بصورة نسقية، ينخرط قوميون عرب ضمن الاصطفافات والاستقطابات القائمة في بلدان المشرق، بما فيها تلك التي تتعلق بشؤون داخلية في هذه البلدان. فهم إلى جانب «حماس» في فلسطين ضد السلطة الفلسطينية، وإلى جانب «حزب الله» في لبنان ضد خصومه السياسيين، وإلى جانب النظام في سورية ضد أي معارضين محتملين له، وإلى جانب أية «مقاومات» في العراق ضد الحكومة العراقية والقوى العراقية الأخرى. وبينما يحصل أن تُنتقد جوانب من سياسة وتفكير بعض الأطراف المعينة (قد تسمى «محور الممانعة»)، إلا أن النقد هامشي ولفظي، لا يتعارض مع كثافة العلاقات والروابط المؤسسية بين الطرفين، التي تبلغ حد التماهي الفعلي. ينبغي أن يكون هذا غريبا. فلأنهم قوميون يفترض المرء أن عليهم بالأحرى النأي بأنفسهم عن استقطابات داخلية، توافق في أغلب الحالات تشققات طائفية أو ما يقاربها في بنى المجتمعات المعنية. ليس الحياد هو ما قد يطالب به القوميون، ولا يمكن مؤاخذتهم على انحيازاتهم الإيديولوجية والسياسية، بالخصوص إلى قوى ومنظمات تقاوم إسرائيل. ما يلامون عليه بالأحرى هو الاصطفاف غير النقدي عموما إلى جانب هذه القوى، والعدوانية البالغة حيال من لا يصطف معهم. هناك اندفاع أعمى وقصير النظر، تبعيّ حيال جهة وعدائي حيال جهة، لا يمكن تبريره حتى على أرضية التضامن مع حركات مقاومة. يفترض المرء أن بوسع القوم أن ينحازوا إلى من ينحازون إليهم مع شيء من الاستقلالية، ودون أن يسهموا في تسميم الأجواء العامة في البلدان المعنية، فلسطين ولبنان بخاصة. ما الذي يقودهم إلى ذلك؟ شيئان: أسلمة القومية العربية، وافتراض سيادة قومية متعالية على الدول القائمة. لقد أفضت الإخفاقات السياسية المتكررة، وهي تتجاوز الهزائم أمام إسرائيل (بل لعلها وليدة قصر الأجندة القومية على مواجهة إسرائيل)، إلى تعرية القومية من ارتباطها بقضايا التحرر الاجتماعي والمساواة والعلمانية والديموقراطية، وتقوية ارتباطها بالمقابل بما يبدو من فاعلية سياسية واجتماعية إسلاموية، آلت ببعض القوميين إلى الربط الجوهري بين القومية والإسلام. وبينما عرضت الحركة القومية العربية نزوعا شعبويا يساريا في ستينات القرن العشرين (جماهير كادحة، طبقات شعبية..)، فإن تشكلها الماهوي الراهن يعرض بالأحرى نزوعا شعبويا يمينيا، يعرّف الشعب بالهوية والثقافة والدين. النقطة الأساسية التي لا يريد أن يراها «القوميون الجدد» هؤلاء هي أن الإسلامية لا تصلح بحال أساسا للقومية أو للوطنية. وليس لذلك أية صلة بنزعة عداء للإسلاميين، يظن كاتب هذه السطور أنه مُبرّأ منها. المسألة مبدئية بالفعل. وهي تتصل بكون الإسلامية اليوم «طائفة» وليست «الأمة». وأسلمة القومية العربية، وإن من باب الصراع مع إسرائيل، تعني بالضبط تطييفها. أي عمليا انقلابها على ذاتها. الشيء الثاني هو التحفظ حيال الدول العربية القائمة ككيانات وكمؤسسات حكم باسم سيادة قومية افتراضية. هذا يضعف شرعية الدول والتماهي معها، بينما الدول هي التشكيلات السياسية المؤهلة أكثر من غيرها، ودون غيرها، لضبط النزعات الطائفية المهددة لأكثرها. فكمؤسسات حكم تشغل الدول الموقع الذي يؤهلها دون غيرها لتطوير سياسات داعمة للاندماج الوطني؛ وككيانات توفر الدول دون غيرها أيضا هوية عليا، وطنية، تتيح استيعاب الهويات الفرعية والحد المبدئي من تسييسها. افتراض سيادة تعلو الدول وتقلل من شرعيتها الكيانية يضع القوميين عمليا في صف القوى التي تنخر هذه الدول من داخل، أي الطوائف والعشائر والإثنيات. وهذا موقف دوغمائي، يجعل إصلاح الدولة متعذرا لأنها مجرد ظل أو عرض، ويلعب اليوم حصرا لمصلحة ما هو دونها من تكوينات عصبوية وأهلية ضيقة. ولا نرى كيف لذلك أن يخدم أية مصلحة عربية مستنيرة. هل من داع للقول هنا أيضا إنه ليس لهذا النقد صلة بنزعة عداء للعروبة، كاتب هذه السطور مبرّأ منها قطعا؟ والواقع أن القوميين العرب اليوم حزب ممكن بين أحزاب في بلداننا العيانية، وليسوا بحالٍ «الأمة». وهو في أغلب الظن حزب صغير، وإن يكن كثير الجلبة. وإنما لذلك لا تناسبه الديموقراطية كما لا تناسب الإسلاميين. وحيثما قامت دول قومية عربية فقد كانت دولا حزبية واستبدادية، وبالمثل حيث يمكن أن تقوم دول إسلامية فسوف تكون دولا طائفية وغير ديموقراطية أيضاً. وقد نوحّد جَذرَيْ تحول القومية إلى إيديولوجية نزاع أهلي في مفهوم واحد: «الأمة». الأمة هذه إسلامية مرة وعربية مرة، لكنها دوما في تخارج مع الدول والمجتمعات الفعلية. هناك أمة أو أمتان، هما فكرتان مجردتان، وهناك دول واقعية يُرى إليها ككائنات عارضة لا شأن لها. وليس لأي من هاتين الأمتين داخل ذاتي أو بنية ذاتية. إنهما هويتان بسيطتان، تتحددان بما تتمايزان عنه (إسرائيل، أميركا، الغرب...) لا بما تتكونان منه. ولما كانت الأمة هي الجوهر، فسترتد الدولة إلى أداة لا ذاتية لها، الأمر الذي يجعلها غير قابلة للإصلاح. ما لا يراه القوميون (والإسلاميون) هو أن الدول العربية الواقعية وفيّة لهذا المنطق أكثر حتى مما يوحي خطابها المعلن، الوفي بدوره. فهي أيضا تميل إلى تعريف مجتمعاتها كهويات متجانسة، أي بالثقافة والدين، ومركز ثقل السياسة فيها ليس أبدا في داخل اجتماعي معاق التشكل، بل في تكوينها الأداتي الموجه نحو الخارج. الدول القائمة «قومية» بالفعل بنيوياً. وهي مندارة نحو الخارج بالضبط لأنها «قومية» وبلا عمق ذاتي. سورية كذلك، ومصر كذلك. وهي لا تقاوم إسرائيل مقاومة فعالة لأنها دول خارجية وخبيرة بالخارج وموازين قواه. ولن تكون مختلفة في غير طلائها الإيديولوجي لو سيطر عليها الإسلاميون. من هذا الباب فإن سياسة الناشطين القوميين اليوم ترتد إلى صبغ الدولة – الأداة باللون الإيديولوجي الصحيح، دون اهتمام بتوجيهها نحو الداخل. يفوتهم (هل يفوتهم فعلا؟) أن لا فرق بنيوياً بين سورية ومصر، مثلا، في غير اللون والبلاغة. ومن هذا الباب أيضا فإن أكثر ما يوجه من نقد للقومية العربية اليوم هو نقد قومي بدوره، يحيل إلى هوية أخرى (سورية أولا، مصر أولا، الأردن أولا...) وليس إلى مجتمع مركب ومختلط. ما يمكن أن يكون نقدا جديا هو ما يحيل إلى تحويل الدولة بنيويا إلى دولة داخلية. الدولة الداخلية تعرف بسكانها النثريين، معاشهم وترقيهم وتضامنهم، ولا بالهوية أيا تكن. على هذا النحو يمكن تجاوز سياسة الهوية التي ترتد إليها بلا باق القومية العربية (والإسلامية) اليوم، ما يؤهل ظروفاً أنسب لانطواء منازعات الهويات ولكسوف مثقفيها العضويين.