اختتمت في بيروت قبل يومين أعمال مؤتمر العدالة العربي الأول الذي بحث في القضاء في المنطقة العربية وتحديات القرن الحادي والعشرين، وأتى هذا المؤتمر ليملأ فراغاً بقي موجوداً لفترة ليست بقصيرة لم يشغل فيها موضوع القضاء بال المسؤولين في الدول العربية، كما ان القضاة وهم حراس العدالة وسدنة الحقوق والحريات لا يستطيعون الخوض في التفصيلات الدقيقة المتعلقة بطبيعة العمل القضائي الذي يتشرفون بخدمته وحماية استقلاله، وذلك لحساسية الدور الذي يقومون به. ولا شك ان أول ما يثار ويلاحظ عند تناول موضوع استقلال القضاء ان الجوانب النظرية التي تدرس للطلاب والمختصين وتلقى في المحاضرات والندوات المختلفة وتناقش في المؤتمرات تختلف اختلافاً كبيراً وتتناقض احياناً مع الجانب العملي التطبيقي في العالم العربي. فالقضاء وللأسف الشديد، وعلى رغم الوجود النظري لسلطة مستقلة تعنى بشؤونه، الا انه وحتى يومنا هذا يُنظر اليه على اساس انه وظيفة حكومية. وعلى رغم كل الشعارات ما يزال يتم التعامل مع القضاة في بعض الدول العربية باعتبارهم موظفين عموميين!! من الدرجة الأولى طبعاً يحمل بعضهم جوازات سفر خاصة!! وعلى رغم الحماية الدستورية وقوانين استقلال القضاء المختلفة فإن سلطة القضاء لم تصل الى حد الاستقلال في وطننا العربي الكبير، مع اختلاف في التطبيق بين دولة وأخرى. لذا فانه من الضروري النظر للسلطة القضائية كسلطة مستقلة عن السلطات الأخرى للدولة. واستقلال القضاء لا يتحقق باستقلال الجهاز القضائي فقط بل لا بد من استقلال القضاة انفسهم ونرى ان هذا الامر يتحقق: أ بالضمانات الممنوحة لهم. ب بالتأهيل والتثقيف الجيدين. وتأكيداً لما تقدم نرى ان استقلال القضاء هو تجسيد لمبدأ ديموقراطي مستقر ولا يعتبر انتقاصاً من السلطات الثلاث او انتهاكاً لها، والقضاء العادل هو الأساس السليم لتأكيد مبدأ سيادة القانون وحماية مبدأ الشرعية، فهل نرغب ان نعيش بأمان في مجتمع تسوده العدالة وتحترم فيه الحريات كتطبيق عملي وليس كشعار يتم ترديده لمناسبة أو من دون مناسبة؟ نحن مطالبون بالتأكيد على مبدأ الجمع بين النظرية والتطبيق في ما يتعلق بطريقة اختيار القضاة والتي تعتبر من عناصر ومقومات استقلال القضاء. ومما لا ريب فيه ان الاختيار العشوائي الخاضع للأهواء السياسية او المصلحية سيعصف باستقلال القضاء وسيأتي بقضاة ضعفاء غير قادرين على مواجهة التحديات المختلفة التي يتعرضون لها، ويجعلهم تابعين بطريقة مباشرة او غير مباشرة لرغبات السلطة التنفيذية وأجهزتها المختلفة. فلماذا اذن لا ندع القضاة ولأول مرة في التاريخ القضائي في عالمنا العربي يقومون بحق اختيار رئيس اعلى سلطة قضائية من طريق الانتخاب ليكون على قدم المساواة مع كل من رئيس السلطة التنفيذية ورئيس السلطة التشريعية؟ لماذا لا يتم تخصيص موازنة خاصة للجهاز القضائي لا تكون خاضعة في تقديرها لتدخلات وزير العدل او وزير المالية في هذه الدولة او تلك بل يكون المسؤول عنها هو المجلس القضائي الأعلى؟ لماذا لا تحترم الأحكام القضائية في بعض الدول العربية، بل لماذا لا تنفذ تلك الأحكام على رغم كونها نهائية وخاصة، اذا ما تعرضت تلك الأحكام للسلطة التنفيذية. وبناء عليه فإن استقلال القضاء لن يجد تطبيقاً حقيقياً له الا بتأكيد سلطة القضاء العادي والابتعاد عن القضاء الاستثنائي، مهما بلغت التبريرات المقدمة ومهما بلغت قساوة الظروف التي تعيشها الشعوب. فلا يعقل ان يبقى الاستثناء مطبقاً لعشرات السنين، كما ان كل المبررات المقدمة لا يمكن ان تكون مقنعة في حرمان الانسان من حقه المشروع في اللجوء الى قاضيه الطبيعي. ولتأكيد مبدأ استقلال القضاء فانه يجب ان تصاغ نصوص واضحة مصحوبة بآلية تنفيذ محددة تؤكد على قيام جميع اجهزة الدولة "من دون استثناء" وفي كل الظروف بتنفيذ احكام القضاء، وأن يكون القاضي محمياً من جميع اشكال الضغوط والتدخلات التي تمس بأداء وظيفته. وعلى رغم أهمية المواضيع التي ناقشها المؤتمر المذكور الا انه من المصادفات الحزينة ان ينعقد في الأسبوع الذي وقعت فيه الجريمة النكراء ضد العدالة في لبنان، وهذا يؤكد على ضرورة الحماية الدائمة للقضاة وتوفير الأمن والاستقرار لهم لكي يقوموا بعملهم على اكمل وجه، على رغم اننا لا ننظر الى هذه الحادثة الأليمة بسذاجة، ونحن على يقين بأن اجهزة الأمن اللبنانية قادرة على الكشف عن هؤلاء الذين قاموا باغتيال حراس العدالة والذين اصبحوا من ضحاياها مع انطلاقة أول رصاصات الحقد التي، وإن أسالت دماء بريئة، فانها ليست بقادرة على اسكات صوت الحق والعدل. ومما لا شك فيه ان المجتمعين يعرفون تمام المعرفة ويعلمون علم اليقين بأن النصوص التشريعية سواء وردت في الوثيقة الدستورية او في القوانين الاخرى لن تكون قادرة على ضمان استقلال القضاء وتجسيد مبدأ سيادة القانون، بل ان العدالة الحقيقية تنبع من التطبيق السليم لتلك النصوص التشريعية ومن الثقة التي يزرعها القضاة بعدلهم وحيادهم وقوة شخصيتهم في قلوب المواطنين. فالقوانين والتشريعات لا تستطيع ان تحمي الحقوق والحريات العامة في معزل عن رقابة قضائية للسلطات الاخرى تضمن عدم انحرافها وحسن تطبيقها، وكما قال اناتول فرانس: "اذا كان القانون ميتاً فان القاضي حي"، وذلك تعبيراً عن اهمية القاضي وأهمية الدور الذي يقوم به القضاء في المجتمع سواء تعلق الأمر بدول العالم المتقدم ام بدول العالم الثالث عشر!! ونختتم هذا المقال بحديث علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه حين قال: "لا يكون القاضي قاضياً حتى تكون فيه خمس خصال: عفيف، حليم، عالم بما كان قبله، يستشير ذوي الألباب، لا يخاف في الله لومة لائم". * عميد كلية الحقوق - جامعة القدس العربية.