أسعدني وأقلقني في آن معاً مقال ياسر الزعاترة في "الحياة" 9/6/1999 عن موقف الاسلاميين العرب من ازمة كوسوفو، رداً على مقالي المنشور يوم 28/5/1999. أسعدني حرصه على الحوار الموضوعي الهادىء من دون إدعاء بامتلاك الحق او الحقيقة. ولكن أقلقني طرحه الذي ينسجم مع شواهد عدة توحي بثقل تأثير اتجاهات قومية عربية ويسارية على الفكر الإسلامي السياسي وبعض حركاته. لاحظتُ هذا التأثير وتابعته خلال السنوات الاخيرة. لكنني لم أكن أظن انه وصل الى المدى الذي يدفع كاتباً اسلامياً نحترمه الى اعلان الندم على أعظم عمل أداه الاسلاميون العرب في العقود الاخيرة، وهو نصرة اخواننا في افغانستان في مواجهة زحف الشيوعية في سعيها الى إطفاء نور الاسلام. وأعترف أنني شعرت بمقدار من الفزع عندما قرأت ما كتبه ياسر: "من قال للكاتب ان الاسلاميين ينظرون الى موقفهم من القضية الافغانية كما لو كان موقفاً عظيماً يستحق ان يحتذى؟". ثم ذهب خطوة أبعد عندما قرر أن أكثرهم "راجعوا هذا الموقف ورأوا فيه مبالغة لم تكن مبررة". ولكن، كي نضع الامر في حدوده الواقعية، أظن أن أخي ياسر هو الذي يبالغ في هذه المراجعة. أعرف ان هناك من راجعوا موقفهم، ولكنهم - والحمد لله - ليسوا أكثرية على الاقل حتى الآن. كما تفاوت مدى هذه المراجعة وفقاً لقوة او ضعف التأثر بالتوجهات القومية واليسارية التي أربكت تفكير قطاع يعتد به من الإسلاميين العرب، ولكنه لا يمثل غالبية بينهم بعد. وجاء الأثر الأهم لهذه التوجهات مقترناً بإعادة ترتيب الأولويات على نحو ادى الى خفض واجب نصرة المسلمين الى مرتبة دنيا، بفعل رفع شعارات معاداة الغرب الى مرتبة عليا، بحيث صار صعباً تمييز خطاب هذا القطاع من الاسلاميين عن خطاب القوميين الاكثر راديكالية. وهو نفسه الخطاب الذي استخدم، ولا يزال، لقمع الاسلاميين وغيرهم في بلاد عربية حكمها القوميون بالحديد والنار. ولذلك لم يدهشني اعتقاد أخي ياسر في ان انقياد قطاع من الاسلاميين لتوجهات قومية، هي المسؤولة في المقام الاول عن الضعف العربي الراهن، يمثل نقلة في وعيهم السياسي. فقد حدثت نقلة فعلاً، ولكنها ادت الى عكس ما يتصوره. فهو يرى انها اخرجتهم "من ثقل القضايا الصغيرة التي تضيع بوصلة النظرة الأشمل للصراع مع قوة الغطرسة الاولى في العالم"، او أبعدتهم عن "قمقم النظرة الضيقة" الى "فضاء النظرة الى مصالح الامة ككل". وهذا هو، تحديداً، ما حدث عكسه لإخواننا الاسلاميين الذين تأثروا بالمنهج الراديكالي الاختزالي الذي يوجه معظم القوميين والكثير من اليساريين. فقد عمد هذا المنهج الى تعظيم الخطر الغربي وتجسيده في استعمار ثم امبريالية ثم عولمة اميركية، وجعله شاملاً جامعاً مانعاً. إنه، حسب هذا المنهج، خطر الذين لا هدف لهم الا تحطيمنا او سحقنا، او وفقاً لتعبير أخي ياسر خطر "القوة التي لا تريد قيامة للمسلمين في أي مكان". ولا يعني اختلافنا مع هذا المنهج انه لا توجد تناقضات وصراعات بيننا وبين الغرب. ولكننا ننظر اليها باعتبارها نتاج التعدد والاختلاف اللذين هما سُنة من سنن الله في حياة البشر. كما يتجاهل هذا المنهج التعدد والاختلاف في الغرب، وفي داخل الولاياتالمتحدة نفسها. والاهم من ذلك انه يصرفنا عن فهم نوع التناقضات مع الغرب وحجمها في كل لحظة تاريخية، بما يساعدنا على تحديد مساحة الصراع وكيفية إدارته، وبحث إمكانات التعاون خارج نطاق هذه المساحة. فليس هناك صراع تام ابدي مهما تكن التناقضات. ولم يخلق الله ملائكة وشياطين على الارض تحديداً، ولذلك أشك في اسلامية النظرة الى الغرب باعتباره شيطاناً، لانها تتعارض مع رحابة المنهج الإسلامي ونظرته الى العالم وعلاقاته "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة…". ضاقت النظرة الغالبة لدي القوميين وكثير من اليساريين الى العالم بفعل الميراث الاستعماري والتحدي الاسرائيلي، فاختزلوا العلاقة مع الغرب في صراع جامع مانع، وعجزوا عن النظر الى العالم الواسع الا من ثقب هذا الصراع. ونحن لا نبخس هذا المنهج الاختزالي حقه. فهو يساعد على التنبيه الى مخاطر هنا او هناك بحكم تركيزه على مساوئ الغرب. ولكن، إذا أديرت العلاقة مع العالم من منظاره الضيق، لا بد ان نحصد خسائر كبيرة كما حدث فعلاً في هزائم فادحة من 1967 الى 1990 - 1991. فلا يكفي أبداً أن نهتف ضد الغرب صباح مساء من دون ان نعمل وننجز وننتج. وليس في مصلحتنا أبداً أن نصيح كل يوم بأن الغرب هو عدونا الدائم. وهذا هو ما يحذر منه إسلاميون متحررون من المؤثرات القومية واليسارية. وأذكر في هذا الشأن مقالاً بالغ الأهمية للكاتب الإسلامي خالد الحروب في هذه الصفحة في شباط فبراير الماضي تحت عنوان مبدع حقاً هو: "حتى لا تكون هناك هانتنغتونية إسلامية". وكان المقال تعليقاً على هتافات ضد الغرب وردت في مقابلة صحافية مع احد رموز الإسلام السياسي. وبعد ان ذكّر الحروب بأن الغرب ليس واحداً موحداً في شكل كتلة مصمتة، وبأن الشتائم ليست من لغة الإسلام، وحذر من إطلاق الأوصاف القصوى والاستعدائية، جاءت ملاحظته العميقة وهي ان "القول الخفيف والتعميمي الذي يردده قصيرو النظر بأن الغرب عدونا الدائم هو تحالف موضوعي مع مقولات هنتنغتون حول صراع الحضارات، وهو الصورة النظيرة لمقولته: الإسلام عدوي الدائم". وطرح الحروب، في هذا المقال القصير الذي اعتبره أفضل ما طالعته من الكتابات الإسلامية في العام الجاري، رؤية اسلامية ثاقبة. فهو لم يجد مبرراً، ايا كانت حدة الصراع، لمجانبة توجيهات قرآنية رسمت بهدوء حدود ردود الافعال حتى ولو بغى الطرف الآخر مشيرا الى قوله تعالى: "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألاَّ تعدلوا اعدلوا هو اقرب للتقوى...". فالإسلامي هو الذي يفترض أن يعرف أكثر من غيره أنه "ولا تزر وازرة وزر اخرى". ومن أكثر ما أدهشني في رد أخي ياسر الزعاترة إشارته الى أثر أزمة العراق على اتجاه الاسلاميين العرب الذين يرى ان وعيهم السياسي ارتفع، بينما اعتقد ان ميولهم القومية واليسارية هي التي ازدادت على حساب اتجاههم الاصلي. فهو يقول: "كانت عملية السحق التي تعرض لها العراق بمثابة القنبلة التي فجرت فيهم تلك الصحوة" ضد الولاياتالمتحدة. ولا أظن أن أي حس أو ضمير إنساني يمكن ان يقبل ما يحدث لشعبنا في العراق، ولكنني لا اعرف ما اذا كان أخي ياسر على علم بالاحتجاجات الواسعة، في عقر دار الغرب وفي قلب أميركا نفسها، ضد استمرار العقوبات. لكن السؤال الأساسي هو: أي درس نستخلصه من محنة العراقيين، واين تكمن القنبلة على حد تعبيره؟. هنا، يظهر الفرق بين منهاجين: اولهما يتوخى الموضوعية والعدالة، وينبه بالتالي الى دور النظام العراقي في المحنة وخطره على شعبه بل وعلى الامة كلها، واللذين لا يقلان ابداً عن مسؤولية اميركا عما آلت اليه الأوضاع في بلاد الرافدين. اما المنهاج الثاني فهو الذي لا يرى المتأثرون به شراً الا في الغرب وقوى الغطرسة. واعتقد ان المنهاج الاول هو الأقرب الى روح الإسلام، فيما يرتبط الثاني بالتقاليد القومية العربية التي تنطلق من ان الغرب شيطان بكل ما فيه، واننا جميعنا مجني علينا، بمن فينا حكام طغاة سفاحون اهدروا حريتنا وأضعفوا أمتنا. ولكن يكفي أن يقف أي منهم امام الميكروفون ليلعن الغرب واميركا حتى يصفق له بعضنا، حتى إذا كان غسل يديه لتوه من دماء بعض مواطنيه او بالأحرى رعاياه. وحق لأي إسلامي ان ينحاز الى المنهاج الثاني. لكنه يقترب، في هذه الحال، من الدائرة التي يقف فيها معظم القوميين وكثير من اليساريين حتى اذا استخدم خطاباً اسلامياً في تبرير هذا المنهاج. وهناك امثلة كثيرة نسوق واحداً منها فقط اكثر فجاجة من غيره، وهو دفاع الدكتور حسن الترابي عن الرئيس صدام حسين لأنه "فرض على قيادات حزب البعث العراقي ان يحفظوا سوراً من القرآن الكريم"!. لقد ادى الترابي دوراً مشهوداً في عملية التحول الذي طرأ على قطاع يعتد به من فكر الإسلام السياسي تأثرا بتوجهات قومية ويسارية. والمثير للاستغراب أن بعض من أثّر فيهم يعرفون جيداً حقيقة أهدافه ومراميه. ونحن لا نكذبه عندما يقول إن الرئيس العراقي يفرض على زمرته حفظ أجزاء من القرآن. فالحكام من هذا النوع يلجأون الى كتاب الله سعياً الى دعم شرعيتهم. وكثيراً ما يستشهدون بآيات من الذكر الحكيم في غير مواضعها. فإذا لم تكن لهم حاجة فيها لا يطيقون سماعها. اثارت ازمة الخليج الثانية، التي ما برحت مستمرة، خلافاً في أوساط الاسلاميين العرب، وظهر منذ إندلاع تلك الازمة، خطر تأثر قطاع منهم بالمنهاج القومي - اليساري الاختزالي ووقوفهم وراء طاغية العراق، وهو ما سماه الدكتور محمد سليم العوا "العبث بالإسلام في ازمة الخليج". وكان هذا هو العنوان الذي اختاره لكتاب صغير في حجمه كبير في قيمته ضم مقالاته التي نشرها في شأن الازمة في ذروة اشتعالها. وكان الدكتور العوا عميقاً كعهده نقياً في منهاجه الإسلامي عندما كتب ان "حكم الفرد هو السر وراء تخلف الامة"، بينما يذهب المنهاج الآخر الى ان الغرب هو المسؤول عن تخلفنا وعن كل شرور الدنيا. كما كتب أن "الأحزان ستبقى كما هي، وستبقى الأشجان عميقة عمق جذور أقدم نخلة عربية ما لم تتخلص أمتنا من الطغيان". وهذا هو ما أدعو أخي ياسر الزعاترة الى تأمله، ليس لتبرئة الشق الاستعماري في الغرب، ولكن كي لا يجرمنا شنآن قوم على ألا نعدل، وكي لا ننصرف عن العلة الاساسية التي تكمن في داخلنا، وكي لا يصير خطؤنا في إدارة علاقاتنا مع الغرب مصدراً لمزيد من الانتكاسات. وليس مطلوباً من الإسلاميين العرب اكثر من الاستمساك بمنهاجهم وما يتميز به من نظرة رحبة الى العالم وضوابط شرعية في ردود الفعل على أي بغي أجنبي. ولا يقتضي ذلك غير الانتباه الى تعرض قطاع من فكر وحركة الإسلام السياسي الى موثرات قومية عربية وأقل منها يسارية خلال السنوات العشرين الاخيرة خصوصاً، وهي مؤثرات كانت شديدة على بعضهم الى حد ان نسمع من احدهم ان "كراهية اميركا واجب ديني شرعي"، أو أن "بغض الاميركان جزء من عقيدتنا ومن ديننا". والأرجح انه اذا سمع انسان مسلم بسيط هذا الكلام، لا يمكنه تصديق ان المقصود هو دين الإسلام وعقيدته. فهذا كلام يجوز ان نسمع مثله من قومي متشدد، عربي كان أو صربي، او من شيوعي متطرف حين كانت الشيوعية حية. ولكن حتى الكثير من القوميين واليساريين لا يعادون اميركا كلها، بل يقدرون دور شبابها الذي يقف ضد سياسة بلاده عندما تجمح كما حدث في مناسبات أبرزها حرب فيتنام. ومع ذلك كان اثر التوجهات القومية خصوصاً، شديداً على قسم من الاسلاميين العرب. والمفارقة ان هذا حدث في مرحلة تراجع هذه التوجهات سواء لانحسار التيار القومي عربياً، او لاهتزاز الفكرة القومية عالمياً في عصر يزداد فيه العالم اندماجاً. ومع ذلك لا يكاد المرء يصدق عينيه وهو يقرأ مقالاً لكاتب إسلامي تحت عنوان "النبي محمد صلى اللّه عليه وسلم رجل القومية العربية". ألا يعني ذلك تصغير الإسلام ورسالة نبيه عليه الصلاة والسلام؟ ثم كيف يؤثر مثل هذا الخطاب على وعي الاجيال الجديدة بالإسلام عقيدة وليس فقط فكراً وحركة سياسية، وهل يبقون مؤمنين بشمول دينهم وبأنه لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى؟ وليس هذا إلا مثالاً واحداً يدل على ان المؤثرات القومية طاولت مفردات الخطاب، وليس فقط المواقف التي كان آخرها إدانة "الاعتداء الغربي على سيادة يوغوسلافيا". وهذا موقف يضع معاداة الغرب في مرتبة أعلى من نصرة المسلمين كما قلت في مقالي السابق، فضلاً عن انه مؤسس على مقولات قومية مثل السيادة التي يدافع عنها أخي ياسر الزعاترة الذي يميز بين "احتلال شيوعي لدولة مسلمة" في القضية الافغانية، وبين "اقليم هو جزء من دولة قائمة كما هو شأن أقاليم اخرى موجودة في اماكن اخرى ومن الافضل لها التعايش مع دولها". وحتى اذا كان مبرره في ذلك هو استحالة الاستقلال، يظل الاستناد على مفهوم السيادة في حال إبادة شاملة لمسلمين مستضعفين تعبيراً عن مؤثرات قومية لم تعد خفية. وفضلاً عن ان السيادة مفهوم قومي، فقد ارتبط تكريسه بعلمنة السياسة في العصر الحديث. وليس مطلوباً من الاسلاميين أن يقفوا ضد مبدأ السيادة، وإنما ان يكف بعضهم عن إضفاء قدسية عليه الى الحد الذي جعلهم مستعدين لتقديم مسلمي كوسوفو قرباناً له. ولا يتسع المجال لمناقشة أوسع للمؤثرات القومية على فكر وحركة الإسلام السياسي في السنوات الاخيرة. ولكن اشير الى مثال واحد آخر، وهو التحول الذي حدث تدريجاً في موقف بعضهم في مصر تجاه الرئيس الراحل أنور السادات الذي كان معظم عهده بمثابة عصر ذهبي لهم. فقليل منهم الآن هم الذين يقولون كلمة حق عنه، على رغم أن بعضهم اكتشف اخيراً مزايا عهد الرئيس جمال عبدالناصر الذي تعرضوا فيه لأشد قهر في تاريخهم. وكان وراء هذا التحول انقياد بعضهم وراء الاتجاه الغالب لدى كثير من القوميين وبعض اليساريين. وهذا اتجاه يقوّم الإنسان وفق معيار وحيد هو مدى عدائه لاسرائيل وأميركا. فالعمل الصالح، او بالأحرى الكلام الصالح، ينحصر في التعبير عن هذا العداء في مناسبة وبلا مناسبة. وكل ما عدا ذلك لا أهمية له. وهذا منهاج شديد الضرر، لأنه لا يستفيد من تكرار أخطاء وخطايا الانظمة القومية اليسارية التي دفعت الامة ثمناً فادحاً لها. ومن عجب أن يرتد قسم من الإسلاميين العرب الى هذا المنهاج، في وقت بدأ جزء صغير من أصحابه القوميين، خصوصاً بعض الناصريين في مصر، يراجعونه ويتقدمون صوب التحرر من اسوأ ما فيه، وهو اختزال الدنيا في خير وشر واحتكار الوطنية والهبوط بها الى هتاف وصياح ضد الغرب. * رئيس تحرير "التقرير الاستراتيجي العربي" - مصر.