الفرصة لاتزال مهيأة لهطول الأمطار على جازان وعسير والباحة ومكة    ليس الدماغ فقط.. حتى البنكرياس يتذكر !    البثور.. قد تكون قاتلة    قتل أسرة وحرق منزلها    أمريكا.. اكتشاف حالات جديدة مصابة بعدوى الإشريكية القولونية    مندوب فلسطين لدى الأمم المتحدة يرحب باعتماد الجمعية العامة قرار سيادة الفلسطينيين على مواردهم الطبيعية    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على انخفاض    هيئتا "السوق المالية" و"العقار " توقعان مذكرة تفاهم لتنظيم المساهمات العقارية    الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي يدعو الدول الأعضاء إلى نشر مفهوم الحلال الأخضر    وزير الحرس الوطني يستقبل وزير الدفاع البريطاني    أمين الأمم المتحدة يؤكد في (كوب 29) أهمية الوصول إلى صافي انبعاثات صفرية    إصابات بالاختناق خلال اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي بلدة الخضر جنوب بيت لحم    «خدعة» العملاء!    جرائم بلا دماء !    الخرائط الذهنية    الرياض تستضيف النسخة الرابعة لمنتدى مبادرة السعودية الخضراء    «قمة الرياض».. إرادة عربية إسلامية لتغيير المشهد الدولي    الحكم سلب فرحتنا    عبدالله بن بندر يبحث الاهتمامات المشتركة مع وزير الدفاع البريطاني    احتفال أسرتي الصباح والحجاب بزواج خالد    الشؤون الإسلامية في منطقة جازان تقيم مبادرة توعوية تثقيفية لبيان خطر الفساد وأهمية حماية النزاهة    مدارسنا بين سندان التمكين ومطرقة التميز    6 ساعات من المنافسات على حلبة كورنيش جدة    في أي مرتبة أنتم؟    الشؤون الإسلامية بجازان تواصل تنظيم دروسها العلمية بثلاث مُحافظات بالمنطقة    باندورا وعلبة الأمل    عاد هيرفي رينارد    لماذا فاز ترمب؟    علاقات حسن الجوار    الصين تتغلب على البحرين بهدف في الوقت القاتل    فريق الرؤية الواعية يحتفي باليوم العالمي للسكري بمبادرة توعوية لتعزيز الوعي الصحي    هاتفياً.. ولي العهد ورئيس فرنسا يستعرضان تطورات الأوضاع الإقليمية وجهود تحقيق الأمن    القبض على (7) مخالفين في جازان لتهريبهم (126) كيلوجرامًا من نبات القات المخدر    خالد بن سلمان يستقبل وزير الدفاع البريطاني    أمير تبوك يطمئن على صحة مدني العلي    مركز صحي الحرجة يُنظّم فعالية "اليوم العالمي للسكري"    إجتماع مجلس إدارة اللجنة الأولمبية والبارالمبية السعودية    «الداخلية» تعلن عن كشف وضبط شبكة إجرامية لتهريب المخدرات إلى المملكة    أمير المدينة يلتقي الأهالي ويتفقد حرس الحدود ويدشن مشروعات طبية بينبع    انطلاق المؤتمر الوزاري العالمي الرابع حول مقاومة مضادات الميكروبات "الوباء الصامت".. في جدة    الأمير عبدالعزيز بن سعود يرأس اجتماع الدورة الخمسين للمجلس الأعلى لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    انعقاد المؤتمر الصحفي للجمعية العمومية للاتحاد الدولي للخماسي الحديث    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    198 موقعاً أثرياً جديداً في السجل الوطني للآثار    أفراح النوب والجش    استعادة التنوع الأحيائي    تعزيز المهنية بما يتماشى مع أهداف رؤية المملكة 2030.. وزير البلديات يكرم المطورين العقاريين المتميزين    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 إلى لبنان    الخليج يتغلّب على كاظمة الكويتي في ثاني مواجهات البطولة الآسيوية    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    فيلم «ما وراء الإعجاب».. بين حوار الثقافة الشرقية والغربية    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    مقياس سميث للحسد    أهميّة التعقّل    د. الزير: 77 % من النساء يطلبن تفسير أضغاث الأحلام    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتاب "مانديلا : السيرة المأذونة" للمؤلف البريطاني انتوني سامبسون . التاريخ الشفوي لشعب اكسوسا عزز اعجاب مانديلا بتقاليد أفريقيا وديموقراطية القبيلة 1 من 4
نشر في الحياة يوم 15 - 06 - 1999

شكَّلت الانطباعات التي رسخت في ذهن نلسون مانديلا في سنواته الباكرة في الريف حيث عاش وتعلم في بلاط ملكي افريقي والقيم التي تربى عليها، وفي مقدمها التكاتف الاجتماعي ضمن العائلة الكبيرة والقبيلة، قناعاته السياسية في صباه وشيخوخته. وقد تأثر اكثر ما تأثر بديموقراطية المجلس القبلي والتاريخ الشفوي لشعبه، اكسوسا، وقصص ابطاله قبل انقضاض الرجل الابيض على بلاده. وفي ما يأتي مقتطفات من الفصل الاول من كتاب "مانديلا: السيرة المأذونة":
في الفصل الأول من الكتاب، وعنوانه "الولد الريفي" 1918-1934 يروي المؤلف أن نلسون مانديلا الذي ولد ونشأ في مقاطعة ترانسكاي التي تبعد ستة آلاف ميل عن جوهانسبيرغ تخيّل، وهو في سنة سجنه الأخيرة، البيت الذي سيبتنيه لقضاء اجازاته وسنوات تقاعده. يقول: "إنه منزل واسع من طابق واحد مبني من اللبن الأحمر وله أقواس اسبانية الطراز على جانب الطريق الرئيسي ن2 الممتد من ديربان إلى كيب تاون، على بعد بضعة أميال من أومتاتا، كبرى مدن ترانسكاي. يقف البيت في نهاية صف من أشجار الأرز، محاطاً بسور وحديقة وأزقة تفصله عن الريف المفتوح. لقد تصور مانديلا البيت خلال سنته الأخيرة في السجن، واقتبس مخططه الأرضي عن منزل كبير حراس السجن الذي كان يعيش فيه مانديلا داخل مجمع السجن". وقد اختار الموقع، المطل على قضاء كونو الذي ينتمي إليه، اعتقاداً منه بأن "المرء يجب أن يموت قرب مكان ولادته".
ولد روليهلاهلا مانديلا في قرية مفيزوا في 18 تموز يوليو 1918 فيما كانت الحرب العالمية الأولى تقترب من نهايتها، وبينما كانت الثورة البلشفية في روسيا في مرحلة ترسيخ حكمها. وفي ذلك العام ارسل المؤتمر الوطني الافريقي الذي كان قد أسس حديثاً وفداً إلى لندن ليطلب للسود الجنوب افريقيين حقوقهم. وكانت مستعمرة كيب البريطانية، التي اشتملت على "معزل" ترانسكاي قد ضمت إلى اتحاد جنوب افريقيا عام 1910، وبعد ثلاث سنوات من ذلك، جرد قانون أراضي سكان البلاد الأصليين مئات آلاف المزارعين السود من أراضيهم فانتقل كثيرون منهم إلى ترانسكاي، المنطقة الوحيدة الواسعة التي كان في وسع الافريقيين أن يملكوا أراضي فيها. وقد انجبت منطقة ترانسكاي زعماء سوداً أكثر من أي منطقة أخرى في جنوب افريقيا، وكان هذا هو التاريخ الذي نشأوا عليه.
عانى والد روليهلاهلا، هندري مانديلا، حرمانه من أراضيه، فبعد سنة على ولادة ابنه، استدعى القاضي الأبيض المحلي هندري ليرد على شكوى رجل قبلي بشأن ثور. ورفض هندري المجيء وسرعان ما اتهم بالعصيان ونحي عن منصبه زعيماً قبلياً وفقد معظم مواشيه وأرضه ودخله.
كان هندري مانديلا أباً صارماً ذا عناد يساور ابنه شعور بأنه قد ورثه. كان أمياً أرواحياً ومتعدد الزوجات، لكنه كان طويلاً مهيباً، داكن البشرة أكثر من ابنه، وليس لديه احساس بالنقص تجاه البيض. وكانت والدة روليهلاهلا الثالثة من الزوجات الأربع. وكان لكل من الزوجات بيتها وحديقتها وكان هندري ينتقل بين بيوت زوجاته اللائي يبدو انهن كن على علاقة طيبة بعضهن مع بعض. وكان هندري يحترم العادات القبلية.
تتذكر شقيقتا مانديلا، ميبل وليبي، بسرور بساطة الحياة الريفية اثناء طفولتهن في كونو: لم تكن هناك أسرة أو طاولات، وإنما حصائر فقط. كانت السقوف مصنوعة من العشب المربوط بحبال. وكان معظم غذائهم من الذرة. كان الأولاد يمضون النهار في رعي المواشي، وكانت بنات العائلة ونساؤها يحضرن الطعام معاً في أحد البيوت، ويطحن الذرة بمطحنة حجرية. وكان أفراد العائلة جميعهم يتناولون وجبتهم الرئيسة معاً في المساء، جالسين على الأرض، ويأكلون من صحن واحد.
كان والد مانديلا قد انجب ثلاثة أبناء من زوجات اخريات، لكنهم كانوا افترقوا عن العائلة. وعندما كان صبياً، تمتع بحرية أكثر من اخواته. كان قريباً جداً من أمه، لكنه كثيراً ما كان يبقى مع واحدة أخرى من زوجات ابيه، وكان يشعر بنفس الامان والحب الذي يشعر به وهو مع أمه نوسيكيني فاني. وطوال حياته ظل يشعر بأكبر ارتياح مع النساء، خصوصاً النساء القويات اللائي يستطعن توفير صداقات مجزية، وقد يكون هذا مرتبطاً بتجربة طفولته. ترعرع ضمن عائلته الواسعة بين أبناء وبنات عمومته وزوجات ابيه واخوته واخواته غير الأشقاء لغة ال"بانتو" ليس فيها كلمات تعني اخوات غير شقيقات أو زوجات اب، ولذلك كان يسمي جميع زوجات ابيه "امهاتي". وقد روى: "كانت لي أمهات حانيات جداً واعتبرنني ابناً لهن. ليس كابن زوج أو نصف ابن، كما قد تقولون في الثقافة المنتشرة بين البيض. كن أمهات بالمعنى السليم للكلمة". لقد جعلت تجربته السعيدة كابن تحبه أربع أمهات طفولته آمنة جداً، وهو أحياناً يتحدث بحنين عن تعدد الزوجات في ذلك الزمن على رغم انه يرفضه بحزم في الأحوال السائدة اليوم: "لا يمكن ايجاد أي عذر لذلك. إنه يظهر احتقاراً للنساء وانه لشيء أحض على تجنبه كلياً".
كثيراً ما يعود مانديلا في رسائله ومذكراته إلى حياته كصبي ريفي. وقد كتب من زنزانته في السجن وصفاً نابضاً بالحيوية عن التلال والجداول، وعن متع السباحة في البرك، وشرب الحليب مباشرة من ضروع الأبقار أو أكل عرانيس الذرة المشوية. ويصر مانديلا على وصف نفسه بأنه صبي ريفي، وقد لعب احساسه بالامان وبساطة تربيته الريفية دوراً حاسم الأهمية في تشكيل ثقته بنفسه سياساً.
كان مسلحاً أيضاً بمعرفته لأجداده. وكان ابوه حفيد نغوبنغكا، الملك العظيم لشعب تمبو الذي توفي عام 1832 قبل فرض البريطانيين سلطتهم في نهاية الأمر على أرض تمبو تمبولاند، وهي الجزء الجنوبي من ترانسكاي. ومهما تبدو عائلة تمبو الملكية فقيرة أو ضعيفة في نظر البيض، فإنها احتفظت بأبهة خاصة في ترانسكاي، وتمتعت بولاء شعبها واحترامه. وكان مانديلا من صغار أبناء تلك العائلة المالكة، وقد شدد دائماً على أنه لم يكن أبداً في صف الخلافة على العرش. كان مجرد واحد من عشرات المتحدرين من نسل الملك نغوبنغكا، وقد تحدر من أحد البطون الفرعية. لكن أباه هندري كان صديقاً موثوقاً وكاتم أسرار للملك دالينديبو الذي ورث عرش تمبو، وبعدئذ لابنه الملك جونغيليزوي. وكان هندري في الواقع بمثابة رئيس للوزراء، وكان الصبي مانديلا يعامل باحترام في مجتمعه.
عندما بدأ مانديلا الشاب يسافر خارج منطقته المحلية، رأى أن بلدات ومدن شرق الكيب - بورت شيبستون، وبلدة الملك وليام، وبورت اليزابيث، وأليس - مسماة كلها باسماء أبطال بريطانيين، لا أبطال من قبائل أكسوسا، وان الرجال البيض هم الحكام الحقيقيون.
كثير من الأطفال من جيل مانديلا الذين تعلموا في مدارس ارساليات تبشيرية سموا باسماء أبطال وبطلات من التاريخ البريطاني الامبراطوري مثل ولينغتون أو كتشينر أو أدليد أو فكتوريا، وعندما كان مانديلا في السابعة من عمره حاز على اسم أول ليسبق اسمه روليهلاهلا. "من الآن فصاعداً ستكون نلسون"، قال له مدرسه. وكانت أمه تنطقه "نيليسيلي"، بينما صار آخرون يسمونه في ما بعد "داليبونغا"، وهو الأسم الذي اطلق عليه وقت ختانه. وقد سماه اصدقاؤه في المدينة بعدئذ "نلسون" أو "نِلْ"، إلى أن عبر عن تفضيله لاسم عشيرته "ماديبا" الذي تبنته الأمة كلها.
في العام 1927 صار مانديلا، الذي كان آنذاك في التاسعة، أكثر قرباً إلى العائلة المالكة. كان والده يعاني من داء في الرئتين ويقيم في منزل والدة مانديلا. وكان صديقه جونغنتابا، الوصي على عرش شعب تمبو، قد جاء لزيارته، وسمعت ميبل، اخت مانديلا، اباها هندري يقول له: "سيدي، انني اترك يتيمي لك لتعلمه. استطيع ان أرى أنه يتقدم ويتطلع إلى الأعلى. علمه وسيحترمك". ورد الوصي: "سآخذ روليهلاهلا واعلمه". وقد توفي هندري بعد مدة قصيرة. ونقل جثمانه على زلاجة إلى منزل زوجته الأولى، وذبحت بقرة، ودفن في المقبرة المحلية.
أخذت أم مانديلا ابنها في رحلة طويلة على الأقدام من كونوا إلى "المكان العظيم"، امكيكيزويني. ومن ذلك المكان كان الوصي يقود شعبه نائباً للملك بالنظر إلى أن ولي العهد، ساباتا، كان لا يزال طفلاً لا يمكنه ان يحكم. وكان جونغنتابا، الذي كان أيضاً زعيم عشيرة ماديبا، مديناً لوالد مانديلا لأنه أوصى بتعيينه وصياً على العرش، وهو الأمر الذي قد يفسر سبب موافقته بيسر على تبني مانديلا كما لو كان ابنه. لكن تقليد العائلة الكبيرة كان أقوى بكثير في المناطق الريفية منه في المدن، وهو ما بقي مانديلا ممتناً له. وقد كتب عن ذلك التقليد من سجنه يقول: "إنه يرعى كل أولئك المتحدرين من جد واحد ويضمهم معاً كعائلة واحدة".
قد يبدو المكان العظيم في نظر الزائر الغربي اليوم صغيراً ونائياً، لكنه بالنسبة إلى مانديلا الصغير عام 1927 كان مركز العالم وكانت امكيكيزويني حاضرة مقارنة بأكواخ كونو. وقد أمضى مانديلا فيها أكثر السنوات تشكيلاً لشخصيته واكتسب انطباعاته عن الحكم الملكي التي أثرت في حياته كلها.
لقي مانديلا ترحيباً على الفور من جونغنتانا وزوجته نو انغلاند. وشاطر مانديلا ابنهما جستس غرفة صغيرة بيضاء الطلاء تضم سريرين وطاولة وسراجاً. وقد عومل كفرد من العائلة إلى جانب نومانو ابنة جونغنتابا، ثم انسيكسو، الأخ الأكبر لساباتا، ولي عهد المملكة. وقد اعتبر نفسه عضواً في عائلة ملكية ذات اسلوب حياة أفخم بكثير مما كان في كونو، لكنه لم ينتم إليها كلياً، الأمر الذي يمكن أن يكون قد حفز طموحه.
صار الوصي، جونغنتابا، الذي عرف خلاف ذلك باسم ديفيد داليندينو، بمثابة شخصية الأب الجديد لمانديلا. كان رجلاً وسيماً، انيق الملبس دائماً. وكان مانديلا يكوي بنطلونه بمحبة، مما أوحى له باحترام الملابس طيلة حياته. وكان جونغنتابا مسيحياً منهجياً متديناً... وصار ابنه جستس، الأكبر بأربع سنوات من مانديلا، المثال الذي اقتداه مانديلا لعقد من الزمن بعد ذلك، وكان مثالاً للشجاعة الدنيوية والاناقة وقدوة كرياضي وشاب محب للنساء. كان جستس متعدد القدرات، مبرزاً في الألعاب الرياضية الجماعية مثل الكريكيت وكرة القدم والركبي. أما مانديلا الذي كان أقل تناسقاً، فقد ترك اثره في رياضات أكثر خشونة وفردية كالملاكمة وعدو المسافات الطويلة.
لكن مانديلا كان أكثر جداً واجتهاداً من الأولاد الآخرين، وقد برز في المدرسة التبشيرية المحلية حيث بدأ تعلم الانكليزية من كتاب تشيمبرز للقراءة، ويكتب على لوح وينطق الكلمات بعناية في صورة رسمية متأنية وباللكنة المحلية التي لم تفارقه.
تمثل جزء مهم من تعليم مانديلا في مراقبة الوصي. وكان مفتوناً بممارسة جونغنتابا صلاحياته الملكية في الاجتماعات القبلية المنتظمة التي كان الناس من قبيلة تمبو يقطعون عشرات الأميال مشياً أو على ظهور الخيل لحضورها. وكان مانديلا يحب مشاهدة رجال القبائل، سواء كانوا عمالاً أو ملاكي أراضٍ، وهم يشكون بصراحة وفي أحيان كثيرة بحدة إلى الوصي الذي كان يستمع إليهم لساعات ساكناً صامتاً، إلى أن يحاول في النهاية، عند مغيب الشمس، انتاج أرضية مشتركة من وجهات النظر المتباينة. في وقت كتب مانديلا من السجن متأملاً "من صفات أي زعيم عظيم القدرة على ابقاء وحدة كل قطاعات شعبه: التقليديين والاصلاحيين، والمحافظين والليبراليين. وفي المسائل الكبرى توجد أحياناً خلافات حادة في الرأي. كان بلاط امكيكزويني قوياً بصورة خاصة، وكان الوصي قادراً على كسب دعم المجتمع برمته لأن البلاط كان ممثلاً لكل أطياف الرأي".
عندما صادر مانديلا رئيساً، أخد يسعى إلى ذلك النوع نفسه من التفاهم في مجلس وزرائه، وكان دائماً يتذكر نصيحة جونغنتابا ان القائد يجب ان يكون كالراعي، يوجه قطيعه من الخلف بإقناع ماهر. وكان يقول: "إذا ضل حيوان أو اثنان، عليك أن تذهب وتعيدهما إلى القطيع. هذا درس مهم في السياسة".
ربي مانديلا على فكرة الاخاء الإنساني الافريقية، "ابونتو"، التي وصفت خصلة مسؤولية ورأفة متبادلتين. وكان كثيراً ما يقتبس المثل القائل "اومنتو نغومنتو نغابانتو"، الذي كان يترجمه ب"الشخص شخص بسبب الناس الاخرين"، أو "لا يمكنك أن تفعل أي شيء إذا لم تحصل على دعم الناس الآخرين". كان هذا مفهوماً عاماً لدى مجتمعات ريفية أخرى في كل أنحاء العالم، لكن الافريقيين اعطوه تعريفاً أكثر وضوحاً كأمر مغاير لفردية البيض، ولاح هذا المفهوم، "ابونتو" على مر العقود التالية كبيراً في الحياة السياسية للسود. وقد عرّفه رئيس الاساقفة ديزموند توتو عام 1986 بقوله: "إنه يشير إلى اللطف، والرأفة، والكرم، والانفتاح على الآخرين، والانكشاف للضعف، وإتاحة النفس للآخرين، ومعرفة انك مشدود إليهم في حزمة الحياة".
اعتبر مانديلا "بونتو" جزءاً من فلسفة عامة تقوم على خدمة المرء أخاه الانسان. وقد تذكر ان الناس كانوا ينظرون إليه منذ سنوات مراهقته على أنه مستعد فوق المعتاد لرؤية أفضل ما في الآخرين. وكان هذا بالنسبة إليه إرثاً طبيعياً: "الناس من أمثالنا الذين نشأوا في جو ريفي يعتادون على التفاعل مع الناس في سن مبكرة". لكنه أقر بأن "الأمر قد يكون مزيجاً من الغريزة والتخطيط المتعمد". وعلى أية حال، فقد صار ذلك مبدأ سائداً طوال حياته السياسية "الناس كائنات آدمية، ينتجها المجتمع الذي تعيش فيه. إنك تشجع الناس برؤيتك الخير فيهم".
تعزز اعجاب مانديلا بالتقاليد القبلية والديموقراطية بتاريخ شعب اكسوسا الذي كان يستمع إليه من الزعماء والمخاتير الكبار. كان كثيرون منهم اميين، لكنهم كانوا مهرة في الرواية الشفوية للتقاليد ووصف ملاحم المعارك القديمة كالشعراء الهومريين. وقد وصف أمهر رواة القصص، الزعيم القبلي جويي، المتحدر مثل مانديلا من الملك العظيم نغوبنغكا، كيف دُمر سلام شعب اكسوسا ووحدته بمجيء الرجال البيض الذين قسموا ذلك الشعب وقوضوا تكاتفه. وكثيراً ما أعاد مانديلا النظر إلى تلك الصورة المثالية للمجتمع القبلي الافريقي. وقد وصفها في خطاب طويل عام 1962، قبل وقت قصير من بدء تنفيذه الحكم عليه بالسجن: "آنذاك عاش شعبنا في سلام تحت الحكم الديموقراطي للملوك وممثليهم، وكانوا يتنقلون بحرية وثقة في طول البلاد وعرضها من دون عقبات أو إعاقة. كانت البلاد آنذاك بلادنا، باسمنا وحقنا. شغلنا الأرض، والغابات، والأنهار، واستخرجنا الثروة المعدنية تحت التراب، وكل خيرات هذه البلاد الجميلة. وقد اقمنا حكومتنا وأدرناها، وتحكمنا في جيوشنا الخاصة بنا ونظمنا تجارتنا الداخلية والخارجية".
كان ذلك في نظره عصراً ذهبياً من دون طبقات، أو استغلال أو عدم مساواة، وكان المجلس القبلي فيه مثالاً للديموقراطية: "كان مجلساً ديموقراطياً تماماً إلى حد أنه كان في وسع كل اعضاء القبيلة أن يشاركوا في مداولاته. الزعيم والفرد العادي، المحارب ورجل الطب شاركوا جميعهم وحاولوا التأثير في القرارات. كان مجلساً ذا وزن ونفوذ إلى درجة انه ما كان يمكن أبداً ان تتخذ القبيلة خطوة مهمة من دون الرجوع إليه".
بقي مانديلا، برغم كل تعليمه الغربي، معجباً دائماً بالمؤرخين الشفويين وظل يستمد الالهام من القصص المحكاة عن شعب اكسوسا التي سمعها ممن كانوا يكبرونه عمراً: "كنت اعلم ان مجتمعنا انجب أبطالاً سوداً وقد ملأني ذلك بالفخر: لم أدر كيف أوجهه، لكنني حملت معي هذه المادة الخام عندما ذهبت إلى الجامعة".
غداً حلقة ثانية
الكتاب: مانديلا: السيرة المأذونة
المؤلف: انتوني سامبسون
الناشر: هاربر كولينز، لندن
ثمن النسخة: 24 جنيهاً و99 بنسا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.