يمنحنا الشاعر حمزة عبود في مجموعته القصصية "هدوء حذر" دار الفارابي، 1999 فرصة كي نعيد رواية يومياتنا المنصرمة مرة ثانية أو هو يحثنا على أن نصوغها صوغاً مختلفاً من حيث الأسلوب والفكرة ابتغاء لفائدة المستقبل الذي يحكم يومياتنا الآنية ذاك أن اللحظات التي يشتغل عليها عبود هي بمثابة لحظات دائمة. من قبيل هذه اللحظات العلاقة مع المرأة والمعيش اليومي، الى العلاقة مع الأصدقاء والشارع والجيران مروراً بالعلاقة مع أنماط التفكير والسلوك "الوطنيين" وصولاً الى العلاقة مع العزلة الفردية والشخصية لأي منا. والقاص هنا يفتح علينا النار بشكل إيجابي لا ليؤذينا إنما ليشعرنا بمدى خطورة ما يحيط بنا. لذا كان العنوان صائباً الى أبعد الحدود. فالهدوء الحذر تعبير مأخوذ من الحرب وبخاصة من المواقع القتالية التي كان مقاتلوها يستخدمونه بين وقف أول لإطلاق النار ووقف آخر، تماماً مثلما هي عليه الحال بعد انتهائنا من قراءة قصص وأقاصيص المجموعة التي أجبرتنا على التزام هدوء حذر في فاصلة من الزمن نعيد ما قرأنا كي نراجع ما كان حولنا وحوالينا وبين جنباتنا. فها هي المرأة في قصة "رجل المحطة" تشبه النساء اللواتي يعرفهن. والأصح المرأة - النموذج على الصعيد الفني كرمز للقلق والفرح اللذين تمنحهما لنا في غالب الوقت الذي يتوزع بين الراوي - العامل في احدى الصحف وبين الشحاذ القاعد حزيناً في إحدى الزوايا. فبينما يسعى الراوي الى التقاط لحظات فرح من خلال التعرف على المرأة، يغرق الشحاذ في لحظات حزن أشد والسبب هو المرأة ذاتها. ثم تروح العلاقة تتضح تدريجاً في القصة بفنية عالية لتكشف لنا عن استعادة الشحاذ بعض ألقه وبهاء شخصيته كلما اقتربت المرأة منه. وفي المقابل فإن هيأة الراوي تبدأ بالذبول بناء على القرب الذي تمنحه هذه المرأة للشحاذ الذي استعاد فرحه الكامل في لحظة جمع فيها الراوي نفسه معهما في الأتوبيس مكان القص وزمانه في الذهاب والإياب الى عمله. وما كان، ان فقد الراوي افتراض فرحه - المرأة - التي استعادت شحاذها. هذا الفعل يقوم في القصة كما في غيرها على مقدار كبير من الصمت، بمعنى أن حمزة عبود يترك الكلام الحواري جانباً كتقنية من تقنيات القص ويتمسك بالإيماء القائم على الحركة أولاً وعلى الافتراض ثانياً وعلى الاستعادة ثالثاً وعلى الاستنتاج رابعاً وعلى المفارقة خامساً وعلى الوخز سادساً وعلى الغاء الزائد سابعاً. ولا عجب في السياق أن تكون القصص بمعظمها قصيرة، إذ لا يتعدى البعض منها الثلاث صفحات. فهذا التقنين مرجعه في القدرة على التكثيف الرمزي وعلى البلاغة في جملة حمزة عبود الممسوكة بتوتر زمني فيه الكثير من الحسم الهندسي، أي فيه الكثير من الضغط البياني الذي يرينا البناء بأكمله من نافذة واحدة محاطة بنور ساطع بون بهرجة وتكلف كما هي عليه الحال في قصص هدوء حذر واللقاء والرجل الذي أكلنا وقليل من الخوف التي يقدم فيها عبود شخصيات غريبة الأطوار ككامل البدوي الذي تشي تصرفاته بذلك. لكننا نكتشف في السياق أننا نحن غريبو الأطوار وكامل البدوي هو ذو طبيعة سلوكية متزنة، حيث تبدأ القصة ببحث الراوي عن صديقه كامل البدوي وفي مسيرة البحث عنه يسمع أخباراً كثيرة عنه كلها تشي أن صديقه به مس أو به جنون، وحين يلتقيه الراوي لا يجد فيه ما يدل على ذلك. فها هو كامل البدوي في أصفى الحالات الإنسانية يهجم على الراوي يحتضنه ويجهش في البكاء. ذلك أنه استعاد ماضيه بل استعاد الإنسان الذي افتقده مما سبب له كل هذا السلوك الغريب. انهما الفقدان والخسارة اللذان يسببان المآسي وهي كثيرة في قصص وأقاصيص حمزة عبود، لكنها مآسٍ من النوع الذي ينتهي سريعاً ويزول بسرعة أكبر. ذلك أن اليومي محكوم بهذه التبدلات السريعة وعبود به هاجس التقاطه من جذره الحزين نتبيّنه من المعيش المروي كالعلاقات المتعددة في أكثر من قصة بين الراوي وفتاته أو متيمته أو عشقيته أو حبيبته وهي علاقات مستعادة. الى جانب حضور المرأة المستعادة وما تخلّف من حزن باقٍ ومن فرح طارىء، فإن المعيش اليومي له حضور كبير أيضاً كالانتخابات في لبنان من نيابية وبلدية الى الحرب الأهلية مروراً بالاحتلال الإسرائيلي وصولاً الى الهجرة وتحديداً الى باريس التي يربطها عبود في قصة "قراءة على قبر جوليان" ربطاً جيداً مع بيروت من خلال التشابه بين الاحتلال النازي هناك والاحتلال الإسرائيلي هنا ومقاومة هذين الاحتلالين من قبل الشعبين. نعثر دائماً في "هدوء حذر" على المفاجأة، مفاجأة اللغة الطرية والمشذبة، ومفاجأة السرد المنتهي غالباً بأمور لا نتوقعها، ومفاجأة الوخز الذي يطالنا كلما انتهينا من واحدة من القصص لنسأل: هل هذا ما كان يحصل معنا ولنا. ونجيب أنها قصص رشيقة ومائية فيها الكثير من شاعرية حمزة عبود.