أبناء الشخصيات البارزة ثقافياً، أو سياسياً، أو اجتماعياً، أو اقتصاديا، أو فنياً، هل يحملون رسالة مماثلة لرسالة آبائهم أو أمهاتهم وللبيوت التي نشأوا فيها؟ أين يتشبهون وأين يستقلون؟ وكيف يرون المستقبل؟ الواقع؟" هذا ما نحاول تلمسه مع معتزة صلاح عبدالصبور، ابنة الشاعر المصري الراحل صلاح عبدالصبور، والراحلة سميحة غالب الاذاعية والتلفزيونية المعروفة. ومعتزة خريجة الجامعة الاميركية، حاصلة على ليسانس الادب الانكليزي المقارن، وممثلة مسرحية منذ سبعة أعوام. ما الذي تبقى من الراحل صلاح عبدالصبور داخلك؟ - أشياء إنسانية وقيم مثالية جداً، دائمة الاصطدام بالواقع الذي يزداد يوماً بعد يوم قبحاً وشراسة، صلاح عبدالصبور ترك لدي تحديداً نوعاً من الصلابة، وأنا وشقيقتي الوحيدة مي متسامحتان جداً كما صلاح عبدالصبور، تربينا على قيم مختلفة، ليس فيها أي إدعاء، ذلك أن أبي كان متسقاً جداً مع ذاته، يعيش بنفس طريقة كتابته، يحيا مع أسرته بنفس ما يحيا به مع الآخرين، كان شخصاً راقياً في المعنى الحقيقي لكلمة "رقي"، وهو ما يتسبب لنا الآن في أزمات مع الواقع، لكننا تعودنا تجاوز هذه الأزمات، بفلسفة مفادها أن الذين يمارسون أشياء سيئة هم اناس ضعفاء، لم يستطيعوا ان يطوّروا أنفسهم، ومن ثم وقفوا عند مرحلة معينة تجعلهم يتصرفون بشكل يسيء إليهم قبل أن يسيء الى الآخرين. كيف كان تأثير الأم فيكما، أنت وأختك مي؟ - توفيت والدتي قبل عامين، وتحديداً في كانون الثاني يناير 1997، وأكثر شيء كنت أحترمه فيها هو صلابتها، فحين توفي والدي كانت شقيقتي مي في السادسة عشرة وأنا في الثالثة عشرة، فقامت والدتي بدور حقيقي في رعايتنا، وكانت على رغم رقتها وجمالها، صلبة جداً، مازلت أجل فيها انسانيتها، وقراراتها هي وأبي، اللذان ظلا الى النهاية من فقراء المثقفين المصريين. ما أوجه الاختلاف عن الأبوين فيكما؟ - لا أعرف، أنا مهمومة بالحفاظ على الأشياء التي تربيت عليها، لأنني طوال الوقت أواجه أشياء مضادة لما نشأت عليه، ويكون رد فعلي الوحيد هو أن أكرس قيمي، بوصفها الأرقى والأجمل، وهي التي سوف تحقق لي نوعاً من المصالحة مع ذاتي أكثر من أي شيء آخر، فلا اختلاف بيني وبين والديّ، على الأقل، لأنهما هما اللذان ربياني. ما رؤيتك لصلاح عبدالصبور الشاعر؟ - بالطبع سأكون غير موضوعية، بل منحازة بشكل تام لصلاح عبدالصبور الشاعر، ربما لأنه الأقرب الى وجداني، بغض النظر عن علاقة الأبوة التي تربطه بي، فعلى مستوى فلسفته، اختلف معه في أشياء كثيرة جداً، مثلاً: شخصية "سعيد" في مسرحيته "ليلى والمجنون"، أحب هذه المسرحية، ولكن لدي مشكلة مع شخصية "سعيد" المثقف المهزوم، ربما لأنني أكره المثقف المهزوم عموماً، أرى أننا أكثر احتياجاً للمثقف الايجابي، المثقف الأكثر جدوى لنفسه وللناس. وأعتقد أن صلاح عبدالصبور ذاته، لم يكن متعاطفاً مع هذا المثقف وهو يكتبه، أو ربما لأنني أحب أن أرى المسألة على هذا النحو!. كيف ترين جيلك... ومشاكله؟ - على رغم تعاطفي الشديد مع أبناء جيلي، إلا أنني غاضبة منه، لأنه جيل ليس عنده قضية مشتركة يهتم بها، كل فرد فيه مهموم بذاته، الطموحات لديه تحولت الى تطلعات شخصية، ولا أعرف هل هي المرحلة العمرية التي تتسبب بذلك، وهل هذا الضياع للقضية كان لدى الاجيال الأخرى التي سبقتنا ومن ثم اصبح موجوداً في جيلنا، ولكنني أرى أن جيل أبي كان جيلاً مهموماً بقضية واحدة مشتركة في ما بينهم، بل انهم حتى هذه اللحظة يتكلمون عن قضاياهم بشكل جميل، ذلك لأن جيلهم كان متوافقاً مع نفسه، جيل غير مزيف، وعلاقاتهم مع بعضهم البعض هي علاقات محترمة الى حد كبير. لا أرى أن هذا يحدث في جيلنا، صار الواحد الآن يرى أن وجود الآخر وتحققه، يلغي وجوده وتحققه، وهي ليست إشكالية أنصاف الموهوبين، لأنني للأسف أرى أناساً موهوبين عديدين يستسلمون للأمر نفسه. لذلك لست مبهورة بجيلي، ولم يستوقفني نتاج أحد، سواء كان رجلاً أم امرأة، لم يستوقفني احد لأشعر أمامه بنضج إنساني أو فني، أو حتى برؤية واضحة للحياة، لا أعرف، لم يستوقفني أحد حتى الآن!. كيف ترين سبيل الخروج من هذه الأزمة؟ - لا أريد أن أُنظّر أنا ضد فكرة ان الظروف هي التي تسببت في صنع جيل بهذا الشكل، لو توقف كل منا ورفض الحياة بدعوى أن الذين سبقونا لم يفعلوا شيئاً، فلن نفعل نحن أيضاً شيئاً يُذكر، وسنعزل أنفسنا، ربما ترى هذا الحكم قاسياً جداً، ولكنني أتحدث في إطار من قابلتهم في حياتي. حديثك سيدفعنا إلى الارتداد الى طفولتك، كيف كانت؟ - طفولتي ثرية جداً، تربيت هنا في مدرسة فرنسية، ثم سافرنا الى الهند، فعشت في حضارة وثقافة مختلفة تماماً، وعند رجوعي الى القاهرة التحقت بمدرسة انكليزية، وسط أبناء الطبقة المتوسطة، ثم دخلت الجامعة الاميركية، فشعرت بأنني شخص مزيف لمجرد انتمائي لهذه الجامعة، فقررت الانخراط في مجتمع المثقفين المهمشين في مصر، لكنني اكتشفت زيف الكثيرين منهم، ما جعلني لا أنبهر بالجو الاميركي، أو المصري، الاثنان لهما مشاكلهما المرعبة. وخاطئ من يظن أن مصر مجتمع واحد أو منسجم، فطلاب الجامعة الاميركية هم اميركيون مرغمون على العيش في مصر، تبدأ حياتهم منها وتنتهي إليها، والآخرون عبارة عن 99 في المئة "كذَّابين". ومع ذلك لست متشائمة، أحاول أن قوم بعملي، وأحاول أن أنتقي أصدقائي الذين - إلى حد ما - يحافظون على نقائهم، فالمشكلة ليست في طبقة أو فصيل بعينه، بقدر ما هي في الجيل كله. كيف تنظرين إلى المستقبل؟ - سؤال صعب طبعاً. بدأت أمثَّل منذ ستة أعوام أو سبعة، ولا أنكر أنني صدمت في كل ما يحدث على جميع المستويات، فليس هناك ما يبهر، والمشكلة أنه لا أحد يصدق ما يفعله، نادرون جداً من يفعلون ذلك، ولأنني ممثلة مسرح فقط، أجد من يسألونني كثيراً: "متى سأمثَّل للتلفزيون؟"، وكأن ممثل المسرح يجب أن يرتقي، كأنها درجة وظيفية. أرى أن ممثل المسرح أرقى بكثير من أي ممثل آخر، مع احترامي لكل الذين يعملون في التلفزيون والسينما، ولكن هذا التدرج الوظيفي اصبح موجوداً في كل شيء، ويسيطر على جميع أركان حياتنا الراهنة. هل ترين أن واقع المسرح المصري الراهن يساعد على تحقيق شيء مما تطمحين إليه؟ - واقع المسرح لا يساعد على شيء، هذه حقيقة، ولكن هذا لا يعني استسلامي لهذا الواقع، وذهابي الى التمثيل في التلفزيون لأعمل أشياء "تافهة". أرى أنني قادرة على تكوين جماعة أعمل من خلالها ومعها، لأنه ليس هناك وجود لكلمة "المناخ المناسب"، وسأبقى هكذا حتى يصبح لي أسلوب خاص، وأحقق شيئاً بالتراكم، وأنا قادرة على التمثيل في التلفزيون والسينما، لكنني أحترم موهبتي ومهنتي، وأعرف أن المجد أهم من الشهرة، شارلي شابلن ظل مصراً على تقديم فنه المختلف، حتى أصبح أسطورة ليس لها مثيل، وكلما ازدادت الأشياء قبحاً من حولي، كلما ازددتُ إصراراً وصلابة. وفعلاً استطعت تحقيق الكثير، فعلى مستوى عملي أثبت - على الأقل - أنني ممثلة جيدة، ويسعدني أنني فعلت هذا عبر خمس أو ست مسرحيات فقط حتى الآن!. الى جانب المسرح ما هواياتك الأخرى؟ - أحب المشي لفترات طويلة، والقراءة، والطبخ، ومشاهدة الأفلام الجيدة، فهي تصيبني بحال من النشوة، وخصوصاً الاجنبية منها، فصنّاع هذه الأفلام تفوقوا علينا في مجالين غير التقنيات والإبهار، هما السيناريو والتمثيل. أي من دواوين صلاح عبدالصبور أقرب إليك؟ - ديوان "الإبحار في الذاكرة"، لأنه مفعم بالحكمة والنضج، خصوصاً قصيدة "الشاعر والرماد"، فأنا أرى أنها من أجمل قصائده، وأحب ديوان "أحلام الفارس القديم". بعد رحيل الأبوين ما هي العلاقة بينك وبين شقيقتك الكبرى مي؟ - "معتزة" و"مي" كائن واحد، وروح واحدة انفصلت في جسدين. نختلف كثيراً، لكننا لا نستطيع الحياة متباعدتين، مي كاتبة قصة رائعة، لكنها خجولة، وهي خريجة الجامعة الاميركية أيضاً، قسم علم النفس، وهي أكثر إنسانة عرفتها في حياتي إنسانية وعطفاً، هي باختصار كل عائلتي التي تبقت لي.