ساهِماً، أَتَغافى على مقْعَدٍ طائرٍ سوف يُبْعِدُني ألْفَ ميلٍ عن القَيْروانْ، أتى صَوْتُها، صاعِداً مِنْ قِبابِ البَلَدْ لم أقُلْ للغَريبةِ ما شِئْتُ ذاك المساءْ أَغْمَضَتْ أَدْخَلَتْ كلّ أوصافها في ظلامٍ تلوذُ بهِ مِنْ وحوشٍ تراءَتْ لها لا وحوشَ هنا يا صغيرةُ، مِمَّ ارْتَجَفْتِ؟ سِراجٌ قويٌّ، ينوسُ ويَعْلو بداخلها، صار صَوتاً وغَنَّتْ بقلبٍ قليل السنينِ، يُفَتِّشُ عن مَهْرَبٍ لا لِتُثْبِتَ إتقانَها أو لتُعْلِنَ ما مَلَكَتْهُ وغَنَّتْ ستلمس، بالكف، لمساً جبين الهواءِ المحيط بها وبنا وتميل خفيفاً على جِهَتَيْنِ ستنضغط الزهَراتُ التي نُقِشَتْ في نسيج القميص على خصرها، ستُنادي على من نأى، سوف تُرْبِكُ ترتيبَ عالَمِنا، وتُمَشِّطُ شَعْرَ الحياةِ، برفقٍ، وتَصْحَبُها، خطوةً خطوةً، في الطريق الى الرَّوْضَةِ انْفَلَتَتْ مِن زحام الجميع الى غابةٍ لا تراها العيونُ وغَنَّتْ أفي عُمْرِها الطِّفْلِ مُتَّسَعٌ لعذابٍ مُسِنٍّ؟ أَضَيَّعَها عاشِقٌ، أَمْ أَضاعَتْهُ؟ هل صَدَّقَتْ عَسَلاً في ظُروفِ المكاتيبِ؟ أم خَدَشَتْ في الفِخاخِ الأنيقةِ طُعْماً؟ وكَيْفَ انتَبَهْتُ لها كُلِّها؟ وانتبَهْتُ لما سوف تُخْفيهِ عن أُخْتِها والزّميلاتِ في السَّكَنِ الجامعيِّ وعن نَفْسِها؟ نحن كنّا قريبَيْن جداً، بَعيدَيْنِ جداً وبُعْدُ المسافةِ سُخْرِيةٌ مِن دُنُوِّ المَقَاعِدِ كُنّا غُمُوضَيْنِ ذاكَ المساءْ وكُنّا غِنائَيْنِ رغم سُكوتي، وكُنّا سُكوتَيْنِ رغم الغِناءْ لم أقل للغريبة ما سأقولُ لها الآنَ بَعْدَ الرَّحيلْ: "تمنَّيْتُ لو كُنْتُ سِحْراً يَرُدُّكِ فوراً إلَيْكْ"! "تمنَّيْتُ لو كُنْتُ أُمَّكِ حتى أَضُمَّكِ خوفاً عَلَيْكْ"! نائماً، مُغمضَ الجسم في مقعدٍ طائرٍ سوف يُبْعِدُني أَلْفَ ميلٍ عن القَيْروانْ، أتى صَوْتُها، صاعِداً مِن قِباب البَلَدْ كأنّ الغَريبةَ ظلَّتْ تُغَنّي لأوصافِها لا لأِجْلي. ولا لأَِحَدْ!