إطلاق النسخة التجريبية من "سارة" المرشدة الذكية للسياحة السعودية    الأهلي يهزم الرائد بثنائية    خيسوس: الهلال يثبت دائمًا أنه قوي جدًا.. ولاعب الاتفاق كان يستحق الطرد    ممثل رئيس إندونيسيا يصل الرياض    ضبط إثيوبيين في ظهران الجنوب لتهريبهما (51) كجم حشيش    انطلاق أعمال ملتقى الترجمة الدولي 2024 في الرياض    زلزال بقوة 6.2 درجات يضرب جنوبي تشيلي    الأخضر يغادر إلى أستراليا السبت استعدادا لتصفيات مونديال 2026    ترقية بدر آل سالم إلى المرتبة الثامنة بأمانة جازان    أربع ملايين زائر ل «موسم الرياض» في أقل من شهر    جمعية الدعوة في العالية تنفذ برنامج العمرة    «سدايا» تفتح باب التسجيل في معسكر هندسة البيانات    الأسهم الاسيوية تتراجع مع تحول التركيز إلى التحفيز الصيني    انطلاق «ملتقى القلب» في الرياض.. والصحة: جودة خدمات المرضى عالية    تقرير أممي يفضح إسرائيل: ما يحدث في غزة حرب إبادة    خطيب المسجد النبوي: الغيبة ذكُر أخاك بما يَشِينه وتَعِيبه بما فيه    فرع هيئة الهلال الأحمر بعسير في زيارة ل"بر أبها"    نيمار: 3 أخبار كاذبة شاهدتها عني    أمانة الطائف تجهز أكثر من 200 حديقة عامة لاستقبال الزوار في الإجازة    رفع الإيقاف عن 50 مليون متر مربع من أراضي شمال الرياض ومشروع تطوير المربع الجديد    بطلة عام 2023 تودّع نهائيات رابطة محترفات التنس.. وقمة مرتقبة تجمع سابالينكا بكوكو جوف    المودة عضواً مراقباً في موتمر COP16 بالرياض    خطيب المسجد الحرام: من صفات أولي الألباب الحميدة صلة الأرحام والإحسان إليهم    في أول قرار لترمب.. المرأة الحديدية تقود موظفي البيت الأبيض    دراسة صينية: علاقة بين الارتجاع المريئي وضغط الدم    5 طرق للتخلص من النعاس    حسم «الصراعات» وعقد «الصفقات»    «مهاجمون حُراس»    محافظ محايل يبحث تطوير الخدمات المقدمة للمواطنين    شرعيّة الأرض الفلسطينيّة    فراشة القص.. وأغاني المواويل الشجية لنبتة مريم    جديّة طرح أم كسب نقاط؟    الموسيقى.. عقيدة الشعر    في شعرية المقدمات الروائية    ما سطر في صفحات الكتمان    لصوص الثواني !    مهجورة سهواً.. أم حنين للماضي؟    «التعليم»: تسليم إشعارات إكمال الطلاب الراسبين بالمواد الدراسية قبل إجازة الخريف    متى تدخل الرقابة الذكية إلى مساجدنا؟    لحظات ماتعة    حديقة ثلجية    محمد آل صبيح ل«عكاظ»: جمعية الثقافة ذاكرة كبرى للإبداع السعودي    فصل الشتاء.. هل يؤثّر على الساعة البيولوجية وجودة النوم؟    منجم الفيتامينات    قوائم مخصصة في WhatsApp لتنظيم المحادثات    أُمّي لا تُشبه إلا نفسها    الحرّات البركانية في المدينة.. معالم جيولوجية ولوحات طبيعية    جودة خدمات ورفاهية    الناس يتحدثون عن الماضي أكثر من المستقبل    من توثيق الذكريات إلى القصص اليومية    الأزرق في حضن نيمار    نائب أمير الشرقية يطلع على جهود اللجنة اللوجستية بغرفة الشرقية    أمير الباحة يستقبل مساعد مدير الجوازات للموارد البشرية و عدد من القيادات    أمير تبوك يبحث الموضوعات المشتركة مع السفير الإندونيسي    التعاطي مع الواقع    ليل عروس الشمال    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني وفريق عملية زراعة القلب بالروبوت    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هورنر: وصلت إلى البلد الذي أحب والناس الذين أحب ... واتخذ الملك فهد واحداً من أكثر القرارات شجاعة وحكمة الحلقة الثالثة
نشر في الحياة يوم 22 - 06 - 1999

صدر أخيراً في الولايات المتحدة كتاب "كل رجل نمر"، للروائي الأميركي الشهير توم كلانسي، بالتعاون مع الجنرال المتقاعد تشاك هورنر، قائد سلاح الجو الأميركي التاسع، قائد الوحدات الجوية التابعة للقيادة المركزية الأميركية سنتكوم أثناء حرب الخليج ضد العراق. وحصلت "الحياة" على الحق الحصري لنشر الكتاب بالعربية.
تحدث الجنرال هورنر في الحلقتين السابقتين عن ردود الفعل الأميركية الباكرة على غزو العراق الكويت مطلع آب أغسطس 1990. وكان اول هذه اجتماع القيادة المركزية الأميركية سنتكوم لاعداد التقارير عن الخيارات العسكرية المتاحة أمام الرئيس جورج بوش. تلا ذلك الاجتماع الرئاسي في كمب ديفيد، وقرار ارسال وفد برئاسة وزير الدفاع ريتشارد تشيني الى المملكة العربية السعودية للوقوف على رأي القيادة السعودية. واصطحب تشيني معه قائد "سنتكوم" الجنرال نورمان شوارزكوف وعدداً من كبار ضباطه، من بينهم الجنرال هورنر.
في هذه الحلقة يتحدث هورنر عن سعادته بالعودة الى السعودية والمراحل الاولى من تعرفه إليها ومشاعره تجاهها، قبل ان يتناول الاجتماع التاريخي الذي قررت فيه المملكة، ازاء احتلال العراق الكويت والتهديد الذي يشكله لها، السماح لقوات التحالف الدولي بدخول اراضيها.
]...[ وصل الوفد الأميركي الى مطار جدة في الرابعة بعد ظهر الاثنين السادس من آب أغسطس، واستقبلته فور فتح باب الطائرة هبة من رياح ساخنة. ولم تزعج الحرارة الجنرال هورنر لأنها أعلمته انه وصل إلى البلد الذي يحب والناس الذين يحب. وتطلع الى رؤية اصدقائه هناك والعودة الى العمل معهم.
قال الجنرال هورنر عن بداية صلاته بالعالم العربي: على رغم لقائي عددا كبيرا من العرب قبل 1981، فقد كان أول صديق من كبار ضباط سلاح الطيران شخصاً طويل القامة صموتاً، إنه الفريق الركن جو احمد البحيري، قائد قاعدة الطائف الجوية ذلك الحين، الذي اصبح بحلول 1990 قائد القوات الجوية.
ثم يتحدث هورنر عن اللقاء الأول مع البحيري في قاعدة نيليس الجوية حيث أقام الجنرال بوب كيلي، قائد مركز اسلحة المقاتلات حفلة في الهواء الطلق. ويروي كيف تقدم وزوجته ماري جو للتعرف إلى قائد قاعدة الطائف. ويضيف:
بين حضارتين
الفريق الركن البحيري شخص خجول، ولكن ليس لأنه يخاف الآخرين. كل ما في الأمر انه لا يميل الى الاكثار من اللقاءات والمجاملات. وبعدما تكلمنا فترة في الشؤون العادية، انبرت ماري جو فجأة، بالصراحة المعهودة من سكان ولاية آياوا، للهجوم على الرجال العرب، بسبب حادث كان لا يزال مؤلما بالنسبة إليها. فقد اعتدنا، عندما كنت قائد جناح في قاعدة وليامز الجوية، حضور حفلات العشاء المقامة على شرف خريجي دورات مقاتلات "أف - 5 إي" للطيارين الأجانب. وحاولت ماري جو في واحدة من هذه الحفلات ان تتحدث الى طالب عربي من السعودية أو الاردن. شخصية ماري جو مليئة بالود والانفتاح، ولهذا يصعب عليها عدم تجاوب الشخص المقابل مع مجاملاتها. وعندما وجدت من ذلك الشخص ما اعتبرته تباعداً وتكبراً مهينين ظنت ان هذا هو شأن كل الرجال العرب. من جهتي، اعتقد بأن مصدر احراجه في الدرجة الأولى كان انها زوجة قائد الجناح وليس انها غير محجبة. لكن الفكرة التي خرجت بها ماري جو كانت ان العرب يشعرون بالتعالي على النساء.
عندما ختمت ماري جو قصتها بالقول: "هكذا ترى يا جنرال البحيري ان الرجال العرب يكلمونني بتكبر وازدراء ولهذا لا احب التحدث اليهم". وكان جوابه الأول ابتسامة مرحة عريضة. وبقي على مرحه عندما أوضح لنا معاً سبب ما يبدو من تنائي الرجال العرب عند التعامل مع امرأة غربية عدم تعودهم خشونة السلوك من الغرباء، خصوصاً النساء. بعد ذلك اعطانا محاضرة جادة مختصرة عن الفروق بين المنظورين العربي والغربي للنساء.
ما قاله لم يكن مفاجئا: الفكرة المعهودة في المكانة الرفيعة التي تعطيها حضارته للمرأة، مثلما في الجنوب الأميركي قبل الحرب الأهلية، والحماية التي توفرها لها، واعتبار ان من سوء الخلق للرجل ان يخاطب مباشرة زوجة غيره. وهذا هو مبرر الحجاب والملابس المحتشمة: انها لحماية المرأة .... ولم يتوقف عند هذا الحد، لأنه أمضى في اميركا ما يكفي من الوقت لكي يعلم ان نساءنا يرفضن ذلك النوع من الحماية الذي يعتبره العرب، رجالا ونساء، امراً طبيعياً، وان ما تعتبره المرأة العربية حماية هو القمع بالنسبة إلى الأميركية. ولم يجد ما يضير في الفرق بين المنظورين، بل انه نظر الى الثقافتين بواقعية، ملاحظاً في كل منهما قسطه من السلبيات والايجابيات. واعتبر ان نجاح كل حضارة يتوقف على انقياد اخيارها لدوافع الخير، أما الأشرار فلا يأتي منهم سوى الشر اينما كانوا.
استمر هذا اللقاء ساعات، وكشف لنا الكثير. ولكن ليس لأنه اخبرنا بما لم نكن نعرفه من قبل، بل لأنه كان صادقاً ومنصفاً ومنفتحاً، واحببت ما وجدته فيه من استقامة وبصيرة وتفهم. أو كما كان بيل كريتش يقول: "امامك فرصة واحدة فقط لاعطاء الانطباع الأول!" وفي هذه الحال كان الانطباع الذي تركه البحيري لدينا بالغ الايجابية.
إعجاب بالقادة العرب
لكن يكفي. ها نحن الآن بعد سبع سنوات على ذلك، في الفترة التي علمت فيها في شكل غير رسمي انني سأحل محل بيل كيرك في قيادة السلاح الجوي التاسع. وكان بيل على وشك اصطحاب قائدنا بوب روس في جولة في انحاء الشرق الأوسط للاطلاع على سير عمل أفراد القيادة الجوية التكتيكية وظروف عملهم في تلك الدول، وهي مصر والمملكة العربية السعودية والبحرين وعمان وباكستان. ولما كانت هذه ستكون مهمتي قرر بيل اصطحابي. وفي السعودية التقيت البحيري مرة اخرى، وكان الانطباع عنه وهو في بلاده اقوى حتى من الانطباع الأول.
للأميركيين وانا منهم ميل الى الاستعلاء على الغير. ولكن عندما نجد شخصيات اجنبية تتجاوز توقعاتنا المتواضعة منها نميل الى النقيض، ونشعر بالانبهار تجاهها. ولكن لاصارحكم: ان اعجابي بكل القادة العرب الذين التقيت، من رتبة كولونيل فصاعداً، لم يكن من هذا النوع، بل لأنهم كانوا جديرين فعلاً بالاعجاب، مثل تركي في الظهران، والسديري في الرياض وهنيدي في القوات الجوية الملكية السعودية وغيرهم. انهم أشخاص متميزون فعلا، بصرف النظر عن مواطنهم.
أحببت المملكة
وجدت خلال تجوالي في المملكة العربية السعودية انها بلد يختلف كثيراً عن بلدنا. ومن بين الفروق ذلك الهدوء الذي يلف المملكة، وهو هدوء يأتي من العزلة وقلة عدد السكان. هكذا لا بد لشخص من نيويورك ان يجد انها جحيم، فيما يرى شخص من آياوا موطن هورنر انها طبيعية تماماً. الطعام غير مألوف لكنه لذيذ. وأحببت غرابة عاداتها وتقاليدها، ومعمارها البالغ الجمال، وروائح التوابل في كل مكان. واذا كان جوها يجمع ما بين الجفاف والحرارة، فقد وجدته محمولا... احيانا اثناء النهار تسمع الآذان، خصوصا قبل الفجر وعند الغروب. انه نداء بالغ العذوبة، على رغم انني لا افهم الكلمات. اخيراً هناك تقاليد الصحراء التي تفرض على المضيف تكريم الضيف، وليس هناك ما يضارع ترحاب مضيف عربي بضيوفه وسروره بالقيام بواجبه تجاههم. انه يضع كل ما لديه بين يديك، وبيته فعلاً هو بيتك.
المملكة العربية السعودية ليست بلدي أو موطني، لكنني احببتها اكثر من أماكن كثيرة زرتها او اقمت فيها في بلدي. انها علاقة صداقة حقيقية لأرض المملكة واناسها نمت بثبات عبر السنين لتربطني بها وتؤثر فيّ بعمق.
قمت، بعد تسلمي قيادة سلاح الجو الأميركي التاسع، برحلات منتظمة الى الشرق الأوسط للاطلاع على أوضاع جنودي وتلبية متطلباتهم، وحل المشاكل المتعلقة بالنشر المسبق للمعدات في المنطقة واقامة العلاقات مع قادة الأسلحة الجوية لدول المنطقة. كانت هذه المفاوضات صعبة احياناً، لكنها دارت دوماً في جو من الاحترام المتبادل. فقد كان كل من الاطراف على يقين من ان الطرف المقابل لا يريد سوى مصلحة بلده، وهو دافع نبيل بالتأكيد.
شعرت أيضاً وقتها بأنهم نظروا ولا يزالون باحترام خاص الى سلاح الجو الأميركي، وصممت في المقابل على تجنب القيام بكل ما يمكن ان ينال من ذلك الاحترام. هكذا، اذا ارتكب أي من عناصرنا عملاً مخالفاً للقانون كنت احرص على التعامل مع القضية فوراً، ليس بقصد التشدد مع الجاني، بل لاشعار الدول المعنية باحترام الأميركيين التام لسيادتها الوطنية.
تاريخ غني... ونظرة سلبية!
مع مرور الوقت قرأت كل ما أمكن عن المنطقة وبدأت أفهم تاريخها الطويل الغني الذي يعود الى زمن كان فيه الأوروبيون لا يزالون يذهبون لتصيد العشاء ويسكنون بيوتاً من جلد الحيوان! كما درست الاسلام واكتشفت ما فيه من تشابه مع اليهودية والمسيحية. هناك ارث مشترك بين الأديان الثلاثة يضيعه المتعصبون حين يتصارعون على أفكار لا تعدو ان تكون تفسيرات بشرية لماهية الجلالة وليس نظرة الجلالة الى ذاتها. الاكتشاف الاهم كان مدى احترام العرب للأميركيين، بسبب اجتهادنا في العمل، ولأننا نحترم ديننا أو على الأقل ان أكثرنا يفعل، وأيضا لاننا في غالب الحالات تعاملنا معهم بصدق.
خلال تلك السنوات تفاوضت مراراً مع مختلف دول المنطقة حول التعاون في ما يمكن ان يطرأ من الأزمات. وكنا وقتها نقوم بعدد من العمليات الرئيسية، من بينها حماية آبار النفط والمصافي خلال الحرب العراقية - الايرانية وحماية ناقلات النفط الكويتية عن طريق مرافقتها عبر الخليج العربي ومضائق هرمز عندما كانت تتعرض لهجمات الحرس الثوري الايراني. اضافة ذلك قدمت ما يمكن من المساعدة، مثل المحاضرات في كلياتهم العسكرية، وحضور المناورات المشتركة في المنطقة...
بدأت أشعر بعد وقت قصير بالسلبية البالغة لصورة العربي كما تقدم الى الرأي العام الأميركي. انه تطبيق آخر لصيغة "المجموع صفر"، أي ان كوننا اصدقاء اسرائيل ولا اعتراض لدي على ذلك يعني ان علينا احتقار العرب. ومتى كانت المرة الأخيرة التي قاتل فيها الممثل تشاك نوريس ارهابياً ولم يكن هذا الارهابي آسيوياً أو عربياً؟ وتمتليء صحفنا بتعابير مثل "ارهابي اصولي اسلامي"، كأن كل المسلمين اصوليون أو ارهابيون. وبالطبع، فقد التقيت عرباً لم اشعر نحوهم بالثقة او الود. ولا شك في ان هناك بين العرب العدد نفسه من الأغبياء والحمقى الذي لدى الأمم الأخرى. لكن العسكريين العرب الذين عملت معهم حازوا دوماً احترامي، وأملي ان الاحترام كان متبادلاً.
الثقة تستغرق بعض الوقت. وعندما تحصل عليها تشعر بأنها هدية ثمينة. من الصعب ان اصف العواطف التي تربطني باصدقائي السعوديين والعرب المقربين، لكنها بالتأكيد حقيقية وعميقة".
××××
... غادر الوفد الأميركي الطائرة، ماراً بحرس الشرف السعودي، وايضاً كاميرات التلفزيون المربوطة بالاقمار الاصطناعية. وكالعادة كان من بين هذه شبكة "سي.ان. ان."، وهذا ما اضحك هورنر. اذ انه لم يستطع ان يفصح لزوجته عن وجهة الرحلة، لكنها عندما تفتح اخبار التلفزيون اليوم التالي سترى زوجها في مطار جدة هابطاً الدرجات خلف وزير الدفاع تشيني.
بعد وقت قصير وصل الوفد الى مضيف كبار الضباط، القريب من القصر الملكي. واحاطت بالمبنى، مثلما بالقصر، أشجار النخيل تاركةً الظل الواقي من لهيب الشمس. وجاءت ببرودة مستحبة بعد حرارة الرحلة من المطار. ووجد الواصلون في انتظارهم أكواب القهوة العربية ثم الشاي، وشعر تشاك هورنر بأنه في بلده...
كان الوفد في ضيافة الملك، ولا خوف من الجوع عندما تكون ضيفه. فقد كان في كل غرفة عصير الفاكهة ومياه الصودا والتمر واللوز وغيره من المكسرات. موعد العشاء كان الثامنة مساء، ولكن كان بمقدور هورنر دوماً الاتصال بقسم خدمة الغرف للحصول على ما يحتاج.
قريباً من منتصف الليل قطع الوفد الأميركي المسافة القريبة التي تفصل المبنى عن قصر الملك فهد. ذلك ان العادة في السعودية هي ان يقضي الضيف نهاره في التباحث مع نظرائه السعوديين في النقاط على جدول اعمال الطرفين. ومع هدأة الليل وبرودته يعود الطرفان الى اللقاء وتناول ما تيسر من القهوة والعصير، واحياناً العشاء. بعد ذلك، حوالى منتصف الليل، يبدأ التفاوض الجدي وتتخذ القرارات.
الرحلة الى قصر خادم الحرمين الشريفين كانت الأولى بالنسبة لهورنر. وكان سمع عن روعة القصر واراد ان يراه. وتبين عند الوصول انه على الفخامة التي وصف بها. ويحفل القصر بما تمتاز به العمارة العربية عادة من الاقواس، وايضاً استعمال اللبْن بالوانه التي تجمع الحمرة الى الصفرة واللون البني، وهي الالوان الأرضية التي تتناغم مع لون الصحراء المحيطة. وهناك ايضاً مدارج الآجر والقيشاني المزخرف والنوافير وما لا يحصى من الزهور والورود. وللسعوديين تفنن خاص في اصطناع اجواء من الهدوء والارتياح وسط صحرائهم القاسية... ولكن الجميلة.
القرار الأكثر شجاعة وحكمة
وفيما بقي الجنرالان هورنر وجون يوسوك في بهو خارجي اجتمع الملك فهد في قاعة داخلية مع وزير الدفاع تشيني وقائد "سنتكوم" الجنرال شوارزكوف، بعدما انضم اليهما تشاز فريمان، سفير الولايات المتحدة الى المملكة، والجنرال دون كاوفمان، الضابط الأميركي الأرفع رتبة في أراضيها.
كان هذا هوالاجتماع الذي اتخذ فيه الملك فهد واحداً من القرارات الأكثر شجاعة وحكمة التي يتخذها قائد عربي. فقد كان الوضع واضحاً: العراق كان في الكويت، فيما توزع كثيرون من سكان الكويت على مختلف الفنادق السعودية. وكان الجيش العراقي على الحدود. وعلى رغم انه لم يهدد بالهجوم على السعودية فقد تذكّر الجميع أن صدام كان أيضاً وعد بعدم الهجوم على الكويت. وشكلت كل هذه دوافع قوية للملكة لطلب المساعدة من الأميركيين وغيرهم من الأصدقاء.
في المقابل، وضع هذا الطلب القيادة السعودية امام مشاكل خطيرة. السبب ليس ما يعتقده بعضهم من خوف السعوديين من أميركا والغرب، لأن الغرب في الواقع يحوز اعجاب السعوديين واحترامهم. المشكلة هي ان المملكة العربية السعودية هي البلد العربي الأعمق تمسكاً بالاسلام بشكله الأصلي. ويتطلب ذلك منهم التزام تعاليم القرآن الكريم والسيرة النبويةالشريفة، وبالتالي استنكار تلك الأوجه من حضارتنا التي يرفضها دينهم مثل العروض الاباحية والسكر وما شابه. ولم يريدوا انتشار هذه المفاسد في بلادهم. وسواء احببنا ذلك ام لا فان كثيرين في العالم العربي يعتبرون الشعب الأميركي من ضمنهم العسكريون مجموعة من السكارى ومدخني الحشيشة ومطاردي النساء. انه شبح فيتنام يعود لمطاردتنا.
هكذا كان عاهل المملكة يحاول التوصل الى ما يجب عمله بعدما قام جيش شقيق عربي بغزو ناجح لبلد شقيق. ولم يملك وهو يقلب النظر في هذا الوضع البشع الا ان يسأل نفسه: "هل سيهاجمني اخي العربي؟" حتى بعدما اكد له حاكم ذلك البلد العربي انه لا يضمر له شراً هل يطمئن الى حسن نية اخيه، على رغم ثبوت خيانته، أم هل يستدعي الجيوش الأجنبية...؟ انه خيار مرير.
"لا أريد لهذه الأمة الدمار"
ودار في الاجتماع نقاش طويل بالعربية بين العاهل واخوته، فيما كان تشيني وشوارزكوف وفريمان وولفوفتز وأميركيون آخرون لا يزالون في القاعة فريمان كان يتكلم العربية وحصل الآخرون منه لاحقاً على النقاط الرئيسية في النقاش. في النهاية أعلن الملك ببساطة الموقف الذي كان على الأرجح في ذهنه منذ ان عرف برغبة الولايات المتحدة في المساعدة عسكرياً. ولم يعرف هورنر طبيعة القرار الا بعد نهاية الاجتماع.
عندما غادر الوفد الأميركي قصر خادم الحرمين بدا على الكل هدوء وارتياح يفوقان المعتاد. وهبت من جهة البحر الأحمر نسمات باردة، فيما ارتفع خرير النوافير في باحة القصر. ولم يسمع صوت آخر سوى هسيس عجلات سيارات الوفد على الآجر المصقول الذي يشكل أرضية مدخل القصر، مثل الصوت الذي يحدثه مرور حذاء الرياضة المطاط على الرخام. واستمر صمت الاعضاء عندما استقلوا سياراتهم تباعاً، وبدا كل منهم مستغرقاً في أفكاره عما سيأتي به المستقبل.
جلس هورنر في المقعد الخلفي من السيارة مع بول ولفووتز نائب وزير الدفاع تشيني. وعندما اجتازت السيارة بوابة القصر همس اليه هورنر سائلاً ما حصل في الاجتماع. قال مسؤول الدفاع: "الملك طلب مجيئنا للمساعدة". وأضاف بصوت مليء بالتأثر: "قال الملك: رأيت ما احرزته هذه الأمة من تقدم ولا اريد لها الدمار".
الحلقة الرابعة: غداً الاربعاء
التخطيط لحملة جوية استراتيجية لمواجهة العراق


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.