لابد من مناهضة الولاياتالمتحدة في أي موقف تتخذه بغض النظر عن خطئه أو صوابه، وعن الثمن المترتب على ذلك. هذا هو مؤدى توجه غالب على مواقف قطاع يعتد به من الحركات والتيارات السياسية ما بين قومية ويسارية وإسلامية، بل حتى ليبرالية، في العالم العربي تجاه عملية الأطلسي في البلقان. ويتغطى هذا التوجه بأثواب عدة مثل الشرعية الدولية أو سيادة الدولة أو الحل السلمي. ولكن هذه أثواب فضفاضة للغاية الى حد أنها لا تخفي منطق "عدو عدوي صديقي" الذي يكمن وراء موقف الرفض أو الإدانة لعملية الأطلسي. كما لا تفلح انتقادات أصحاب هذا الموقف ضد ميلوشيفيتش والدموع التي يذرفونها أحياناً على مسلمي كوسوفو في إخفاء هذا المنطق الذي ينطوي على تضحية بالبشر - أي بشر - في سبيل ما يظنونه نضالاً ضد الامبريالية أو الهيمنة أو العولمة. وهي تعبيرات يستخدمها بعض العرب كمترادفات برغم كل ما بينها من فروق موضوعية وزمنية. وليس هذا المنطق جديداً في مضمونه بالنسبة إلى من يهاجمون عملية الأطلسي الآن. فهو نفسه الذي تم الانطلاق منه لتبرير رفض استنكار ممارسات النظام الدموي في بغداد بدعوى أنه يناهض السياسة الأميركية، وأن أي انتقاد له يضعف مركزه في المعركة التي يخوضها. ولذلك ترتفع أصوات عالية عندما تضرب أميركا العراق. ولكنها تختفي تماماً حين يقتل صدام حسين العراقيين، أو تبحث عن مبررات له. وإحدى المفارقات في هذا المنطق أن بعض أصحابه لم تزعجهم استباحة النظام العراقي لسيادة الكويت بمقدار ما أرقهم اعتداء الأطلسي على سيادة يوغوسلافيا، وليس هذا إلا نوعاً من الازدواجية التي يلعنونها في سلوك الغرب، فيما هم يمارسونها بأكثر مما يفعل غيرهم في العالم. وعندما يحاولون الإيحاء بأنهم ضد الازدواجية، يخلطون بين حالتين لا وجه للشبه بينهما إلا وجود حاكم مستبد دموي، وهما العراق ويوغوسلافيا. ويتغاضون، في مجرى هذا الخلط، عن مأساة بشر يتعرضون للإبادة، ناهيك عن أنهم يمتون بصلة ما إلينا ليس فقط باعتبارهم مسلمين، ولكن لكونهم مستضعفين أدمى بؤسهم قلوباً كثيرة في بلاد الاستكبار، ولكنها لم تمس لدى بعضنا قلباً ولا عقلاً. وقف فريق منا فعلياً مع جريمة بشعة ضد الإنسانية، وفي صف يجمع أسوأ حكام وساسة الدنيا من ارييل شارون الى صدام حسين إلى بوريس يلتسن، وفي موقفهم هذا، يتبدى غير قليل من الارتباك والتناقض مما يحدث من حين إلى آخر منذ مطلع العقد الجاري وما حمله من مستجدات كبرى لم تواكبها حركة مراجعة جادة في داخل معظم الحركات والتيارات السياسية في العالم العربي. وحدث شيء من ذلك الارتباك والتناقض قبل أسابيع قليلة عقب اعتقال زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان. فإذا بفريق من عتاة القوميين العرب، الذين طالما استخفوا بأكراد العراق أو أهانوهم، وقد تحولوا الى مدافعين أشداء عن أوجلان وأكراد تركيا لا لشيء إلا نكاية في أنقرة التي يرونها حليفة لإسرائيل، ولأن "سي. آي. إي" لعبت دوراً مشهوداً في اعتقاله، ولم يفسروا، لأنهم لم يفكروا أصلاً، لماذا يكون أكراد تركيا مظلومين بينما أكراد العراق يتهمون بالخيانة والعمالة لواشنطن! لقد صارت كلمة السر، إذن، هي أميركا. فحيث تكون، يوجد الشر، والعكس، وإذا أردت أن تعرف أين يقف قطاع واسع من الحركات السياسية العربية في أي قضية، من دون أن تطلع على أدبياته، أنظر الى الموقف الاميركي، وستجدهم في الموقع المضاد بغض النظر عن طابع ذلك الموقف. وربما يكون هذا الاستنتاج مبالغاً بدرجة أو بأخرى، شأنه شأن أي تجريد. ولكنه يظل معبراً عن طريقة التفكير السائدة لدى قطاع واسع من الحركات القومية واليسارية والإسلامية، وقطاع أقل نسبياً من التيارات الليبرالية في عالمنا العربي. وبالقطع ينطوي كل من هذه الاتجاهات على تنوع سواء من بلد الى آخر أو في البلد نفسه في كثير من الأحيان. ومع ذلك يظل في الإمكان أن نميز منهجياً بين توجهين أساسيين في كل من هذه الحركات والتيارات: أحدهما يستريح إلى موقف بسيط يقوم على ثنائية الخير والشر. والآخر يدرك ما في عالمنا الواسع من تعقيد وتركيب يجعلان المساحات الرمادية أوسع من البيضاء والسوداء، ويجيز أن تجتمع أهداف إنسانية واستراتيجية في العملية نفسها. وهذا ما يميز عملية الأطلسي في البلقان، لأن نجاح ميلوشيفيتش في إبادة مسلمي كوسوفو وتهجيرهم سيهدد استقرار أوروبا كلها. فإذا نجح، سيشجعه ذلك على مزيد من الاعتداءات على جيرانه طالما أن أحداً لا يتصدى لجرائمه. كما أن عدم إعادة المهجرين من كوسوفو سيجعلهم عنصر تفجير لدول مجاورة، خصوصاً مقدونيا ذات الأهمية الاستراتيجية الخاصة في جنوب شرق أوروبا، والتي كان بسمارك يقول إن من يسيطر على وادي نهرها الأساسي "فاردار" تتأمن له السيادة على البلقان. ومن الطبيعي أن أصحاب المنهج التبسيطي ليسوا على القدر نفسه من اختزال العالم في خير وشر مطلقين. ولكن يبدو أن حرب البلقان أضافت الى هذا المنهج جرعة إضافية من التبسيط. وبمقتضاها صار ممكناً تحويل شر واضح - كالذي تمثله إبادة أهل كوسوفو - إما إلى خير أو الى مزيج من الخير والشر. ولا غرو في ذلك، لأن كل من يتعرض لأذى من أميركا لاپبد أن يكون فيه خير. وفضلاً عن ذلك، صار أصحاب المنهج التبسيطي والمتأثرون بمنطق "عدو عدوي صديقي" أكثر اقتناعاً بامتلاكهم نظريات شديدة العمق. وكيف لا، وهم الذين كشفوا الأهداف الخفية للسياسة الاميركية في البلقان ووصلوا الى ما تعج به من مؤامرات لا يدركها بسطاء الفكر الذين لا تقوى عقولهم الخفيفة على النفاذ الى عمق المخططات الاميركية الكونية المستمرة والمتجددة دوماً. وفي مجرى "التنظير" لمواجهة هذه المخططات الشريرة، كان ضرورياً أن تكثر المتناقضات التي يثير بعضها قلقاً على مستقبل جزء من العقل العربي في قراءاته لعالم يتحول عن طابعه البسيط الذي كان عليه في عصر الحرب الباردة، عندما كان هناك معسكران واضحان متبلوران. وليس هنا مجال حصر هذه المتناقضات. غير أن قليلاً من الأمثلة يظل ضرورياً. فمن قائل إن أميركا تعمدت إفشال الحل السلمي لاستدراج يوغوسلافيا الى حرب تدمر فيها قوتها العسكرية وتضعف خلالها موقف روسيا، الى قائل إن هذه الحرب تخدم مصلحة يوغوسلافيا الصربية وتتيح لها فرصة فريدة للقضاء المبرم على ألبان كوسوفو. ولا يوضح هؤلاء لماذا لم تترك واشنطن ميلوشيفيتش يكمل تهجير أهل كوسوفو في صمت من دون حرب إذا كانت متواطئة معه. كما لا يكشف أولئك حجم القوة العسكرية اليوغوسلافية "الكبرى"! التي تتذرع أميركا بمحنة كوسوفو لضربها. فهذا نوع من الخطاب لا ينتشر إلا اعتماداً على التعمية والتجهيل، بحيث ينسى من يسمعونه أن التطهير العرقي في كوسوفو بدأ منذ نحو 18 شهراً، وتصاعد بشدة في الأسبوع السابق على قرار التدخل. ولذلك تفقد مقولة إن مشكلة هذا الاقليم هي من نوع مشاكل الأقليات، التي ينبغي حلها بالتراضي من دون تدخل خارجي، أي معنى. وهذه مقولة أخرى من المقولات المعززة لرفض عملية الأطلسي، فهناك فرق نوعي بين مشكلة أقليات ومأساة إبادة جنس أو حتى تطهير عرقي، لأن بعض العرب يعترض على اعتبار ما يحدث إبادة. ويتفقون في ذلك مع الإسرائيليين الذين يحرصون على أن تظل "المحرقة" محتفظة بأثرها رصيداً لهم وحدهم يبتزون به الغرب. كما يقف هؤلاء العرب على الخط نفسه مع إرييل شارون الذي حذر من الترحيب بعملية الأطلسي لئلا تكون إسرائيل ضحية قادمة لمثلها. وهذا هو ما فعله بعض العرب عندما حذروا من أن الضربة التالية ستكون لإيران أو للسودان، وأن الدور سيأتي على دول عربية أخرى. كما لا يعدم خطاب إدانة العملية تناقضاً في جانبه المتعلق بنفي أي صلة لها بدوافع إنسانية. فمن قائل بانتفاء هذه الدوافع استناداً على عدم تأييد واشنطن استقلال كوسوفو، الى قائل بخطورة تحقيق هذا الاستقلال على وحدة بلاد أخرى تعاني صراعات عرقية. ولنلحظ أن انتقاد عدم منح الاستقلال لكوسوفو يتناقض مع معنى أكثر شيوعاً في خطاب مناهض لعملية الأطلسي، وهي إنهاء اعتداء على سيادة دولة مستقلة. ونلمح في ثنايا هذه المتناقضات، وغيرها، خللاً في منطق العداء المطلق لأميركا، عندما يحاسب أصحابه واشنطن لأنها لا تفعل كل ما نريده لخدمتنا وتحقيق مصالحنا، وكأنها مركز الخلافة الإسلامية وليست عاصمة الولاياتالمتحدة. وهذا فضلاً عن أن من يعيبون عليها أنها لا ترسل جنودها ليموتوا من أجل حماية المسلمين لم يطلبوا ارسال قوات عربية أو إسلامية، ولو عن طريق التطوع الذي حمل عدداً كبيراً ليس فقط من الصرب ولكن أيضاً من سلافيين آخرين الى يوغوسلافيا دفاعاً عنها. أما إدانة عملية الأطلسي لأن هناك حالات أخرى لم يتدخل فيها الحلف، فهي صحيحة. ولكنها تناقض إحدى أهم حجج الإدانة الأخرى، وهي السيادة. كما أن حالة كوسوفو تعتبر أكثر مأسوية من غيرها بخلاف حالة رواندا 1994. ولكن هذا يفرض أن ندين عدم التدخل في رواندا، لا أن نرفض التدخل في كوسوفو. لقد امتنعت اميركا عن التدخل في منطقة من أكثر مناطق العالم تخلفاً، وتدخلت في منطقة تقع في قلب العالم المتحضر. وهذا موقف عنصري انتقائي ينبغي أن نرفضه، وأن نسعى الى معيار موحد للتدخل الإنساني ضد الإبادة لا أن نقف فعلياً مع من يمارسون هذه الإبادة، ويصح أن يشمل سعينا هذا تعديلاً في ميثاق الأممالمتحدة يستهدف تحديد معيار التدخل بوضوح ويحرره من إمكانات التلاعب به ويجعله تحت راية المنظمة الدولية. فالعالم يعج بالصراعات العرقية التي يزداد انفجارها، ويحمل بعضها خطر اللجوء الى الإبادة إذا خرج سفاحو يوغوسلافيا من حرب البلقان من دون هزيمة واضحة. وهذا هو ما ينبغي أن يدركه رافضو عملية الأطلسي في الحركات السياسية العربية، فيراجعوا موقفهم الذي ذهب بعضهم بعيداً جداً في التعبير عنه. فقد صارت صفات البلطجة والهمجية والبربرية تطلق على هذه العملية بأكثر مما تستخدم لوصف حرب إبادة مسلمي كوسوفو. لقد سقط هؤلاء المستضعفون من الصورة التي رسمها بعضنا في خياله، وتعاطى بموجبها مع أعمال ذبح وتهجير بفتور شديد، وأبدى حياداً بارداً تجاه قتل أبرياء وحرق جثثهم التي وقف مجرمون على بعضها صارخين: ما أنتم سوى جرذان! فما هذا الفتور الذي أصابنا، في وقت تفيض كتابات أميركية وأوروبية بالألم الى الحد الذي نرى في ثناياها صورة حقيقية للإبادة، ونشم بين سطورها رائحة اللحم البشري يحترق. وليت هذا الفتور كان نتاج عقلانية مفاجئة هبطت علينا وساعدتنا على الارتفاع فوق جراحنا والنظر الى الأمور بعقل بارد... ولكن المشكلة هي أن عداء بعضنا لأميركا صار مطلقاً جامعاً مانعاً... ولا حول ولا قوة إلا بالله. * رئىس تحرير "التقرير الاستراتيجي العربي".