر يقرّب الفلسطينيين "اذا نفذ" من اهدافهم في التحرير واقامة الدولة، ويحقق لهم مكاسب اضافية تساعد على تصليب اوضاعهم فوق ارضهم، ويحسن موقفهم على الصعيدين العربي والدولي ومع الاسرائيليين، ويقوي اوراقهم في مفاوضات الحل النهائي اللاحقة. فالانسحاب من 10 في المئة من الارض، ونقل 14 في المئة من "ب" الى "أ" يعني دحر جزئي للاحتلال وتحرير اجزاء اضافية من الارض يرفع نسبتها الاجمالية الى 44 في المئة. أما تحرير اعداد اضافية من السكان نصف مليون تقريباً فيرفع نسبتهم الى ما يزيد على 95 في المئة، وينقل اوضاعهم الى حالة وحياة افضل لا يمكن اطلاقاً مقارنتها بأوضاعهم وحياتهم القائمة. ناهيك عن القيمة المعنوية الكبيرة لتحرير قرابة 600 معتقل من السجون الاسرائيلية. وغني عن القول ان استكمال بناء الميناء وتشغيل مطار من دون منغصات، وفتح الممرين الآمنين بين الضفة والقطاع وضمان استمرارهما مفتوحين يساعد على توحيد اقتصاد السوق الفلسطينية وينهي الكثير من عذابات المواطنين الفلسطينيين من التنقل والاعتقال على المعابر والطرقات، ويمكّنهم قطف بعض ثمار عملية السلام التي حُرموا من تذوقها، ويقود الى فقدان الجانب الاسرائيلي عدداً من ارواق الابتزاز والضغط الامني والاقتصادي والاجتماعي التي يستخدمها ضد الفلسطينيين سلطة وشعباً. ويحسّن موقع السلطة في صفوف قطاع واسع من الفلسطينيين وبخاصة الغزيين المحرومين من الوصول للضفة الغربية للقاء أهلهم والدراسة والعلاج. وقد يخلص القيادة الفلسطينية من تهمة القفز عن حرية حركة المواطنين مقابل اقل من 400 بطاقة VIP. وعلى الفلسطينيين المستهترين بهذه المكاسب، ان لا ينسوا ان رفض الاتفاق وتعطيل تنفيذه يعني بقاء اجزاء من الارض والشعب تحت الاحتلال وان الكفاح المسلح الفلسطيني ثلاثين عاماً وتضحيات الجيوش العربية على مدى نصف قرن لم تحرر شبراً من الارض الفلسطينية. الى ذلك، فالاتفاق على انسحاب القوات الاسرائيلية من جنوبلبنان خلال عام وفقاً لرغبات باراك المدعومة اميركياً يحرر جزءاً من الارض اللبنانية عزيزاً على لبنان اولاً والفلسطينيين ثانياً والعرب ثالثاً. ويخلّص آلاف المواطنين اللبنانيين من براثن الاحتلال الصهيوني وتأثيراته الامنية والثقافية. اما الاتفاق على اعادة الجولان للسوريين فسيكون، اذا تمّ في عهد بارك بمثابة اختراق نوعي يحققه الرئيس كلينتون على طريق صنع السلام بين العرب واسرائيل، شبيه بالاختراق الاستراتيجي الذي حققه الرئيس الاميركي كارتر في كامب ديفيد في عهد بيغن. وبصرف النظر عن تفاصيل الترتيبات الامنية والضمانات الاميركية والدولية التي تطلبها حكومة باراك فالاتفاق حول الجولان سيعيد حتماً كامل الهضبة للسيادة السورية تماماً كما عادت سيناء للمصريين قبل اكثر من 20 سنة ويحرر مساحة جديدة مهمة من الارض الفلسطينية، "قطاع الحمة" التي بقيت تحت السيطرة السورية من عام 1948 وحتى حرب حزيران عام 1967 وإذا كان الرئيس السوري أمين الحافظ عرض اوائل الستينات على الفلسطينيين استلام تلك المنطقة واقامة نواة دولة فلسطينية عليها فلن يتعذر على القيادتين السورية والفلسطينية وجامعة الدول العربية الاتفاق على اعادتها لاصحابها وتمكين آلاف اللاجئين الفلسطينيين من الاقامة فيها وتحقيق حلمهم بالعودة. لا شك في ان تحقيق هذه الانجازات العربية عبر عملية السلام ومراكماتها فوق ما سبقها يعني من الناحية الاستراتيجية حدوث تحسن نوعي في ميزان القوى لصالح العرب ويقرّب الفلسطينيين من اهدافهم الاساسية، ويعزز مواقف قوى السلام في اسرائيل على حساب نفوذ المتطرفين، ويسهم في زعزعة مفاهيم التوسع والعدوان التي تعتاش عليها الاحزاب اليمينية المتطرفة. ويزود قطار السلام الذي انطلق من مدريد بطاقة اضافية تساعده على تجاوز العقبات الكبيرة التي تنتظره على طريق مفاوضات الحل النهائي مع الفلسطينيين. الى ذلك أياً تكن العوامل المتنوعة التي دفعت الناخب الاسرائيلي لإحداث التغيير، فتبدل نظام الحكم في اسرائيل يشير، ضمن امور كثيرة، الى عودة اغلبية المجتمع الاسرائيلي للتعاطي بواقعية مع قضايا الصراع في المنطقة، والتكيّف والانسجام مع الوضع الدولي الجديد. وان التمترس خلف المعتقدات الايديولوجية وخاصة الغيبية منها، قد يريح الضمير ويشبع رغباته الروحانية، لكنه لا يلبي حاجات الجسد اليومية التي لا غنى عنها. لقد رفض ليكود بقيادة نتانياهو استعاب حقائق الوضع الدولي الجديد، ورفض التجاوب مع توجهات القيمين على اعادة ترتيب اوضاع المنطقة وفقاًَ لمصالحهم الاستراتيجية، فدفعت اسرائيل ثمن ذلك من علاقاتها الدولية والاقليمية. ودفع الليكود ثمناً باهظاً استهلك رصيده الخارجي واهتزت اوضاعه الداخلية. في عام 1992 سقط شامير من رئاسة الوزراء بعد تصادمه مع ادارة بوش - بيكر حول متطلبات عملية السلام وحمّل شعب اسرائيل مسؤولية فشله وقال: "شعب اسرائيل تعب من النضال من اجل ارض اسرائيل التوراتية". وبعد سبع سنوات قلد بني بيغن استاذه شامير واعلن اعتزاله العمل الحزبي والسياسي احتحاجاً على موقف الشعب الاسرائيلي من اطروحاته وافكاره القومية اليمينية المتطرفة. اما نتانياهو فقدّم استقالته من رئاسة الليكود وقرر اعتزال العمل السياسي متحملاً مسؤولية الهزيمة من دون تفسير اسبابها، فهل سيعترف بأن ايديولوجيته وعنجهيته وسياساته المتطرفة كانت السبب الرئيسي في تجرعه كأس الهزيمة المرّة؟ وهل سيعترف أركان الليكود بعده ان رياح التغيير التي تعصف بالمنطقة منذ مدة اقوى من اوتاد العقيدة الجامدة. * كاتب سياسي فلسطيني.