ولد الحسن بن محمد الوزان في غرناطة قبيل سقوطها في أيدي الإسبان سنة 1492م، فانتقلت أسرته الى المغرب واستقرت في مدينة فاس حيث نشأ الحسن وتلقى تعليمه في جامع القرويين فيها. وقد برع في ما بعد كاتباً وأديباً وديبلوماسياً، فضلاً عن تمكنه من العلوم الفقهية والرياضيات، واكتسب دراية وخبرة واسعة منذ حداثة سنِّه لكثرة الجولات والرحلات التي أُتيح له القيام بها في أنحاء المغرب الأقصى والسودان الغربي وشمال أفريقيا والمشرق. وكان شديد الملاحظة لكل ما يُبصره ويسمعه، كما يتبين من وصفه للبلدان التي مرَّ بها اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً. وكان من سوء حظ الحسن الوزان - وهو في طريقه الى المغرب عائداً من رحلةٍ زار خلالها عدداً من بلدان المشرق - أن وقع أسيراً في أيدي القراصنة الصقليين، بالقرب من ساحل جزيرة جربة سنة 923ه/1518م، فأهدوه للبابا ليون العاشر الذي أطلق عليه اسمه بعد "تنصُّره". وفي رومة، ألف الوزان المعروف بليون الإفريقي كتابه المعروف "وصف أفريقيا" باللغة الإيطالية سنة 933ه/1526م، معتمداً - كما يبدو - على مسودةٍ للكتاب باللغة العربية كانت في حوزته حينما أَسره القرصان1. ان كتاب "وصف أفريقيا" أشبه ما يكون بالمذكرات عن انطباعات المؤلف عن البلدان التي زارها، وهو يتميز بالحيوية وبصراحة الكاتب في سرد أخباره من دون تعصب أو تحامل. وقد أدرك الأوروبيون أهمية الكتاب منذ ظهوره، فترجموه الى لغاتهم، وأفادوا مما فيه من معلومات أوردها شاهد عيان عن أراضٍ وبلدان كانوا يجهلونها. والكتاب "منجم" من المعلومات الجديدة التي طالما كان يبحث عنها، وظل على مدى قرنين ونصف القرن "لا غنى عنه لكل من له اهتمام بالقارة الأفريقية، كما أن الكتاب مهم اليوم - وعلى مجال أضيق - للدراسة التاريخية"2. ان رواية الوزان تُبين بوضوح ان تجارة السودان الغربي لعبت دوراً رئيسياً في حياة المغرب الاقتصادية "إذ يذكر مراراً تجاراً نشطين في الاتجار مع بلاد السودان، كما يذكر بضع عشرة مدينة عبر شمال أفريقيا - من المحيط الأطلسي غرباً الى طرابلس الغرب شرقاً - كانت نشطة في التجارة عبر الصحراء. ومما هو جدير بالملاحظة أن أهم هذه المدن - كفاس وسجلماسة وتلمسان وورقلة وغدامس - مدنٌ داخلية، وكانت التجارة في أيدي وسطاء كانوا يحولون دون تجار الساحل - الذين كان يتاجر معهم الأوروبيون - والمشاركة مباشرةً في التجارة عبر الصحراء"3. مرَّ الحسن الوزان بالمغرب الأوسط إيالة الجزائر آنذاك سنة 921ه/1516م، في طريقه الى المشرق لمقابلة السلطان العثماني سليم الأول موفداً من قِبَل سلطان فاس محمد الوطاسي - المعروف بالبرتغالي - حينما نشط الاخوان بربروسا عروج وخير الدين في التصدِّي للغزاة الإسبان في مدن الجزائروبجاية وغرب الجزائر. وأورد الوزان في كتابه "وصف أفريقيا" عرضاً شاملاً للموارد الاقتصادية بالمغرب الأوسط، وللأعمال التي كان يزاولها الأهالي. وعلى رغم ما مر بالبلاد من حروب بين الحفصيين بتونس والزيانيين بتلمسان، وبين الزيانيين والمرينيين بفاس، وعلى رغم هجمات الإسبان المتكررة على مدن الساحل منذ احتلالهم للمرسى الكبير سنة 911ه/1505م، فضلاً عن فداحة الضرائب في بعض المدن، وتعسُّف الأعراب، وحدوث الأوبئة، فإن المغربَ الأوسط في أوائل القرن السادس عشر كان إجمالاً ينعم بالرخاء. فالوزان يُشيد بوفرة الغلات الزراعية والمنتجات الحيوانية، كالقمح والشعير وزيت الزيتون والخروب والتين والتمور والجلود والصوف والقطن والكتان والقنب والسمن والشمع والعسل. وكان الحديد يُستخرج ويُستغل في جبال تلمسانوبجاية، وكذلك الزنك في جبل ونشريس، والمرجان بالقرب من ساحل عنابة. وازدهرت صناعة المنسوجات القطنية والكتانية والصوفية والحريرية في عدد من المدن. أما التجارة فكانت تشكِّل مورداً مهماً للبلاد. فمدن الساحل كانت تتاجر بنشاط مع تجار جنوة والبندقية وقطلونية بشمال شرق ايبرية، أما المدن الداخلية القريبة من الصحراء - وكذلك تلمسان - فكانت تجني أرباحاً طائلة من احتكارها لتجارة السودان الغربي. وكان لقدوم أعدادٍ كبيرة من النازحين الأندلسيين الموريسكيين بعد سقوط غرناطة سنة 1492م واستقرارهم في المدن الساحلية أثرٌ كبيرٌ في ازدهار الزراعة، وقيام صناعة المنسوجات الحريرية، كما في شرشال. أما الغزو البحري، أو ما يُعرف بالقرصنة، فكان نشطاً - وبخاصة بعد قدوم الموريسكيين - ضد مراكب الإسبان وضد الجزائرالشرقية البَلْيار وسواحل اسبانيا من وهرانوالجزائروبجاية، ما جعل هذه المدن هدفاً لغارات الإسبان واحتلالهم لها. أمضى الوزان بضعة شهور في المغرب الأوسط 1516م - يذكر أنه أقام نحو شهرين في المدية4 - وشهد عن كثبٍ الصراع الدائر بين عروج والإسبان في بجاية، كما ذكر أنه على أثر وفاة ملك اسبانيا فرناندو 23 كانون الثاني/يناير 1516م "أراد أهل الجزائر أن يفسخوا الهدنة ويتخلصوا من الخراج الذي كانوا يؤدونه لإسبانيا، فأرسلوا الى بربروس ليكون قائداً لهم نظراً الى قيمته العسكرية العظيمة وكفايته في محاربة النصارى. وكان الخلاف قائماً بين بربروس وأحد المتسلِّطين على امارة الجزائر، فقتله غيلةً في أحد الحمامات. وكان هذا المتآمر زعيم الأعراب القاطنين بسهل الميتجة واسمه سليم التومي ]بل: سالم التهامي[ من قبيلة ثعلبة، التي هي فرعٌ من عرب المعقل، استولى على الجزائر عندما احتل الإسبان بجاية 915ه/1510م، واستقر فيها عدة سنوات الى أن أتى بربروس فقتله ونودي به ملكاً، فضرب السكَّة... ذلكم كان أصل قوة بربروس وعظمته"5. ويذكر الوزان أن أهل قصر جيجل كانوا قد خضعوا قبل ذلك 920ه/ 1514م "من تلقاء أنفسهم الى بربروس الذي لم يفرض عليهم سوى زكاة عُشر الحبوب والثمار، مما هو معمول به، ولم يترك نائباً عنه في القصر سوى مندوب واحد"6. دخل الوزان مملكة تلمسان قادماً من فاس، ولاحظ غنى الإقليم بأشجار الخروب وبالعسل، كما لاحظ كثرة بساتين الفاكهة في أحواز تلمسان لا سيما التين والعنب، ووفرة القمح. وفي منطقة بريشك يكثر التين والكتان والشعير، وينقل أهلها التين والكتان بحراً الى الجزائروبجايةوتونس7. أما جبال مَلْيانة فهي غنية بأشجار الجوز، ويكثر في اقليم تِنِس القمح والعسل، كما يكثر القمح في سهل المتجة قرب مدينة الجزائر، وفي اقليم دلس. وفي شرق الجزائر يكثر التين والجوز في جبال بجاية ونكاوس وقصر جيجل، ويُحمل بحراً الى تونس. ولاحظ الوزان أن "الأراضي الزراعية المحيطة بمدينة قسنطينة كلها خصبة، ويبلغ انتاجها ثلاثين ضعف ما يُزرع فيها"8. وتشتهر بونة بإسم بلد العُناب لكثرة ما يُزرع من أشجار العُنَّاب في أحوازها، وهو يُجفف ويؤكل في فصل الشتاء. وبالقرب من عنابة تسكن قبيلة مرداس العربية، وتقوم بزراعة القمح وتربية الأغنام والماشية، ولذلك فإن التجار من تونس وجربة وجنوة يقصدون عنابة لشراء القمح والسمن. وفي الواحات الجنوبية، يكثر النخيل في اقليم الزاب، وحول ورقلة وبسكرة. ولاحظ الوزان أن سوقاً تُعقد في المعسكر اقليم بني راشد كل يوم خميس يباع فيها عدد وافر من الماشية والحبوب والزيت والعسل والحبال والسروج والأَعنَّة وحاجيات الخيل. وفي عنابة تُعقد السوق في كل يوم جمعة خارج أسوار المدينة وتستمر الى المساء. وفي جبال الجزائروقسنطينة، كانت تعقد أسواق تجارية تباع فيها الحيوانات والحبوب والصوف. وازدهرت في عدد من المدن صناعات كانت تعتمد على المواد الأولية المحلية، وفي مقدمها صناعة الأقمشة والمنسوجات القطنية والكتانية والصوفية والحريرية. يذكر الوزان ندرومة فيقول انها مزدهرة كثيرة الصناع "وينتجون على الخصوص أقمشة القطن لأنه يُزرع بكثرة في الناحية"9. أما سكان هُنَيْن - قبل نزوحهم عن المدينة إثر احتلال الإسبان لمدينة وهران سنة 915ه/1509م - فكانوا "يعملون كلهم تقريباً في القطن والمنسوجات"10. وكذلك الحال في مدن بريشك ومليانة وعنابة. وفي مدينة ميلة عددٌ كبيرٌ من الصُنَّاع، خصوصاً من يعملون في نسج الصوف الذي تُصنع منه أغطية الأَسرَّة. وتُصنع في جبال بجاية كميات كبيرة من القماش الخشن. وفي فقيق "تنسج النساء ثياباً من الصوف على شكل أغطية الأسرة كلها دقيقة رفيعة حتى يُظن أنها حرير"، وتباع بثمن مرتفع في فاسوتلمسان11. ومعظم الصُناع في العُباد من الصبّاغين، وكذلك في دلس لوجود العيون والجداول بها12. وكانت شرشال حتى أواخر القرن الخامس عشر الميلادي مدينةً مهجورةً بسبب الحروب بين ملوك تلمسان وملوك تونس الحفصيين، الى أن قصَدَها واستقرَّ بها الغرناطيون بعد سقوط غرناطة سنة 1492م، فأنشأوا فيها صناعة المراكب "واشتغلوا بصناعة الحرير، إذ وجدوا هنالك كمية لا تُحصى من أشجار التوت"13. وفي تَفسرة القريبة من تلمسان، يكثر الحدادون لوجود معدن الحديد قريباً من البلدة. وتُصنع من الحديد في جبال بجاية سبائكُ صغيرة تُستعمل عملةً، كما تضرب فيها نقود صغيرة من الفضة. ولم يكن يسمح لأحد بصيد المرجان في شاطىء عنابة لأن الملك الحفصي كان قد أكرى الشاطىء للجنوبيين. ويكاد يكون كل سكان مليانة صناعاً "نساجين أو خراطين. ويصنع هؤلاء أوانيَ من خشبٍ في غاية الحُسن"14. كانت التجارة - وبخاصة مع المدن الإيطالية والسودان الغربي - تشكِّل مورداً رئيسياً للسكان والحكام في المغرب الأوسط. فمنذ الفتح الإسلامي للمغرب، نشطت تجارة القوافل عبر الصحراء الى ممالك السودان الغربي - كغانة ومالي وصنغاي - وكانت تلك التجارة عمادَ اقتصاد الدول الإسلامية التي تعاقبت في أفريقيا تونس، وتيهرت، وتلمسان، وسجلماسة، وفاس، وأغمات، ومراكش، وكذلك في الأندلس. وكانت السلع الرئيسية التي تنقلها القوافل الى السودان الغربي تشمل الحبوب والتمور والأقمشة والمصنوعات المعدنية والجلدية وصنوفاً من النظم من الزجاج والأصداف والخواتم والقطران والأخشاب والعطور والملح الذي كان أهل السودان الغربي في أَمسِّ الحاجة اليه. وكان التجار المغاربة يستبدلون هذه السلع بغلات السودان، وهي الذهب والعاج والأبنوس، إلا أن السلعة الرئيسية كانت تبرَ الذهب. أما العلاقات التجارية مع المدن الإيطالية - لا سيما جنوة والبندقية - ومع التجار القطلان من برشلونة، فكانت وثيقةً منذ أيام الموحدين في القرن الثاني عشر الميلادي، وازدادت توثقاً في أيام الحفصيين والزيانيين. وكان تجار المغرب الأوسط - وبخاصة تلمسانوبجاية - يقومون بدور الوسيط في تبادل السلع بين التجار الأوروبيين وبين السودان الغربي، * أستاذ جامعي فلسطيني في اكسفورد. الهوامش 1-عن سيرة الحسن الوزان انظر: Bovill, E.W, The Golden trade of the Moors, Oxford U.P., 1970, pp. 142 - 5. وكذلك مقدمة الجزء الأول من كتاب "وصف أفريقيا" لمترجميْ الكتاب عن الفرنسية محمد حجيّ ومحمد الأخضر، الرباط 1980، ص 3 - 12. 2- Bovill,154. 3- نفسه، 144 - 145. 4- الوزان، الحسن: وصْفُ أفريقيا، الجزء الثاني، الرباط 1982، ص 41. 5- نفسه، 39. وعن هذه الأحداث أنظر: Clissold, S., The Barbary Slaves, London 1977, p. 23. 6- الوزان، 2/ ص 52. 7- نفسه، 33. 8- نفسه، 58. 9- نفسه، 14. 10- نفسه، 15. 11- نفسه، 132. 12- نفسه، 24، 42. 13- نفسه، 34. 14- نفسه، 35.