صدر أخيراً في الولاياتالمتحدة كتاب "كل رجل نمر"، للروائي الأميركي الشهير توم كلانسي، بالتعاون مع الجنرال المتقاعد تشاك هورنر، قائد سلاح الجو الأميركي التاسع، قائد الوحدات الجوية التابعة للقيادة المركزية الأميركية سنتكوم أثناء حرب الخليج ضد العراق. وحصلت "الحياة" على الحق الحصري لنشر الكتاب بالعربية. تحدث الجنرال هورنر في الحلقة السابقة عن رحلته الى جدة في السادس من آب أغسطس 1990 ضمن الوفد الذي قاده وزير الدفاع الأميركي ريتشارد تشيني، واللقاء التاريخي هناك مع الملك فهد، حيث قرر خادم الحرمين الشريفين دعوة الولاياتالمتحدة وبقية الحلفاء الى دخول المملكة. وتلا ذلك لقاء مع الأمير سلطان بن عبدالعزيز اتفق فيه على التفاصيل الرئيسية لهذه الخطوة. وكان من ذيول اللقاء الأخير تعيين هورنر قائداً ل"المقر المتقدم" للقوات الأميركية في المملكة. في هذه الحلقة يصف الجنرال هورنر رحلته الى الرياض، واجتماعه الى القيادة العسكرية السعودية، حيث التقى هناك للمرة الأولى الفريق أول ركن خالد بن سلطان، قائد قوات الدفاع الجوي. عندما وصل تشاك هورنر وبقية المسؤولين الأميركيين الى قاعدة الرياض الجوية بعد ظهر الثلثاء السابع من آب أغسطس وجدوا في استقبالهم قائد القاعدة اللواء هشام حواري، وهو صديق قديم لهورنر منذ زيارته الأولى للملكة العربية السعودية في 1987. وتعود الاثنان خلال السنوات الثلاث من العمل المشترك حل الكثير من المشاكل بطرق غير رسمية، اختصاراً للمدة الطويلة التي يستغرقها الحل لو ترك بيد بيروقراطىي البلدين. وحرص حواري خلال ذلك على اعلام زملائه بأن هورنر أهل للثقة، وهو ما قوّى من علاقات الصداقة، المتنامية أصلاً، بين الجنرال الأميركي والفريق الركن احمد ابراهيم البحيري، قائد قائد القوات الجوية، وهو من أقرب اصدقاء حواري. والصداقة هي كل شيء بالنسبة إلى العرب... وجلس يوسوك وكاوفمان وهورنر وحواري في قاعة الاستقبال الأنيقة المخصصة لكبار الزوار، بهوائها المبرد المعطر واضائتها المريحة وثرياتها الرائعة والسجاد الفارسي الذي يغطي ارضيتها الشاسعة. فيما دار عليهم نادل سوداني طويل القامة هادىء الملامح بأكواب القهوة والشاي... وبعد فترة مقبولة من المجاملات والتعليقات العابرة سأل حواري الجنرال هورنر عن الاحداث في الكويتالمحتلة، وعن الدول المحيطة بالمملكة الكثير منها لم يكن ودياً تجاهها. ما هو الموقف في الكويت؟ من غادر ومن قتل؟ ماذا كانت القوات العراقية تفعل هناك؟ وهل سيهاجمون المملكة؟ ماذا يحصل في اليمن والسودان؟ وفي البحار المجاورة؟ ذلك ان مصدر معلومات حواري وقتها كان الإشاعات، وهو ما عاشت عليه المملكة بأسرها تلك الأيام العصيبة... الإشاعات والمعلومات كان للمعلومات اهميتها الخاصة بالنسبة إلى السعوديين لأنهم، بخلاف الأميركيين الذين يجدون مصادر التهديد بعيدة عنهم، يرون خطراً من الجيران الأقرب، أي العراق وايران واليمن، وحتى السودان. من هنا فان شعورهم بالتهديد كان حاداً، ومخاوفهم مباشرة. على الصعيد العملي، كان حواري، بصفته قائد وحدة طائرات الرصد "أواكس" السعودية، بحاجة الى تقديرات دقيقة لنيات العراقيين. فقد كانت طائراته تغطي مناطق الشمال الشرقي على مدار الساعة. لكن مشكلته انه لم يستطع وضع اكثر من طائرة واحدة في الجو كل مرة كانت لهم خمس طائرات "أواكس"، ونسبة الطلعات صحيحة لهذا العدد. وادى هذا الى انهم لم يستطيعوا ان يغطوا في طلعاتهم المنفردة سوى قاطع صغير نسبياً نحو ربع مساحة المنطقة الحدودية تقريباً من الحدود الطويلة بين السعودية والعراق. وترك ذلك فراغات في التغطية الرادارية الخفيضة. ولو كان سلاج الجو العراقي اخترق الحدود جنوباً في اي اتجاه سوى الشرق لكان على القوات الجوية السعودية الاعتماد على محطات الرادار الأرضية لرصد التحرك. وخشي حواري ان يستغل العراقيون نقطة الضعف هذه للهجوم على المملكة، وفي هذه الحال ستكون قاعدة الرياض الجوية هدفاً ثميناً لهم. بعدما قدم إليه هورنر كل ما امكن من المعلومات، وطمأنه الى أن عدداً كافياً من طائرات "اواكس" كان في طريقه الى المملكة لسد هذه الثغرة، ودع الصديقان أحدهما الآخر، وأخذ هورنر ويوسوك وكاوفمان السيارة الى مقر وزارة الدفاع والطيران للاجتماع الى قادة القوات السعودية ورئيس هيئة الاركان العامة الفريق اول ركن محمد صالح الحماد، الضابط الوحيد في الخدمة الفعلية في السعودية الذي يحمل رتبة تعادل جنرال بأربع نجوم، وهو بذلك نظير كولن باول منصباً ورتبة. في نحو الثالثة بعد الظهر وصلت السيارة التي تقل الوفد الأميركي الى مجمع وزارة الدفاع، واستقبله المسؤولون السعوديون لمرافقته الى مكتب الفريق اول ركن الحماد، حيث كان في انتظارهم رئيس الأركان وقادة الأسلحة السعودية الأربعة، البر والجو والبحر والدفاع الجوي. وعرض الجنرال كاوفمان على بقية الوفد، اثناء السير عبر المجمع الفسيح الرائع البناء، عدداً من المقترحات: الأول: ان مبنى وزارة الدفاع والطيران يصلح تماماً مقراً لقيادة "سنتكوم". واعتبر هورنر انها فكرة ممتازة، لان تجاور "سنتكوم" مع هيئة الأركان السعودية سيعني تلقائياً تجنب بعض الأخطاء الرئيسية التي ارتكبت في فيتنام، حيث بقي الأميركيون بمعزل عن الفيتناميين الجنوبيين، عدا بعض "المقرات المشتركة" و"مجموعات الاتصال" التي اصطنعت غالباً لاسباب دعائية. وكانت رغبة هورنر ان يعمل الجميع ضمن فريق واحد وبمساواة تامة من دون أن يدعي احد لنفسه دور "الأخ الأكبر المنقذ". ثانيا: انهت وزارة الدفاع والطيران اخيراً العمل على مركز قيادة تحت الأرض، وعلى هورنر ان يطلب السماح ل"سنتكوم" باستعماله مقراً لها. ثالثا: ترحب بعثة التدريب الأميركية بالجنرال هورنر اذا اراد استعمال المكاتب المخصصة لها في مقر وزارة الدفاع لاقامة "المقر المتقدم" ل"سنتكوم". وبلغ من ارتياح هورنر إلى لاقتراحات انه عين كاوفمان فوراً رئيساً لأركانه. شخصية قوية صريحة بعد لحظات وصل الوفد الى غرفة الاجتماعات في وزارة الدفاع والطيران، حيث كان الفريق اول ركن الحماد يعقد اجتماعه اليومي مع قادة الأسلحة القتالية السعودية منذ بداية الأزمة. وهو الاجتماع الذي شارك الأميركيون فيه منذ ذلك الحين. ووجد هورنر في الاجتماع صديقه القديم الفريق ركن البحيري قائد القوات الجوية السعودية، وأيضا قائد القوات البرية الفريق ركن يوسف عبدالرحمن الراشد، وقائد القوات البحرية الفريق ركن طلال سالم المفضي، ومدير قسم التخطيط والعمليات في وزارة الدفاع اللواء محمد يوسف مدني. اخيراً، كان هناك الى يسار الفريق اول ركن الحماد شخص لم يعرفه هورنر سابقاً، هو الفريق أول ركن الأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز، قائد قوات الدفاع الجوي وقتها، الذي كان سيصبح قريباً قائد قوات السعودية عموماً والقائد المشارك، مع شوارزكوف، لقوات التحالف. الأمير خالد، وهو أكبر أبناء الأمير سلطان بن عبدالعزيز، رجل متين البنية، يتجاوز ستة اقدام طولاً ومئة كيلوغرام وزناً، بشارب أسود وشعر مسرّح الى الخلف. درس العلوم العسكرية في كلية ساندهرست البريطانية، نظيرة وست بوينت الأميركية، ويتكلم الانكليزية والفرنسية بطلاقة. ويمتاز الأمير خالد أيضاً بقوة الشخصية كما اكتشف هورنر بعد قليل، وهي صفة قد تعود الى دراسته في ساندهرست. ويميل الى المصارحة بدل اللف والدوران المعروفين عن غالبية العرب، الحريصين على المجاملة الى حد يمنعك من معرفة ما يريدون او يكرهون. أما مع خالد فيمكنك دوماً ان تعرف الموقف، ولهذا كان العمل معه أسهل من التعامل مع أكثر العرب. بعد المصافحات والمجاملات بدأ الاجتماع اعماله بالاستماع الى تقرير مدعوم بالصور الجوية قدمه اثنان او ثلاثة من بعثة التدريب العسكري الأميركية في المملكة. وهو التقرير نفسه الذي قدمه وزير الدفاع ريتشارد تشيني الى خادم الحرمين الشريفين الملك فهد في اجتماع جدة. ولم يحمل التقرير جديداً: العراقيون اصبحوا في الكويت، فيما كان الكثير من الكويتيين في المملكة، ولم تكن هناك قوات عسكرية تذكر لوقف الفرق العراقية ال27 المنشورة في الكويت اذا قررت التحرك جنوباً عبر حدود المملكة. ولكن بدا وقتها ان العراقيين انهمكوا في تعميق التحصينات، مما يعني انهم لا يخططون لهجوم فوري. لكن العسكريين يخططون لمواجهة امكانات الخصم ولا يجدون نفعاً كبيراً في التركيز على النيات. هورنر يشرح الخطة بعد ذلك قدم الجنرال هورنر الى العسكريين السعوديين تقريراً مختصراً عن زيارته لجدة، موضحاً ان الرئيس جورج بوش أوفد المسؤولين الأميركيين للاطلاع على حاجات الملك فهد ورغباته. كما اطلع هورنر الحضور على مضمون الاجتماع مع النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء السعودي وزير الدفاع والطيران المفتش العام الأمير سلطان بن عبدالعزيز ذلك الصباح. وأشار الى الخطوات التي ستتخذ خلال الأسابيع القليلة المقبلة. وأوضح هورنر ان دعوة الملك فهد القوات الأميركية تعني ان وحدات من جحفل المارينز السابع ستصل الى جبيل في وقت قريب، مترافقاًً مع وصول الفرقة 82 المنقولة جواً الى الظهران، تتبعها فرقة المشاة المؤللة 24 وفرقة المظليين الهجومية 101. وأكد قرب وصول أسراب المقاتلات الأميركية الى كل القواعد السعودية الرئيسية، وأن الجناح التكتيكي الأول بمقاتلات "أف - 15 سي" وجناح الاستطلاع 552 بطائرات "أواكس" كانا بالفعل في طريقهما الى المنطقة. هكذا فان المملكة العربية السعودية كانت على وشك استقبال مئات الألوف من الجنود الأميركيين، في خطوة ضرورية لمواجهة التهديد العسكري، لكنها مثّلت ايضاً خطراً على مجتمع يختلف اختلافاً هائلاً عن مجتمع الولاياتالمتحدة. كان معظم هؤلاء الضباط الكبار من خريجي الكليتين العسكريتين الأميركيتين في فورت ليفينورث أو قاعدة ماكسويل الجوية، ولذا كانوا يدركون تماماً المدى المذهل الذي سيأخذه الانتشار الأميركي. ولكن لم يكن من بينهم، ولا حتى هورنر، من كانت له خبرة فعلية بتحرك على هذا النطاق. من هنا كان هورنر مستعداً لمواجهة فوضى شاملة، ولم يستغرب عندما تحقق هذا التوقع. أزمة توحيد المقرين بعد ذلك واجه الاجتماع أزمة كان مثيرها تشاك هورنر عندما قال: "ايها الجنرال الحماد، اعتقد بأن علينا توحيد مقري قيادتينا". ثم سأل: "هل يمكننا ان نرى اذا كان مركز القيادة الجديد لديكم يصلح مقراً مشتركاً؟" ووجد السعوديون صعوبة كبيرة في التعامل مع الطلب، وكان الأصعب عليهم ان يروا مئات الأميركيين والأميركيات في مبناهم الجديد. ووجد هورنر واللواء الحمد نفسيهما في موقف حرج، انطلق فيه الأول لا يلوي على شيء فيما كان الثاني يحاول أن يحدد ما يمكن الاتفاق عليه. عند هذه النقطة انتقل الجانب العربي للاجتماع الى ما كان الأميركيون يسمونه "القناة الثانية"، أي ان الضباط العرب تحولوا الى استعمال اللغة العربية فما بينهم. ولكن لما كان هورنر وبقية الأميركيين قضوا زمناً في المملكة وكانوا على بعض الالمام بالعربية فقد تمكنوا من فهم اتجاه الكلام على "القناة الثانية". وبدا لهم ان النقاش دار على نقطتين: امكان تجاور المقرين، وامكان السماح للأميركيين باستعمال مبنى الوزارة، خصوصاً مركز القيادة السري الجديد، لهذا الغرض. خلال النقاش التقط الحماد الهاتف، وقدّر هورنر انه يريد استشارة رئيسه الأمير سلطان بن عبدالعزيز في القضية، ولكن تبين بعد مكالمة قصيرة انه لم يستطع الوصول الى صاحب السمو الملكي فعاد الى مخاطبة الحاضرين بالانكليزية، قائلا للجنرال هورنر: "لا اعرف عن امكان استعمال مركز القيادة يا تشاك. انه جديد تماماً ولم نكمل بعد تركيب كل اجهزة الهاتف والاتصال". العادة في المملكة انك لا تسمع "لا" صريحة، بل سلسلة من التبريرات المقنعة لعدم امكان التوصل الى قرار في ذلك الوقت. في تلك اللحظة انتقل الى "القناة الثانية" الرجل الذي لم يكن هورنر التقاه من قبل، أي قائد قوات الدفاع الجوي الفريق أول ركن الأمير خالد بن سلطان، مخاطباً الفريق اول ركن الحماد بالعربية. وترجم هورنر مؤدى كلامه كما يلي: "علينا التحرك بسرعة، وسأحاول، مع جزيل الاحترام، ان ارى ما يمكن عمله". ثم القى الأمير خالد الى الطاولة بدفتر ملاحظاته وانطلق خارجاً من قاعة الاجتماع. وخفتت الأصوات، ودار الكلام على أمور عادية. في اللحظة التالية، وكأنما بسحر ساحر، رن جرس هاتف الفريق اول ركن الحماد. واستغرقت المكالمة بعض الوقت، وامتازت من طرف الحماد بالكثير من تعابير التبجيل والاحترام. بعد نهايتها استدار الحماد الى هورنر وقال بابتسامة: "لماذا لا نؤجل الاجتماع وننزل لالقاء نظرة على مقر القيادة؟" وخلال دقائق استقل الجميع المصعد الى المجمع الجديد من طبقتين تحت الأرض، والذي كان هورنر سيهيئه للجنرال شوارزكوف وأركانه. ولم يكن يعرف وقتها انه كان اثناء وجوده في الرياض خلال الشهورالتسعة التالية سيزور مقر القيادة هذا يومياً. الحلقة السادسة: الاحد المقبل. مخاوف من تقدم عراقي نحو شرق السعودية.