لم يستطع الفنان طلال معلاّ التوقف عند حدود اللوحة كمنتج ابداعي، وإنما انطلق في آفاق البحث التقني والفكري باحثاً عن هوياته المتقاطعة والممتزجة، لينتج تلك اللوحة الممهورة بموسوعية المعرفة ولانهائيتها... محولاً الشغل الفني من اطاره الخيري الى وجود فاعل موضوعي، بحيث تتلاقى وتتلاقح شاعرية المعرفة بالحاجة الى الجمال بالمعنى البنائي وكأنه يبحث عن مكان في عالم تتبدد فيه القوة الفيزيائية كعلاج وحيد لأزمة الروح والمعنى. طلال معلاّ فنان من جيل تنكب معرفة الرواد بجماليات الصورة وتقنيات الرسم، وابتدأ رحلة البحث عن لوحته - لوحتنا، ابداعه - ابداعنا. وما زال يلوب مرهقاً، متعباً، لاهثاً لكنه مصمم على ان يذهب الى ابعد مكان يقدر عليه للاستفادة من معطيات الانسان الحضارية كعالم فذ متعدد ومتجاور، حيث الميراث الذهني الذي يبني صورة التاريخ ونبض العلاقة ما بين المبدع وعمله الفني في اطار من الحرية التي تبني اللغة التشكيلية - البصرية - الحيوية وتسهم في الوقت ذاته بصياغة اجابات بلغة غير منطوقة او مباشرة. بمناسبة معرضه الدمشقي، الذي يمثل استراحة مهاجر بعد غياب طويل عن الوطن، التقته "الحياة": يبدو مفهوم التجريب اساساً في لوحتك، فما هو الهدف المرتجى من الغوص في بحثية التجريب، والى أين تريد الوصول عبره؟ - التجريب محور اساسي في تجربتي، واعتمادي على البحث انما يأتي من خلال عدم قناعتي بمعاني التسليم بالأطر الجاهزة التي يعتمد عليها المصورون. وأنا في ذلك لا أقدم رؤية متطرفة حادة بل أحاول مع غيري سد ثغرة القصور في مجالات البحث عن حقائق بصرية تطرح في مقدمة اولوياتها كون اللوحة حقل تجارب تختلط على سطحها مشاعر وحواس الذات المكتنزة بالآخرين، وهذا الفهم المحوري انما يعكس الصراع الداخلي الذي يعيشه المبدع وهو يحاول ان يفصل العمل الفني عن روحه ليبدأ العمل تنفسه الطبيعي في محيط التلقي الصحيح. انجاز العمل الفني لديّ يتعلق بمجموعة من الانجازات على صعيد الذاكرة المرتبطة بالطبيعة الخاصة للموضوعات التي اعالجها والتي احاول ان اخلصها من وطأة الوعي الذاتي، وأنا لا احاول رفض التناسق مع الطبيعة ومدلولاتها وانما احاول خلق توافقات مع معطياتها وتحولاتها ذات الدلالة الانسانية. وهذا امر مهم في جوانبه الاشارية او الرمزية، حيث تعتمد الصورة المنجزة على ثقافة المبدع وتقديره السليم للظواهر البصرية العربية التي تشكل في عمقها تجليات العقل المعني بالابداع وتطوير الخطط للاطاحة بمستويات التنوير الجمالي التقليدية، وإسباغ صفة التأمل في عالم يزداد توتراً كلما هاجت الروح في ابداعها. التجريب بالمواد المرئية لخلق العوالم المتخيلة يمر عبر التصور، التصور الذي يعيش اقسى حالاته في نهاية هذا القرن وهو يذعن لطغيان العلم والاختزال وسلطة الوهم. هل نستطيع التقدير عبر ما سبق ان لديك رسالة تنويرية بصرية - جمالية تريد تكريسها على مستويي الانتاج والمشاهدة؟ - أنا لا أدعي تقويم الأشياء او تغيير صفاتها، ولا أفرض مادتي الغنية والمعرفية على أحد. هذا شأن يحتاج الى زمن يمنحه النقد لدراسة احوال الفنون العربية، وأنا احدها. لكني التفت الى الكون البصري الذي يدعوني للتأمل والتفكر، ليس بموجودات العالم بل بالقوى الكامنة فيه التي تسهم في تنظيم العملية الابداعية كمبدأ من المبادئ الداعية لتطوير المعرفة والابتعاد عن التكرار او التقليد الذي يجعل العالم الداخلي للفنان يراوح في مكانه بعيداً عن تشكيل المشهد البصري المرتبط بالتطور التاريخي الحضاري للانسان. في تجربتي اقصد الحرص على ايجاد مخارج هادئة للذهنية التي مر بها التفكير البصري العربي، مع ما يبدو للوهلة الأولى اني على خصام مع كثير من المتوافقات او البديهيات البصرية خصوصاً في اعتمادي سطح اللوحة كمادة تعبيرية قبل البدء في عملية الرسم وهي المرحلة التحضيرية التي تبدع لغة السطح او ما ندعوه لغة الممارسة، فأنطلق من جذور هذه اللغة لأرتقي الى عالم شفاف يحاكي الجدة التي تغدو سلوكاً لفترة من العطاء - قد تطول او تقصر - بحسب استهلاكي لمفردات وتعابير هذه اللغة. وهكذا فان الزمن في هذا المقام يشكل عنصراً لاحقاً محاولاً التسلل الى شقوق التجديد لأبعث طاقة الحياة في رموز نظن جميعاً اننا نعرفها، او اننا رأيناها من قبل، سواء على الهيئة المتواضعة بها او هيئة ما ستبنى عليه لأكتشف جمالاً من نوع آخر ينتمي الى جمال الحياة التي تختصر كل شيء في هذا الكون. في لوحتك تحضر مسألتان اساسيتان طبعاً بمرافقة شفافية اللون: الاولى غرافيكية تذكرنا بمنقوشات جدران البيوت الريفية المطلية بالكلس، والثانية ذاك البعد الصوفي المتمثل بالدورانيات والرموز والتقاطعات. هل يعود ذلك الى ذاكرة ما، ام هو غوص في ذاكرة الجماعة؟ - غياب اللون او شفافيته يؤكد ان اللون يفقد صفاته المرئية في بعض الحالات وهو يتحول الى معنى او صوت او قيمة، وكأن الفنان يحرر اللون من قيده الفيزيائي، وهو يحور طبيعته من الدلالة التي تشي بتعدد الوجوه، الى الدلالة الشفافة الوحيدة المشكلة لايقاع جديد يعيدنا الى طبيعة الرؤية الاولى وهي تبني اشارات الاتصال التي تتحول الى معان لا تشبه بعضها في اطار التجربة التي توجدها وتجمعها كمرئية مبللة بالانسجام الحضاري بعيداً عن الواقع او في ارتكانها الواقعي لتذهب في ما ندعوه تجسيد الشكل في الذات، او ما يمكن ان نعكسه في قولنا تجسيد الذات في الشكل بالاعتماد على اقصى امكانات الحرية كمفهوم يتعلق بالرؤية لا بممارستها كدعوة للارتفاع في فضاء التشكيل بحثاً عن حرية الاحساس بعيداً عن عضلات الرسام، لذا أمزج الفراغ بالوعي، والخيال بمواد التصوير والانتاج الفني والاعصاب بالاضواء الخافتة لذاكرة التاريخ الانساني. ان اشارتك الى الدائرة والتقاطع او التصالب او حتى تقنيات حفر الورق وخدشه انما تعيدني الى التعامل مع فكرة سطح العمل الفني او الرحم الاساس النائي خلف حدود الشبكية او العصب البصري كمدركين لتقلبات الاشكال في محاسنها. كل ما تشير اليه غلالة تدعو الى الادراكات الذهنية المعقدة المؤسسة للمشهد البصري الباحث عن الافكار الجديدة والمفاهيم المميزة لظروف الفنان العملية والواقعية. في الدائرة يحاول البصر ان يراوح امتداده الافقي على قطر مفعم بالتوازن وهو ينظر من دون لهفة الى مركز مبهم فيرتج الرؤية على لاموضوع محدد لكنه يبصر كلاً مخضباً بالحياة والنور والالوان والحركة. وكذا تفعل البصيرة وهي تمسح محيط الرؤية المنغلقة على الثبات لتشكل دائرة قياسية عابسة بانتظام حدود العتمة الماورائية على ان الموضوع المرئي المتمتع بشفافية الوعي البشيري بتفاصيل اي مشهد ثابت او متحرك متنزه عن آلية الفهم المباشر لعلاقات الاشياء ببعضها او علاقة الكائنات بذواتها او بغيرها كآخر تمتد به وتتسع له. وكما الدائرة نقطة استقطاب او مركز للاشعاع فان التصالب يؤدي الى تحديد هذا المركز بنتيجة التقاطع، المركز الذي تنكمش اليه المفاهيم عبر سلطته الهندسية الصقلية. بكل الاحوال تبقى الدائرة رمزاً للعزلة وتعدد الدوائر غياب عن الحقيقة، وتقاطع الدوائر وقوع في سديمية الآخر وسطحيته. ولكن لا تبدو الدوائر ثقوباً تنزف عبرها حضارتنا وفعلنا ورأينا وحساسيتنا، يمكن اعتبارها نوافذ على الزمن الآتي ننسج اجنحتنا لعبورها الى خرائط بصرية جديدة لم تبن اسوارها بعد او تدور عليها الدوائر.