صدر أخيراً في الولاياتالمتحدة كتاب "كل رجل نمر"، للروائي الأميركي الشهير توم كلانسي، بالتعاون مع الجنرال المتقاعد تشاك هورنر، قائد سلاح الجو الأميركي التاسع، قائد الوحدات الجوية التابعة للقيادة المركزية الأميركية سنتكوم أثناء حرب الخليج ضد العراق. وحصلت "الحياة" على الحق الحصري لنشر الكتاب بالعربية. في الحلقة الماضية، تحدث هورنر عن علاقاته الطويلة بالمملكة العربية السعودية، واعجابه بها سكاناً وأرضاً وتاريخاً. ووصف مشاركته في الوفد الذي ارسله الرئيس جورج بوش الى المملكة للتشاور. ووصف ظروف الاجتماع التاريخي بين الوفد وخادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز ، حيث قررت القيادة السعودية دعوة القوات الأميركية والحليفة للمساعدة على مواجهة الخطر. وفي هذه الحلقة، يواصل هورنر الحديث عن مهمة الوفد الذي قاده وزير الدفاع الأميركي ريتشارد تشيني، واجتماعه الحاسم مع النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء السعودي وزير الدفاع والطيران المفتش العام الأمير سلطان بن عبدالعزيز حيث وضعت اللمسات الأولى على تفاصيل الاتفاق العسكري بين الطرفين على مواجهة الغزو العراقي. في صباح اليوم التالي لاجتماع الوفد الأميركي مع خادم الحرمين الشريفين التقى الوفد النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء السعودي وزير الدفاع والطيران المفتش العام الأمير سلطان بن عبدالعزيز. وبعدما دخل الجميع غرفة الاستقبال الفخمة بجوها المعطر بماء الورد اتخذ الأمير سلطان مجلسه على أريكة كبيرة والى يمينه عليها وزير الدفاع تشيني. ووقف بين الاثنين للترجمة الأمير بندر بن سلطان. وكان للأمير سلطان ما يكفي من الطلاقة باللغة الانكليزية لادارة الاجتماع بتلك اللغة. لكن الوضع لم يسمح بأي نوع من سوء التفاهم، ووجب على الطرفين التدقيق بمعنى كل كلمة وتحديد وزنها قبل استعمالها. واتخذ بقية الحضور، من العسكريين السعوديين واعضاء الوفد الأميركي مقاعدهم. كل القادة السعوديين الرئيسيين، عدا الأمير سلطان، كانوا في الرياض وقتها. بدا على الحضور اثناء الاجتماع التوتر والاضطراب. فقد كانوا في اللحظات الأولى من زيجة فريدة الأهمية، ولم يكن الزوج والزوجة على ثقة بقدرتهما على التعايش، على رغم رغبتهما الشديدة في المحاولة. لكن علاقة تشاك هورنر وجون يوسوك الطويلة بهذا الجزء من العالم لم يفوقهما في ذلك، ربما، سوى السفير تشاز فريمان جعلتهما الأكثر اطمئنانا من باقي الأميركيين في القاعة. فقد عرفا من العربية ما يكفي لعدم الاعتماد الكامل على المترجمين، كما امكنهما استقراء تعابير وجوه العرب وما توحي به طريقة الجلوس والحركات لفهم الأمزجة والعواطف الكامنة خلف ما كان يدور. اتفاق وتعهدات وهذا ما اتفق عليه الطرفان ذلك الصباح: أن يفتح السعوديون قواعدهم الجوية وموانئهم للقوات الأميركية، وان يدفعوا حصة الأسد من كلفة المشروع الهائل الذي كان الطرفان على وشك القيام به. وتعهد ممثلو الولاياتالمتحدة أن تحترم قواتهم قوانين المملكة العربية السعودية وتقاليدها، وان تغادر البلاد حالما يطلب المضيف ذلك، وهو ما يشكل اشارة اضافية الى ان الولاياتالمتحدة استوعبت درس فيتنام. بعد الاتفاق على كل هذا بقي السؤال: من سيكون في موقع القيادة اثناء عودة قائد "سنتكوم" الى الولاياتالمتحدة لكي يبدأ تلك العملية الجبارة التي ستعرف باسم "درع الصحراء"، اذ كان لا بد من تعيين شخص ما لقيادة طليعة القوات الأميركية والبقاء في الرياض لتنظيم الأمور اثناء تدفق الوحدات والمعدات من الولاياتالمتحدة، وان يقود تلك القوات في غياب القائد الأصلي في حال هجوم العراقيين على المملكة؟ بعد مناقشة بين قادة الوفد الأميركي أشار الجنرال شوارزكوف الذي كان يجلس قرب وزير الدفاع تشيني، عبر القاعة الى الجنرال في سلاح الجو الأميركي تشاك هورنر. عندما عرف هورنر انه سيكون قائد طليعة "سنتكوم" خلال الاسابيع المقبلة تضارب عنده شعوران: الأول كان الاعتزاز "أنا سأكون القائد!" فيما جاء الشعور الثاني المخيف عندما فكر في ان العملية التي سيقود ربما تحولت الى كارثة كبرى. وحمد الله بصمت على وجود جون يوسوك وغرانت شارب ودون كاوفمان الذين كانوا معه في تلك القاعة الفخمة ولكن المتوترة الجو. وعاد هورنر ليتضرع صامتا الى الله ليعينه على اداء مهماته. بعد ظهر ذلك اليوم كان تشيني وبقية العائدين الى الولاياتالمتحدة في مطار جدة يعطون تعليماتهم الأخيرة للباقين في المملكة العربية السعودية. ولم يحدس أحد وقتها ان ذلك المجمع الضخم المسمى "جدة نيو"، المطار الرئيسي للحجاح في طريقهم الى الحرمين في مكة والمدينة، سيمتليء تماما بعد ستة شهور بقاذقات "بي - 52" وناقلات الوقود "كي سي 135". اثناء ذلك كان هناك على الحدود اكثر من عشرين فرقة عراقية متمرسة بالحرب، فيما لم يكن تحت تصرف هورنر سوى سريتي مصفحات تابعتين للحرس الوطني السعودي. مخطط لحملة جوية استراتيجية ووسط حرارة الرياح وضجيج عمليات الشحن والوداع وقف شوارزكوف وهورنر على رصيف المطار قرب الطائرة المخصصة لوفد تشيني وتباحثا في ما يجب عمله. وكان من بين النقاط التخطيط للحملة. وقال شوارزكوف لقائد سلاحه الجوي: "هيئة اركانك ستنشغل بالتوضيب والانتشار، ولهذا سأطلب من هيئة الأركان أي الهيئة الأميركية المشتركة للأركان بدء العمل على مخطط لحملة جوية استراتيجية". كان لتعبير "حملة جوية استراتيجية" وقع اجراس العيد على اذن هورنر. ذلك ان قائد قوات "سنتكوم" يتصرف كأنه فعلا قائد لكل تلك القوات وليس من منظور جنرال في الجيش. فهو يتكلم عن "حملة جوية استراتيجية" ويعني بها حملة هجومية بالتأكيد وليس عن حملة أرضية لصد غزو عراقي محتمل او طرد العراقيين من الكويت. ولكن ما المقصود؟ ان غالبية خطط الحملات الجوية تأتي بطلب من الجيش، وهدف الجيش هو الحاق الهزيمة بجيش العدو. وما يعنيه التخطيط الجوي بالنسبة إلى رجل من الجيش هو استعمال الطيران لدعم عملياته الأرضية. لكن هذا ليس منظور رجل الطيران. لأن مهمته كما يرى هي هزيمة العدو، وهي مهمة قد تشمل او لا تشمل هزيمة جيش العدو. هكذا فان الحملة الجوية الاستراتيجية حسب عقيدة سلاح الجو تستهدف صميم العدو وليس قواته الأرضية فحسب. وكان هورنر ، باكراً في نيسان أبريل 1990، قدم تقريراً الى شوارزكوف عن الحاجة الى صوغ خطة جوية استراتيجية استعداداً لمناورات "النظرة الداخلية" التي كانت ستجرى في تموز يوليو. سيناريو المناورات كان يدور على صدام بين جيشين، لكن هورنر اراد ان يبين ان لسلاح الجو دوراً يتجاوز دعم القوات الأرضية، وأن يطرح على قائده الجديد أفكاراً جديدة تسمح لهورنر باستخدام السلاح استخداماً أكثر نفعاً وفاعلية. وتكلم أثناء تقديم التقرير عن الدفاع ضد الصواريخ، والدعم الجوي المباشر، وطريقة التعاون مع القوات الحليفة والاستخدام "الاستراتيجي" لسلاح الجو. واعجب شوارزكوف بالتقرير، وشعر بضرورة توسيع مفهومه لاستخدام هذا السلاح لكي يكامل استيعابه الهائل لسبل استخدام القوة الأرضية. هكذا عندما تكلم شوارزكوف منذ البداية عن الحاجة الى خطة لحملة جوية استراتيجية اظهر استفادته من ذلك التقرير الذي تسلمه باكرا في نيسان. الأهم من ذلك في نظر تشاك هورنر ان شوارزكوف برهن على نضج في وعيه العسكري جعله يتجاوز منظوره الأصلي كقائد للقوات الأرضية. وسعد هورنر تلك اللحظات بما سمعه من قائده. لكن ذلك لم يدم طويلاً. وكيف كان له ان يدوم؟ شبح فيتنام بعد لحظة أدرك ما في فكرة القائد من خطر، وتحولت اجراس العيد في اذنه الى صفارات انذار، وعاد شبح فيتنام لينتصب امامه. وقال لشوارزكوف: "واشنطن؟ البنتاغون؟ انها كارثة!" واجتاحه غضب عارم عندما فهم ان القائد ينوي تكليف واشنطن وضع الخطة، وصاح: "فليكن، لكن اختيار الاهداف لن يكون بيد واشنطن!" فوجيء شوارزكوف بغضب هورنر، لكنه رد مبتسماً: "اسمع يا تشاك. انت قائد سلاحي الجوي، ولك سلطة الفيتو على كل شيء يتعلق بالجو. ولن تكون هناك خطة لا تقدم اليك اولاً. سنخطط لهذه الحرب وننفذها هنا في مسرح العمليات". اذن فهو ايضاً يتذكر فيتنام. فكّر هورنر عند سماعه تلك الكلمات ان لهيئة الأركان المشتركة ايجابياتها، وهي ممتازة في عدد من المجالات. لكن مهارتها الأبرز هي التوفيق بين مطالب الجيش والبحرية وسلاح الجو والمارينز. ولا بد لأية خطة تقوم على هذا النوع من التسوية ان تكون ضعيفة، كما ان خطة جوية لا يرسمها طيارون لا بد من ان تكون كارثية. واطمأن هورنر الى ان شوارزكوف يعرف ذلك بالغريزة ويضمن ان العمل الذي سيبدأ في واشنطن سيعرض على الطيارين الذي كان عليهم تنفيذ الخطة وانجاحها. وما لبثت توقعاته من شوارزكوف ان اثبتت صحتها. نجدات جوية وحاملة طائرات بعدما استقل اعضاء الوفد طائرتهم عائدين الى الولاياتالمتحدة، غادر غرانت شارب وبول ولفووتز المملكة في جولة على الدول الخليجية الحليفة للتشاور والحصول على المساندة للقوات الأميركية، فيما استقل السفير فريمان والجنرال جون يوسوك ومساعده الرائد فونغ والجنرال دون كاوفمان وبيل رايد وتشاك هورنر طائرة "سي 12" صغيرة بمحركين مروحيين تابعة لبعثة التدريب العسكري الأميركية العاملة في المملكة العربية السعودية. وارتسم على ملامح الركاب، عدا هورنر، القلق من صغر حجم الطائرة. واذ حال صوت المحركات دون تبادل الحديث، استرخى هورنر في مقعده مفكراً في ما عليه عمله. كان هورنر في وقت سابق من اليوم بدأ باطلاق ذلك السيل العارم من النجدات الجوية المطلوبة عندما طلب من بوب روس في "القيادة الجوية التكتيكية" تحريك طائرات "اف - 15" التابعة لجناح المقاتلات التكتيكي الأول شرقاً لعضد سلاح الجو الملكي السعودي الذي كانت طائراته ال "أف - 15" القتالية و"أواكس" الاستطلاعية تحرس المجال الجوي السعودي على مدار الساعة منذ الغزو العراقي للكويت. مهمة جناح المقاتلات التكتيكي الأول لدى وصوله كانت مواجهة الهجمات الجوية، فيما كان على الجناح 363 بمقاتلاته ال"اف - 16 سي" التكفل بالدعم الأرضي. وكان هورنر وضع هذين الجناحين التابعين لسلاح الجو التاسع في حال التأهب مع بداية الأزمة في تموز يوليو، مثيراً غضب رؤسائه في سلاح الجو الذين لم يكونوا ضمن منظومة قيادة "سنتكوم". خلال ذلك كانت البحرية وجهت الى الخليج قوة تقودها حاملة طائرات، فيما كان المارينز في طريقهم الى مسرح العمليات. كما تحرك ايضاً باتجاه المملكة العربية السعودية صديق تشاك هورنر القديم الجنرال غاري لاك على رأس طليعة الفيلق الثامن العشر المحمول جواً. وتشكلت غالبية الطليعة من مظليي الفرقة 82 المحمولة جواً. بعد ذلك استعرض هورنر في ذهنه مراكز استقبال وحدات الجيش والمارينز لدى وصولها الى المملكة، وايضاً مواقع الانتشار. وسأل نفسه: كيف سنوفر لهم المأوى والطعام متذكراً الهجوم على موقع المارينز في بيروت الذي أدى الى مقتل المئات منهم؟ وعلى رغم ان السعودية قد تكون البلد الأكثر أماناً في العالم، فلا يستبعد ان يكون فيها من يريد مساندة صدام حسين. وعاد هورنر ليتساءل: ماذا سيمكنهم القيام به ضد قواتنا اثناء انتشارها في المطارات والموانيء؟ وأيضا عندما تتحرك الى القواعد والى داخل الصحراء؟ ومهما كانت كفاءة القوات السعودية او الأميركية المكلفة مهمات الأمن فان بوسع قنبلة واحدة في المكان الصحيح القضاء على قيادة طليعة "سنتكوم" اثناء الانتشار. كما شكلت فنادق الرياض هدفاً سهلاً مكشوفاً امام فريق حسن التدريب من القوات الخاصة العراقية. واذا لم تكن الهجمات الارهابية او مجرد الحوادث مثل اصطدام طائرتين محملتين بالجنود تكفي لاثارة قلق هورنر فقد كانت هناك مباشرة عبر الحدود الشمالية الاعداد المتزايدة من الدبابات وغيرها من القطعات العسكرية العراقية. من هنا كان السؤال الأهم الذي طرحه هورنر على نفسه خلال تلك الأيام السود قبل استكمال انتشار قواته: "ماذا سنعمل اذا عبر العراقيون الحدود الليلة؟" وفي تلك الليلة بالذات لم يكن هناك امكان الرد على هجوم عراقي، اذ لم يفصل بين العراقيينوالرياض سوى سلاح الجو الملكي السعودي وبضع مئات من الأميال من الصحراء. وكانت خطة هورنر، في حال هجوم العراقيين تلك الليلة، التوجه بالسيارة الى جدة وركوب اول قارب معروض للاستئجار يلقاه هناك! لكن الليالي التالية شهدت تباعاً تنامي القوات المتوافرة لمقاومة الغزو العراقي الذي لم يحصل. وكانت هناك، اضافة الى هذه الاسئلة، المشاكل اليومية المعقدة المتعلقة بتنشيط التعاون من كل الدول المضيفة، اي ليس السعودية فحسب بل ايضاً البحرين وقطر والامارات العربية المتحدة وعمان ومصر. الوقت هو العدو! اذا اردت التعاطي بالأعمال في الشرق الأوسط فأول ما تحتاج إليه هو الصبر. ذلك ان الاسلوب الأميركي يتلخص بالتركيز على جوهر المشكلة وتحديد الخطوات المطلوبة للحل ثم التنفيذ. أما في العالم العربي فالتعامل يجري في شكل اهدأ. وينصب الاهتمام الأكبر هناك على العلاقات الشخصية، ولذا لا بد من اكثر ما يمكن من التمهل والمجاملة. ولا يقدم المرء تعهداً الا بعد تمحيص طويل، لأن لا مجال للتراجع عن الكلمة متى ما اعطيت. الاسلوب العربي هو التباحث والتفكير وتجنب الاخطاء التي تأتي من التعجل. انه تخصيص الوقت الكافي لفهم كل نواحي وضع ما، وتحاشي كل ما قد يؤدي الى استثارة المشاعر بين الأفراد او القبائل او الشعوب. هكذا قدّر هورنر انه يحتاج، اذا اراد للانتشار العسكري المزمع النجاح، الى نحو سنتين لمناقشة طريقة ايواء الوحدات العسكرية المتوافدة، وترتيب انظمة القيادة، ومن الذي يقوم بهذه المهمة او تلك، واين ومتى يجري ذلك. انه الوقت. والوقت هو العدو. كما ان صيف شبه الجزيرة العربية قاتل. ونيات العراقيين غامضة. عند هذه النقطة، في تلك الطائرة المنطلقة الى الرياض، انتاب هورنر شعور بالخواء، وتسللت الى ذهنه خواطر الخوف والتردد. وقال لنفسه: لا استطيع القيام بالمهمة. لست كفؤا لها. سأرتكب الأخطاء. ليس هناك من يستطيع مواجهة هذه التحديات. ولكن سرعان ما جاءته فكرة اخرى: ليس عليّ النجاح بمفردي. هناك جون يوسوك وبيل رايدر وعشرات غيرهم. انا لست وحدي. الاهم، ليس اي منا وحده، فالله حاضر دوماً. وأنا اثق بالله. ان شاء الله. الحلقة الخامسة: الجمعة المقبل. ازمتان بين العسكريين الاميركيين والسعوديين.