سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
كتاب "مانديلا : السيرة المأذونة" للمؤلف البريطاني انتوني سامبسون . مانديلا الأكثر وحدة في الرئاسة لم يفقد أبداً كياسته وانضباطه وبساطته . كان مخلوق الخيال الجماعي وتعبيراً عن الهوية ورجل المصير المنقذ من الكارثة الأخيرة
في الفصل ال 34 من كتاب "مانديلا: السيرة المأذونة" وعنوانه "في الحكم" يصف المؤلف البريطاني انتوني سامبسون الأيام الأولى في رئاسة نلسون مانديلا لجنوب افريقيا، وكيف كسب ولاء الموظفين والبيروقراطيين البيض بكياسته ودفء شخصيته. ويروي كيف ظل مانديلا النجم القادر على أداء كل الأدوار: الزعيم القبلي الافريقي، والرئيس الغربي، والرجل الرياضي، والفيلسوف. وفي هذا الفصل ايضاً تفاصيل خلافه مع زوجته ويني وانفصاله عنها وتصميمه على الطلاق منها. عندما صار نلسون مانديلا رئيساً لجنوب افريقيا بعد أربع سنوات على خروجه من السجن، اعتبر العالم ذلك نهاية قصة سحرية تتطلب نهايتها ان يعيش بقية حياته سعيداً. لكن ذلك كان في واقع الأمر بداية قصة مختلفة تماماً حلّ فيها البيروقراطيون ونسب الغوائد محل الأبطال والأشرار، على خلفية كانت جديدة بالنسبة الى مانديلا. وكان قال لأعضاء مجلس العموم البريطاني: "ليست لنا خبرة في الانتخابات، أو التقاليد البرلمانية، وادارة الدولة". وقد أخذت فجائية السلطة معظم اعضاء المؤتمر الوطني الأفريقي على حين غرة، وقال مانديلا بعد أربع سنوات من حدوث ذلك: "لقد أخذنا من الأدغال، أو من تحت الأرض خارج البلاد، أو من السجون لنأتي ونتسلم زمام الأمور. لقد رمي بنا فجأة وسط مسؤولية ضخمة هي ادارة بلد متطور لدرجة عالية". لعبة الموازنة كان مانديلا مصمماً على أن يثبت أن بوسع الافريقيين ان يحكموا بفاعلية. وقال: "نعم، لقد حقق الافريقيون على رغم ما يفترض من كسلهم وعدم كفاءتهم ذلك الانجاز". وكره الايحاءات بأنه "لا ينتمي الى هذه الجماهير الافريقية ولا يشاطرها تطلعاتها". لكنه كان يعلم أيضاً أنه تسلم دولة صناعية أكثر تعقيداً بكثير من اي دولة أخرى في افريقيا، وان فترة ما من الزمن ستنقضي قبل ان يتمكن الجنوب الأفريقيون السود من الحكم من دون مساندة المديريين والتقنيين والمهنيين البيض. وكان شاهد دولاً افريقية أخرى مدمرة نتيجة هجرة البيض المفاجئة، خصوصاً موزامبيق التي نبّه رئيسها الأول سامورا ميشيل زملاءه الافريقيين الى ضرورة تجنب المصير ذاته. وكانت جنوب افريقيا أكثر اعتماداً بكثير على خبرات البيض. وواجه مانديلا منذ البداية لعبة الموازنة التي اقتضت تهدئة النخبة البيضاء من دون إثارة نفور جماهير السود. وسرعان ما تولى مانديلا الرئاسة كأنما ولد فيها ولها. وانتقل الى الفيللات والمكاتب الفخمة "حيث دبرت أبشع السياسات". ولم يتأكد له في بادىء الأمر كيف سيستقبله البيروقراطيون البيض. وهو يحب ان يتذكر كيف وصل الى مكتب الرئيس في بريتوريا متطلعاً الى رائحة القهوة التي كان تمتع بها عندما زار ديكليريك. لكنه لم يستطع أن يشم أي قهوة الآن، ولم يجد أي موظفين في المكان. في وقت متقدم من العصر استدعى أحد كبار موظفي الخدمة المدنية وطلب منه أن يجمع الموظفين صباح اليوم التالي. وصافحهم، مذكراً إياهم بأن حكومة جديدة تسلمت السلطة وان أحداً منهم لن يرمى في الشوارع. وسرعان ما أقام علاقات ممتازة مع الموظفين البيض الذين استبقاهم. في كيب تاون تسلم مانديلا مكتب الرئيس حيث كان الرئيس بي. دبليو. بوتا سكب له فنجان شاي عندما كان لا يزال سجيناً عام 1989. ولم يجر هناك سوى تغييرات طفيفة، إذ علق صورة بيت والدته وصورته كملاكم في الخمسينات. وانتقل ايضاً الى "غروت شور"، لكنه سمح لديكليرك بأن يبقى في المنزل الرئاسي الرسمي الذي يحمل الاسم نفسه. في بريتوريا سبب مانديلا مزيداً من الامتعاض عندما قرر تسلم "ليبرتاس"، المنزل الرسمي الذي كان ديلكيرك وزوجته يقيمان فيه، بينما استخدم المؤتمر الوطني الافريقي مقر الرئاسة للحفلات والمناسبات الرسمية. وكان ديكليرك متشوقاً إلى مراقبة الرجل العجوز الذي أمضى ثلاثة عقود في زنزانة صغيرة في السجن "وهو يؤخذ عبر الردهات ذات الاصداء في المنزل الواسع". واضطر ديكليرك نفسه إلى الانتقال الى منزل رسمي ثالث، "أوفيرفال" الذي اعتبره مبهجاً، لكن زوجته ماريك شعرت بالاستياء واعتبرت الأمر "جهداً محسوباً من مانديلا لإذلالنا". قوة جسمانية وحيوية أذهل مانديلا الموظفين والخدم بمصافحته إياهم والتحدث معهم جميعاً، بمن في ذلك الجنائنيون. ولاحظ ديكليرك "ان لديه قدرة استثنائية على جعل كل شخص يقابله يشعر بأن له مكانة خاصة". وصادق حراسه الأفريكانا الذين كان في الإمكان رؤية ولائهم على وجوههم القلقة وهم يراقبون تحركاته. أدهشت قوته الجسمانية وطاقة احتماله اطباءه. كان لا يزال يعاني من متاعب في عينيه اللتين لم تشفهما جراحة عام 1994، وقد منع المصورون من استخدام الاضواء لدى التقاط صور له. وشعر بمزيد من الألم في ركبته التي لم تشف منذ سقوطه وهو في جزيرة روبن، ولكن لم يكن بالإمكان اجراء عملية مأمونة العواقب. وعانى من الارهاق احياناً وأصر أطباؤه على الراحة التامة. لكنه كان يتعافى بسرعة، واتفق الأطباء على ان حيويته وطاقته وهو في السادسة والسبعين كانتا مثل حيوية وطاقة لرجل يصغره بعشرين عاماً. كان مانديلا في مكتبه يعطي احساساً بالمودة والسلطة، والقرب والبعد. وكان يحيي زواره بالنهوض عن مقعده ذي المسندين أو من وراء مكتبه وهو ينظر في عيونهم، ويتذكر من أين جاؤوا، ويستعيد معهم ذكرى اصدقاء مشتركين. كان أسلوبه دائماً بيتياً ومتواضعاً، كرجل ريفي ما زال يبتسم ابتسامة عريضة. لم يبد على مانديلا أبداً انه فقد كياسته أو انضباطه. وقال الصحافي الأميركي ريتشارد ستينفل الذي تعاون معه في كتابة سيرته الذاتية "الرجل والقناع متطابقان". كان الديبلوماسيون ينتظرون ان يسقط القناع، لكنه لم يسقط أبداً. وحيد جداً! وكانت سكرتيراته يعلمن انه يمكن أن يكون وراء كياسته مزاجياً ومكتئباً. وأمضى نحات صنع تماثيل لزعماء عالميين كثيرين ساعات في مراقبة تعبيرات وجهه. ورأى انه فريد في جاذبيته، ولكن من الصعب جداً نقل صورته، إذ كان وجهه يضيء مع كل زائر، لكنه هو نفسه يبدو فجأة منهكاً، وتتحول ابتسامته المرحبة عبوساً وتقطيباً. كان مانديلا كرئيس منقطعاً أكثر من أي وقت سابق عن أصدقائه القدامى، وكلما ازدادت شهرته، صار أكثر وحدة في عزلته. وقالت ابنته زندزي: "الأمر المحزن هو ان لا أحد يدرك أن أبي وحيد جداً". كان أكبر عمراً بكثير من معظم زملائه. ومات تامبو، وكان سيسولو خارج مجلس الوزراء. وقال احد زملائه: "كان من المؤلم رؤيته جالساً وحده الى المائدة الكبيرة في البيت"، وتذكر كيف قال له مانديلا ذات مرة: "ليس لي أصدقاء". ويضيف زميله: "انه يحترس من الصداقات العاطفية. وإذا أثرت معه مسألة مصطبغة بالعواطف فمن الممكن ان يبدو جامداً كالحجر وتعلم عندئذ أنك لن تحقق ما تريد. لقد طور صيرورة كاملة التسييس، وهذا ثمن لا أحب أنا أن أدفعه، لكنه أعطاه نزاهة مرموقة في حياته السياسية". ويني والطلاق كان مانديلا فُصِل عن عائلته لأكثر من ربع قرن، وصار من الأصعب وصولهم إليه كرئيس. وكان شديد الوعي بهذه الخسارة، لكنه لم يستطع عمل أي شيء إزاءها. ولم تلعب ويني أي دور في حياته الاجتماعية منذ انفصالهما. وقالت ابنتهما زندزي: "كان الأمر كما لو انهما لم يوجدا كل منهما للآخر". لكنها مع ذلك سببت مشكلات سياسية. فبعد قيامها بحملة انتخابية نشطة ونجاحها كمرشحة عن المؤتمر الوطني الافريقي في الانتخابات صارت عضواً بارزاً في البرلمان. وعينها مانديلا، بقرار غير حكيم، وكيلة لوزارة الفنون، لكنها سرعان ما تورطت في فضائح مالية: صفقات ماس مشبوهة، ومشروع سياحي مريب للأميركيين السود، وبرنامج لمكافحة الفقر سمح لها بنفقات ضخمة. ولم يتخذ مانديلا أي خطوة الى أن صارت عديمة الولاء علناً، اذ اتهمت المؤتمر بالانشغال باسترضاء البيض وتحدتهم ان يظهروا أنهم يتولون السلطة. عندما أصر مانديلا على ويني أن تعتذر، وقعت على اعتذار رسمي لكنها قالت انها فعلت ذلك مكرهة وان المؤتمر الوطني يحد من حرية التعبير. وفي آذار مارس 1995، وبصورة مخالفة لتعليمات مانديلا، دهم فريق من دائرة مكافحة الاحتيال منزلها في سويتو، مدعوماً بشرطة مسلحة وأخذوا وثائق من المنزل. وسرعان ما هاجمت الحكومة لتجاهلها الفقراء، وقالت لحشد من الافريقيين: "ان كفاحكم يبدو الآن أصعب بكثير من ذي قبل". وقد طردها مانديلا في نهاية الأمر من منصبها الحكومي. كانت تلك نهاية الزواج. كانا انفصلا قبل ثلاث سنوات من ذلك، وفي آب اغسطس 1995 بدأ باتخاذ خطوات للطلاق أملاً بتسوية ودية لتجنب المشاحنات العائلية. لكن ويني لامت أعداءها، بمن في ذلك رامافوزا، على خلق الصدع، وأصرت على ان بامكانهما ان يتصالحا وفقاً للعادات القبلية: بل طلبت من ابن شقيقة مانديلا، ك. د. ماتانزيما الذي كان لا يزال الزعيم القبلي الأكبر لمنطقة تمبولاند الغربية، ان يتوسط بينهما. في آذار مارس 1996 مثل مانديلا في محكمة راند العليا، وكان على بعد بضعة اقدام فقط من زوجته، ليطلب الطلاق: وكان ذلك عرضاً فريداً لحياته الخاصة المؤلمة. وشرح انه أخر الطلب لأنه لم يرغب في أن تكون له علاقة بقضية فشل ستومبي سيبي. ورفض أي وساطة من ماتانزيما الذي كان في وقت من الأوقات عشيق ويني. وقال للقاضي: "ايمكنني أن اعبر عن الأمر ببساطة، يا حضرة القاضي؟ لو حاول الكون برمته اقناعي بالتصالح مع المدعى عليها، لن أفعل ذلك. وآخر من يمكن أن أقبل وساطته هو ماتانزيما… انني مصمم على التخلص من هذا الزواج". ووصف بحزن بؤسه عندما رفضت ويني مشاطرته غرفة نومه بينما كان مستيقظاً: "كنت أكثر الرجال وحدة…". وصفت ويني، عن طريق محاميها، معاناتها في الماضي. وقبل مانديلا بذلك، لكنه أصر على ان أخريات، مثل البرتينا سيسولو، قد عانين أكثر، وطلب من المحامي ألا يرغمه على كشف "أسباب اكثر خطورة لمغادرتي البيت". وانتظر بوجوم الى ان عاد القاضي الى قاعة المحكمة ومنحه الطلاق، منهياً زواجاً بدا في وقت من الأوقات حاسم الأهمية لمعنوياته السياسية. صحبة الأغنياء أثار مانديلا قلق اليسار بتمتعه بصحبة الأغنياء جداً. وسعد هاري أوبنهايمر رئيس شركة "انغلو أميركان" الذي يعد تجسيداً للرأسمالية باستضافته في قصره برنتهيرست القريب من منزل الرئيس في هوتون. وصار مانديلا قريباً جداً من كلايف مينيل، نائب رئيس شركة التعدين المنافسة "انغلو - فال" الذي كان راعياً لحركة الدراما في اوساط السود. وأمضى أول عيد ميلاد كرئيس في قصر مينيل في كيب، وعندما كان هذا في اواخر ايام حياته بسبب السرطان عام 1996، جلس مانديلا بجانبه ممسكاً بيده، وفي الصلاة التذكارية بعد وفاته قرأ إشادة بكرم رجل "ولد في غنى من نوع لا يمكن الا لقلة من الناس أن يعرفوه أبداً". لكنه حافظ على نظامه المتقشف. اذ عندما دخل مينيل غرفة نومه في وقت مبكر صباح أحد الأيام، وجد ان الرئيس رتب سريره وكان يطوي بيجامته. لم يكن مانديلا دائماً شديد التدقيق في صداقاته. فبعد انفصاله عن ويني أقام فترة في قصر دوو ستاين، وهو رجل عصامي فج أثرى من العمل في مجال التأمين. ومول شهر عسل ابنته زندزي جزئياً مالك الكازينو سوي كيرزر الذي اتهم إثر ذلك بالرشوة. لكن مانديلا ابقى نفسه بعيداً عن قيم الاغنياء. وعندما كان مقيماً في منطقة فخمة في جزر البهاما محاطاً بأجانب، القى كلمة في تلامذة مدرسة قريبة للسود أثار تشددها حفيظة الجيران البيض. وبدا أحياناً أنه يعتبر رجال الأعمال الناجحين زعماء قبليين زملاء. المكان العظيم للطفولة كان جزء منه لا يزال زعيماً قبلياً. وكان يشعر بأنه في بيته أكثر من أي مكان آخر في منزله في كونو بمقاطعة ترانسكاي. وكان يقول: "هذا فعلاً بيتي حيث توجد جذوري. يصير من المهم أكثر، وانت تتقدم في العمر، ان تعود الى الاماكن التي لك فيها ذكريات رائعة". في كونو كان يمشي احياناً لخمس ساعات في الصباح، مستعيداً ذكريات طفولته حول "المكان العظيم" في مكيكزويني، متلقياً تحيات الأطفال في طريقه. وقد تألم لرؤيته فقرهم وملابسهم الرثة ونحولة أجسامهم، لكنه تشجع بمرحهم. وكان يسره في بيته ان يقدم ضيافة مفتوحة إلى العائلات المجاورة. وقد رأس ذات مرة احتفالاً استمر يومين لستمئة ضيف أعد فيه الطعام صديقه بانتو هولوميسا. وذبح في المناسبة ستة عشر خروفاًَ وثوراً. أحب مانديلا في المنطقة التي ينتمي اليها الانشغال بالسياسة القبلية، وحل النزاعات على الدجاج أو الأبقار. وأبدى اهتماماً وثيقاً ببناء الطرق، مدافعاً عن حقوق النساء المشتغلات في بنائها، مصراً على تحويل طريق نحو المنزل السابق للزعيم القبلي الأعلى، ساباتا. بقي مانديلا في هذه العوالم المختلفة النجم اللامع الذي يستطيع أداء كل الأدوار: الزعيم القبلي الافريقي، الرئيس الغربي، الرجل الرياضي، والفيلسوف. وظل يحب تبديل الثياب كما كان يفعل في الخمسينات، وتحول الآن دراماتيكياً من لبس بدلة داكنة الى ارتداء قميص فضفاض مزين برسوم الورود، أو قميص لاعبي الراكبي وقبعة لاعبي البيزبول. وكان بالإمكان ان يتحول بسرعة من رئيس الدولة الجاد الى الرجل المحبوب شعبياً. بدا مانديلا قادراً على التكيف مع أي جمهور. وكان يقرأ بطريقة رسمية معظم خطاباته التي يكتبها فريق متعدد الأعراق يقوده جويل نيتشينزهي، ناظراً عبر نظارته من دون ان يحاول النظر الى عيون مستمعيه. لكنه كثيراً ما كان ينزع نظارته في نهاية خطابه ويقول: "هذا ما قاله رؤسائي". وكان الصحافيون يرفعون رؤوسهم وينظرون اليه، وكان مساعدوه يعبسون، وكان هو يطلع بأفكار بيتية أو يروي ذكريات. شهر عسل مع البيض تمتع مانديلا في الأشهر الأولى من رئاسته بشهر عسل رائع خصوصاً مع الجنوب الافريقيين البيض الذين جاء هذا العجوز المتسامح بالنسبة اليهم مصدراً سحرياً للارتياح. لم يكن متعجلاً لتغيير أسماء الشوارع والضواحي والمطارات التي تخلد أسماء ابطال من الافريكانا... وولد جواً من الاعتيادية والاستقرار بدّد كل كوابيس البيض السابقة عن ثورة سوداء. وفي نهاية الأيام المئة الأولى من رئاسته، لم تجد صحيفة "فايننشال تايمز" أي بيض يقولون عنه أية كلمة سيئة. لكن جو الأحوال العادية هذا حمل مخاطر في ثناياه بالنظر الى ان المتشددين السود اعتبروا ان الثورة طعنت. وكان زعماء المؤتمر الوطني الافريقي الأصغر عمراً، بمن فيهم تابو امبيكي، يعلمون انه سيتعين عليهم قريباً أن يجروا إصلاحات من شأنها ان تسيء الى البيض. وأعادوا الى الأذهان كيف كان روبرت موغابي في شهر عسل مماثل بعد تولي السلطة في زيمبابوي عام 1980، ولكن سرعان ما أثار عداء البيض عندما بدأ يجري تغييرات كبيرة بعد خمسة عشر عاماً على ذلك. كان معظم البيض متمنعاًعن انتقاده. ومهما كثرت شكواهم من حكومة السود، فقد كانوا يستثنون مانديلا ويلومون مرؤوسيه. وبدا مثل رونالد ريغان الرجل ال "تيفلون" الذي لا يمكن الصاق أي تهمة به، أو مثل ملك تقليدي يمكن القاء اللوم في اخطائه على رجال بلاطه. كان مانديلا يبدو في كلامه أحياناً كملك فيلسوف، كأنما لم يغادر جزء منه السجن وكان ينظر الى بلاده من زنزانته الانفرادية. وقال زميله كاثرادا: "يمكنهم ان يخرجونا من جزيرة روبن، لكنهم لا يستطيعون اخراج جزيرة روبن منّا". وكان يحب ان يتحدث عن مبادئه الأولى، عن المصالحة والكرامة الإنسانية والمحبة. ووجده سكرتيروه أحياناً ساذجاً الى حد كبير في الشؤون العالمية. إذ كان يميل الى النظر الى الديبلوماسية كاتصال مع الافراد، من كلينتون الى ملكة بريطانيا، كما لو كان لا يزال في القرن التاسع عشر. لكن نظرته البسيطة كانت توفر له فهماً ثاقباً. وقال احد زملائه في مجلس الوزراء: "انه، كالرجال العظماء الآخرين، لا يخشى البساطة: انه مستعد لأن يكون بسيطاً من غير تظاهر، لكي يرى ما وراء المستقبل المباشر". وكتب ديفيد بيريزفورد، من صحيفة "ذي غارديان" اللندنية ان عظمة مانديلا لا تكمن في مهاراته السياسية او العسكرية، وانما في الاقتران البسيط ببلاده: "انه مخلوق الخيال الجماعي، وتعبير عن الهوية الوطنية المرغوب فيها رغبة عميقة في بلد مقسم تقسيماً مريراً". لقد برز في نظر كل من البيض والسود بصفته رجل المصير لينقذ شعبه من كارثة: "تحين الساعة، ويأتي الرجل". الكتاب: مانديلا: السيرة المأذونة. المؤلف: انتوني سامبسون. الناشر: هاربركولينز، لندن. ثمن النسخة: 24 جنيهاً و99 بنساً.