ثمة أمور عدة ميزت العرض الأخير للمخرج والمصمم الكوريغرافي والراقص وليد عوني "خيال المآتة"، الذي قدمه وفرقة "الرقص المسرحي الحديث"، في مسرح الجمهورية أخيراً، وأعاد تقديمه في مسرح المدينة في تونس العاصمة، ضمن فعاليات الملتقى الأول لفرق الرقص المسرحي الحديث المتوسطية. الأمر الأول هو أنه العرض الذي يختتم به عوني القرن العشرين، وهو كان بدأ مشواره مع الرقص الحديث في بلجيكا قبل نحو ربع قرن وأسس هناك فرقة "التانيت" ثم انتقل الى القاهرة وأسس فرقة "الرقص المسرحي الحديث" العام 1993، أما الأمر الثاني فهو أن عوني عاد الى المشاركة بالرقص في عروضه بعد توقف دام نحو ست سنوات منذ قدم "سقوط ايكاروس". وهو في "خيال المآتة" تحديداً يلعب دوره الحقيقي كمخرج ومدير للفرقة. الأمر الثالث واللافت جداً خصوصاً على الصعيد الفني بالنسبة لفنان استثنائي مثل عوني هو أنه العرض الأول الذي قدمه بعد مشاركته في ورشة عمل مع مصممة الرقص الألمانية بينا باوش في كانون الثاني يناير الماضي، ويعود الى باوش الفضل في تأسيس الرقص المسرحي الحديث العام 1973، وكان عوني قبل مشاركته في الورشة المسرحية مع باوش يحضر عرضاً جديداً في عنوان "رائحة الثلج" غير أن عمله مع باوش جعله يعيد حساباته الفنية من جديد، ويبدل بعض طروحاته الفنية، خصوصاً على صعيد عملية التواصل بين الراقصين على خشبة المسرح والجمهور في الصالة. يقول عوني: "عملي مع باوش جعلني أغير أفكاري السابقة عن عرضي "رائحة الثلج"، وبدأت في طرح أفكاري من جديد وإعادة تجميعها في كتلة واحدة وتنسيقها في اتجاه موضوع ولد فجأة ليخرج عرض "خيال المآتة". ويضيف عوني: أردت تقديم عرض مسرحي يحمل ما في داخلنا لنترجمه أمام الجمهور على المسرح من خلال الاتصال المباشر في اللحظة ذاتها وصوغ الأفكار والمواقف المسرحية بمشاركته وهو ما يحدث الآن في العالم". وفي العرض الذي استغرق ساعتين كثف عوني عملية التواصل بينه وبين الجمهور في مشهدي البداية والنهاية على رغم أن العرض ليست له بداية ولا نهاية في المفهوم المتعارف عليه، فالجمهور عند دخوله المسرح يجد الستارة مفتوحة والراقصين واقفين يتبادلون حديثاً ودياً وكأنهم في بداية أحد التمارين، فيما يقوم عوني بالنزول عن خشبة المسرح وهو يحمل بعض الاشياء التي يستخدمها الراقصون في العرض ويعرّف الجمهور عليها ويطلب منهم أن يمسكوها ليلتقط لهم صوراً معها، وفي مشهد الختام يرتدي جميع الراقصين ملابس السهرة استعداداً لالتقاط صورة جماعية لهم مع المخرج وخيال المآتة. غير أن آلة التصوير تتعطل أكثر من مرة، ويبدأ الراقصون بالتذمر وترك خشبة المسرح والنزول الى الصالة والجلوس مع الجمهور، فيما عوني يحاول مرة وأخرى مع آلة التصوير لتلتقط له صورة مع خيال المآتة الوحيد الذي بقي على خشبة المسرح. وبين مشهدي البداية والنهاية قدم عوني مجموعة من اللوحات السمعية البصرية مستخدماً عناصر العمل المسرحي من ديكور وإضاءة وملابس واكسسوارات وموسيقى لتقديم أفكاره الواحدة تلو الأخرى بشكل لا يخلو من الدهشة والطرافة وأحياناً الكوميديا. فهو مثلاً استغل التباين الكبير بين طول قامة الراقص محمد شفيق 190 سم والراقصة هبة فايد القصيرة القامة ليقدم مشهداً عاطفياً بينهما فهو يصرح لها بحبه وهي تقفز الى أعلى محاولة الوصول الى طول قامته. وبلغ العرض ذروته الجمالية في المشهد الذي استخدم فيه عوني أغنية قديمة للمطرب عبداللطيف البنا، بعنوان "يا ما لسه نشوف حاجات تجنن البيه والهانم عند مزين". وقدم عوني في عرضه هواجس الإنسان على عتبة الألفية الثالثة من خلال طرح اسئلة فلسفية حول ماهية الحب والانطوائية والظل، هكذا بدت الراقصة نانسي تونسي تضع صورة للنعجة دوللي على بطنها وتشير إليها في هوس هذا هو وليدي! وفي مشهد آخر يعرض عوني مجموعة ضخمة من صور مشاهير السياسة والفن والأدب الذين مروا في القرن العشرين، عرضها على مفارش بيضاء معلقة على حبل غسيل، وكأنه يقول للجمهور: هؤلاء أيضاً خيالات مآتة قد نحبها، قد نكرهها وقد نخاف منها. والشخصيات تنوعت بين فيروز ومارلين مونرو وبيكاسو وياسر عرفات وجون كيندي وصدام حسين وهيتشكوك وتشرشل وجمال عبدالناصر. وبلغ المشهد هذا روعته عند ظهور آخر صورة وهي الصورة الفائزة بجائزة أفضل صورة صحافية للعام 1997 وتبدو فيها امرأة جزائرية ثكلى ذبح أولادها الثلاثة في إحدى المجازر، وفور ظهور الصورة سرعان ما تلتحف بها إحدى الراقصات كريمة نايت وهي جزائرية الأصل وتسقط على المسرح.