في النصف الاول من القرن الحادي عشر تورد رسائل الجنيزة اخبار ارسال كميات وافرة من العملات الذهبية والفضية من افريقيا الى مصر ثمناً للمنتجات المستوردة من مصر والشام والعراق. ثم تبدّل الحال بعد الغزوة الهلالية وانقطاع مورد افريقيا من ذهب السودان الغربي. كان الدينار المضروب في المهدية "مموهاً" لتدني نسبة الذهب فيه، ولذلك فان التجار الاجانب كانوا يبيعون سلعهم بالدنانير المهدوية ثم يبادرون الى شراء عملة متداولة دولية، وبخاصة الدنانير او المثاقيل المرابطية التي اخذت في اواخر القرن الحادي عشر تحلّ محل الدنانير الفاطمية في تجارة حوض البحر الابيض المتوسط 16. ان رسائل جنيزة القاهرة غنية بالمعلومات عن الاسفار ونقل البضائع براً وبحراً، ومنها يتبين انه لم تكن ثمة قيود على السفر بين افريقيا الزيرية ومصر الفاطمية، على رغم القطيعة التي نشأت بين الدولتين. ان انتظام حركة القوافل والمراكب كان من شأنه ان انقسم العام الى مواسم نشاطٍ تجاري ومواسم ركود تجاري، وهذا الوضع تعكسه رسائل الجنيزة. كما ان الأعياد الاسلامية كانت مناسبة كبرى لبيع البضائح، وبخاصة الملبوسات. وقد وردت العبارة التالية في احدى الرسائل: "قد تحركت المعيشة، وهو موسم" 17. وفي فصل الشتاء، عند توقف الملاحة في البحر المتوسط، كانت تتوجه من القيروان الى مصر ثلاث قوافل، فضلاً عن قافلة سجلماسة بالمغرب الأقصى الى مصر عن طريق القيروان، وكان يشار الى تحركها "بيوم مشي الموسم"، وكانت القوافل تُعرف بالمواسم لأنها كانت تتحرك في مواسم معينة. وقد ازداد الاعتماد على المراكب للسفر ونقل البضائع في النصف الثاني من القرن الحادي عشر، بعد الغزوة الهلالية، واختلال الأمن في افريقيا. وبالنسبة الى اصحاب رسائل الجنيزة فان الأسفار كانت في معظمها بحراً حتى بين مصر وافريقيا. والمراكب البحرية لم تكن هي الاخرى بمأمن من القرصان، وفي احدى رسائل الجنيزة وصفٌ لهجوم شنه رجال ابن الثمنة - المتعاون مع النورمان في صقلية - قرب مدينة جرجنت Gergenti - على ساحل صقلية الجنوبي - على سفينة تونسة، ونهبوا ما كان على ظهرها من منسوجات 18. وبالنسبة الى القرن الثاني عشر الميلادي، يرد في احدى رسائل الجنيزة ذكر شحن ثماني قطع فخارية من النوع المعروف في الأندلس والمغرب باسم "المُخفيات" تم ارسالها من الأندلس الى مصر. وكانت جلود الكتب وأغلفتها تصدر من افريقيا الى مصر جاهزة، وكل ما ذكر عنها في رسائل الجنيزة انها كانت مربعة. وتشير رسالة من منتصف القرن الثاني عشر الى ارسال اثني عشر جلداً احمر اللون، وستة جلود سوداء، وخمسة جلود بيضاء 19. وترد عبارة "واجب مشترى" - نوع من ضريبة الشراء purchare tax - في اشارة الى المهدية سنة 1100م، وكانت الضريبة حوالى 2.7 في المئة من ثمن البضاعة. وكما تقدم، فان المثاقيل المرابطية كان عليها اقبال كبير في القرن الثاني عشر الميلادي لجودتها، بحيث اصبحت عُملة التبادل في منطقة البحر المتوسط. ففي احدى رسائل الجنيزة الى تاجر في الفسطاط من وكيله التجاري في المهدية حوالي سنة 1100م يقول الوكيل: "ارسلت لكم 100 دينار مرابطي وازن، وثمنها بعملة المهدية 287 ديناراً الا ثلث دينار. وكان شرائي لها بعد عناء ومشقة كبيرين. وهي دنانير بكرية نسبة الى الامير المرابطي ابي بكر بن عمر المتوفى سنة 480ه/ 1087م وأغماتية مضروبة بأغمات عاصمة المرابطين قبل بناء مدينة مراكش" 20. وفي حدود سنة 1100م ارسل تاجر بالاسكندرية ثلاث عشرة سبيكة من الفضة الى المغرب وأرفقها بالتعليمات التالية: "اشتر لي دنانير مرابطية اغماتية، او رباعيات لعلّه يقصد ربع الدينار او الرباعي المضروب بصقلية على عهد النورمان والمعروف عندهم باسم طري tari، ولا تشتر شبراً واحداً من القماش" 21. وفي سنة 1100م، ارسل تاجر في مصر شحنة من الأرجوان الى مدينة صفاقس، واشترى وكيله بثمنها كمية كبيرة من الدنانير المرابطية المضروبة بمدينة مراكش، ولم يحول الى العملة المحلية سوى قطعتين من الذهب. 22. اما المراكب فانه كان يُشار الى اصحابها بألقابهم لا بأسمائهم. ففي رسالة مؤرخة في سنة 1140م اشارة الى "مركب السلطان" وعن إبحاره مع "مركب القائد" من الأندلس الى مصر. والسلطان في هذه الحالة هو صاحب بجاية يحيى بن العزيز، واما القائد فهو علي بن عيسى بن ميمون قائد الأسطول المرابطي في المرية بالأندلس، اذ يرد ذكرهما في معاهدة سلم مبرمة مع بيزة الايطالية سنة 1133م 23. وفي خطاب مؤرخ في نيسان سنة 1137م، يذكر الكاتب ان مركباً كبيراً تم انشاؤه وانه يأمل في ان يسافر فيه من الاندلس الى مصر حينما يصبح البحر آمناً من هجمات العدو. ولعل هذا المركب هو "مركب السلطان" الذي وصل الى الاسكندرية في ايلول سنة 1140م 24. ويلاحظ الباحث جويتين انه في حين تمكن من جمع اسماء 150 مركباً للمسلمين من رسائل الجنيزة في القرن الحادي عشر، فإنه لم يجد في رسائل القرن الثاني عشر سوى "مركب السلطان" و"مركب القائد" المشار اليهما. لقد آلت الى المدن الايطالية في القرن الثاني عشر الميلادي السيطرة على الملاحة في البحر المتوسط بعد ان كانت السيادة البحرية في القرنين السابقين للدول الاسلامية في الأندلس والمغرب، وكان من اهم الأسباب لذلك افتقار المسلمين لموارد الاخشاب بعد فقدان صقلية وشرق الأندلس. ويلاحظ ان ابن جبير يذكر المراكب الجنوية اكثر من مرة في رحلة: فقد سافر من سبتة الى الاسكندرية على متن مركب جنوي، وعاد من عكا الى مدينة مسنة بصقلية، على متن مركب جنوي، وسافر من أطرابنش بصقلية عائداً الى الأندلس على متن مركب جنوي، فضلاً عن مراكب اخرى للجنويين قابلها في صقلية قادمة من الاسكندرية في طريقها الى الاندلس، مما يدل على ان المراكب الجنوية كانت تقوم برحلات منتظمة عبر البحر المتوسط بين موانئ بلاد الشام ومصر وبين موانئ المغرب، وان المسلمين - حجاجهم وتُجارهم - اعتادوا ان يستقلوها في اسفارهم 25. ولم تكن الأسفار البحرية مأمونة في القرن الثاني عشر ايام الحروب الصليبية وغارات النورمان المتكررة من جزيرة صقلية على ساحل افريقيا، وسطوهم على مراكب المسلمين في وسط البحر المتوسط. وتتحدث احدى رسائل الجنيزة في اوائل القرن الثاني عشر عن مركب اندلسي اقلع من المهدية، ودافع عن نفسه ضد هجوم نصراني، الا ان سفينة مغربية اقلعت بعد ذلك المركب بقليل صدمها العدو فجنحت الى البر بعد ان تمكن المهاجمون من نهب شحنتها وسبي معظم ركابها 26. بعض رسائل "جنيزة القاهرة" ان الرسائل التي اخترناها ترجع الى النصف الاول من القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، وكان اعتمادنا - في المقتطفات المنتقاة منها - على الترجمة الانكليزية للرسائل في كتاب جويتين "رسائل التجار اليهود في القرون الوسطى". 27 1- رسالة من مستهل القرن الثاني عشر من الاسكندرية الى الفسطاط بعث بها هلال بن يوسف الى ابي الافراح عروس بن يوسف الذي كان والده قد نزح عن المهدية واستقر في الفسطاط. وكان ابو الافراح يتاجر مع الهند بسلع عدة من المغرب والمشرق. وتشير الرسالة التي نقتبس فقرة منها الى شحنة ارجوان - "صوف" - مرسلة بحراً من الاسكندرية الى المرية في الاندلس. "سوف اسافر على المركب الاندلسي، وسوف اشحن البضاعة في اول شهر مارس. ذكرت في رسالتك انك سوف ترسل كمية اخرى من الصوف. لا ترسل شيئاً، لأن الارجوان المصبوغ لا يسوى شيئاً في الاندلس…". وفي رسالة تالية عن هذه الشحنة، يذكر كاتب الرسالة: "… حمّلت الصوف على ظهر المركب… اجمالي تكاليف الشحن 6 دنانير، دفعتُ منها 3 دنانير، وسوف يُدفع الباقي في ألمريّة بعد الوصول بالسلامة…". ان الفقرتين المقتبستين السابقتين تشتملان على معلومات شتى: فالارجوان - جاهزاً او للصباغة - كان يصدر الى الاندلس من الشرق عن طريق مصر، ويبدو ان سوقه آنذاك في الاندلس كانت كاسدة، كما ان يبدو ان اجرة الشحن كان يدفع نصفها مقدماً، ويدفع الباقي عند وصول البضاعة سالمة الى المرفأ المقصود. وكان اقلاع المراكب المتوجهة الى الاندلس والمغرب من موانئ المشرق في بداية فصل الربيع. 2- رسالة الى عروس بن يوسف - المذكور في الرسالة السابقة - من زكري بن هننيل، في حدود سنة 1100م، بعث بها الى الفسطاط من الاسكندرية، يقول فيها: "تسلمت للتوّ رسالتك التي تذكر فيها انك اشتريت بهاراً شكارة تزن 300 رطل من الّلاك 28 و كمية من الارجوان، لكن من واجبي ان اعلمك بأنني لا استطيع اخذ اية بضاعة منك معي، لأنه بعد ان ودّعتك كنت انوي السفر الى الاندلس، ولما وصلت الى الاسكندرية وجدت المركب الاندلسي قد تعطّل بكتاب من عند السلطان، وفرّغ جميع ما فيه. سوف اسافر لذلك في مركب متوجه الى المهدية، فاذا اردت ان ترسل بضاعتك الى المهدية ارجو ان ترسل لي خطاباً بذلك قبل الاقلاع، فإنه ليس من اللائق ان اصحب بضاعتك معي، ما لم تطلب ذلك صراحة خطياً. ولا تتأخر في الكتابة لأن المراكب المهدوية قد "راجوا"، والا فان بضاعتك سوف تبقى هنا في الاسكندرية". ان السلطان المشار اليه هو الخليفة الفاطمي المُستعلي حكم 1094 - 1101م، كما يبدو ان مصادرة المركب الاندلسي جاءت بسبب وصول اولى الحملات الصليبية الى المشرق، وذلك لتعزيز اسطول الفاطميين لمواجهة سفن البندقية وجنوه المساندة بحراً للحملة البرية. ولعل المركب الاندلسي المشار اليه كان اكبر السفن الراسية في ميناء الاسكندرية آنذاك. 3- رسالة من اسحاق النيسابوري بالاسكندرية الى ابي العلاء صاعد يوسف الدمشقي بالفسطاط، في حدود سنة 1119م، وفيها يتحدث عن تعطل الملاحة من الاندلس وأثر ذلك في اسعار الحرير الاندلسي في السوق، كما يتحدث عن اسعار المرجان المنظوم وغير المنظوم، فيقول: "اما بالنسبة للحرير، فانه عند وصول المركب الاندلسي توقفت الاعمال التجارية، فلم يشتر احد ولم يبع احد… وبعد ذلك بأيام، بيعت كميات قليلة ب 21 - 22 ديناراً لكل عشرة ارطال. ولما تأخر وصول جميع المراكب، رغب التجار في الشراء، الا ان من كان عنده حرير احتفظ به. وقد انقضى اليوم 33 يوماً لم يصل فيها سوى مركب واحد، ولم يقلع سوى مركب واحد. يسود قلق كبير بشأن المراكب، واليوم بيننا وبين عيد الصليب 29 23 يوماً، ولم يصل مركب واحد من المغرب، كما لم تصل اية اخبار. الريح غير موافقة، فهي لا شرقية ولا غربية. وفي هذا اليوم دُفع 23 ديناراً ثمناً للحرير الخشن. ولم يبع احد، ولن يبيع احد، الى ان يعرف ما سيحدث… مرجان تراب غير منظوم يباع اليوم في "الصَنعة" دار المكوس بمبلغ 5.11 دينار، وبيع بعضه حتى بثمانية دنانير… والى الآن لم يصل شيء من المرجان لا من بلاد الروم ولا من المغرب". ان سعر الحرير في الاسكندرية كان يخضع لقانون العرض والطلب، وحينما تأخر وصول مراكب الاندلس ارتفع ثمن الحرير واحجم التجار عن بيع ما لديهم منه املاً في ان يرتفع ثمنه، لا سيما وان قرب حلول فصل الشتاء يعني تعطل الملاحة في البحر المتوسط بضعة شهور. كان مصدر المرجان المغربي سبتة ومرسى الخرز، وبالنسبة الى بلاد الروم فإن المرجان كان يصاد في مياه اطرابنش على ساحل صقلية العربي، وعند سواحل سردانية. 4- رسالة بتاريخ 10 تشرين الاول 1138م 29 شوال 532ه من اسحاق بن بروخ التاجر المقيم بمدينة المرية بالاندلس الى ابي سعيد خَلْفون الموجود آنذاك بمدينة تلمسان، حيث قدم اليها من فاس، وكان قبل ذلك بالاندلس. وفي الرسالة يتحدث صاحبها عن تسلم ثمن كمية من النحاس المصقول بيعت في تلمسان، وعن اسعار اصناف الحرير في سوق المرية حيث فرضت قيود على الشراء بالعملة المحلية، ويذكر اسعار النحاس والشمع والفلفل وبعض العقاقير الطبية، كما يتحدث عن حركة المراكب بين المرية وبين الاسكندرية. وفي ما يلي نورد نتفاً مما ورد في الرسالة: "… قبل اربعة ايام تسلمت من تلمسان - مع ابي يعقوب بن المنة - 100 مثقال ثمناً للنحاس المصقول 30… وكنت ابلغتكم بأنني تسلمت المائة مثقال المرسلة منكم من فاس. وقد طلبت مني ان اشتري بالمبلغ حريراً. والواقع ان سعر الحرير كان معقولاً، ولذلك فقد اشتريت حريراً بخمسين مثقالاً. ولكن عندما حان موعد اقلاع المراكب، واتضح لي انكم سوف تقضون بقية الصيف في الاندلس، امسكت عن الشراء، وتركت المبلغ. ما بين يوم الشراء واليوم فقد المثقال بعض قيمته، واليوم البضائع اغلى ثمناً… اما بالنسبة للنقد الذي يدفع اليوم ثمناً للحرير، فانه لا يسمح بدفع اكثر من الثلث بالعملة المتداولة. والفرق بين المثقال المتداول المرابطي وبين المثقال الحمّادي 31 هو ثُماني… وأود اعلامكم ان ثمن الميروبالان 32 اعلن في السوق. بعت نصف رطل بنصف مثقال، ثم لاحظت بانكم حددتم الثمن بمثقال ونصف المثقال للرطل، فتركته ولم ابع سوى نصف الرطل المذكور. اما التربد 33 فثمنه اليوم مثقال واحد للرطلين… بعد يوم من كتابة الرسالة، وصل مركب من الاسكندرية امضى في الطريق خمسة وستين يوماً، وقال تجار المسلمين المسافرون فيه انهم تركوا وراءهم مركبين على اهبة الاقلاع الى المرية، ولكنهم لم يبصروا المراكب المقلعة من الاندلس، وليس لديهم معلومات عنها". كان خَلفون متسلّم الرسالة تاجراً كثير الاسفار بين الهند وعدن والاندلس والمغرب، مما يفسّر تنوع مصادر السلع التي كان يتجر بها. كان على النحاس - المصنوع وغير المصنوع - طلبٌ كبير في المغرب والسودان الغربي. ويلاحظ اقبال التجار على شراء الحرير في الاندلس لتصديره الى مصر والشرق في مقابل التوابل والعقاقير الطبية المستوردة منهما. ولعل الاشارة الى تدني قيمة المثقال المرابطي وتقلب الاسعار تعكس متاعب المرابطين في المغرب الاقصى بسبب قيام الموحدين عليهم، وتعطل حركة القوافل الى السوادن الغربي مصدر الذهب الذي كان عماد المثاقيل المرابطة. وان في مطالبة السلطات في ألمرية دفع معظم اثمان السلع بغير المثاقيل دليلاً على رغبتها في الاحتفاظ بها، وفي الحصول على مثاقين حمّادية وغيرها، كما تفعل الدول في يومنا هذا للحصول على "العملات الصعبة". كانت الاعشاب الطبية تلقى رواجاً في المغرب والاندلس، وكان بعض هذه الحشائس متوفراً في الاندلس وجبال بجاية، الا ان ما ورد في الرسالة منها من اصل شرقي. وأما تتبع التجار لاخبار المراكب فكان لسببين، اولهما تأثر وصول البضائع او شحنها على اسعار تلك البضائع، وثانيهما التأكد من سلامتها في وقت كانت مراكب المسلمين المقلعة في البحر المتوسط عرضة للسطو من قبل قرصان النصارى. * استاذ جامعي فلسطيني باكسفورد. ** الهوامش كلها في ختام الحلقة الثالثة غداً.