حجبت احداث كوسوفو وتطوراتها الأخيرة ما كان يجري في أرجاء العالم، وخاصة في الدول البعيدة عن منطقة النزاع البلقاني. والحقيقة ان اميركا اللاتينية لم تعد تحتل أية صدارة في وسائل الاعلام الدولية منذ الثمانينات، وانهيار معظم الأنظمة العسكرية فيها. حتى ان ظواهر كانفجار الأزمات الاقتصادية في المكسيك والبرازيل، او تفكك أجهزة الدولة ودخول العنف على الحياة اليومية في كولومبيا وفنزويلا… لم تشكل خصوصية لاتينية بين دول العالم الثالث. جنوب اميركا بدا وكأنه سائر نحو غد أفضل رغم ما ذكرناه اعلاه… حتى ان ثورة الاتصال، التي تجاهلت القارة السوداء ودول عديدة من آسيا، وجدت في اميركا اللاتينية أرضاً خصبة لمشاريعها. والصناعة السمعية - المرئية ولّدت لأول مرة، عبر تسويق "التيلينوفيلا" المكسيكية والبرازيلية، علاقات اقتصادية جادة في ما بين دول الجنوب. "ماريا مرسيدس" غزت الأسواق العربية والآسيوية ونطق بلغات عديدة ونجحت حتى في منافسة النتاج السمعي - المرئي الأميركي الذي لم تستطع مجابهته دول اوروبا الغربية… انه سوق للطبقات الوسطى، بحسب ما استقر عليه تعريف مجتمعات هذه القارة، وهو ما حمل عدداً من المستثمرين الدوليين على اختراق المجال السمعي - المرئي فيها. واذا كان من الطبيعي ان يحضر مردوخ في رساميل المحطات البرازيلية، ويحاول دخول الدول المجاورة، فإن اهتمام محطة كاذاعة فرنسا الدولية بهذه الأسواق يبدو للوهلة الأولى غير متوقع. في السنتين الاخيرتين، استطاعت الاذاعة الفرنسية عقد اتفاقات مع خمس وعشرين محطة في جنوب اميركا، حاصدة بذلك ما كانت قد قامت به في الثمانينات، خلال سنوات الديكتاتورية. باريس التي لم تكن لديها مصالح تجارية مهمة في هذه القارة، لم تتأخر، عبر إذاعتها، في الظهور كمنبر للحرية وصوت للمعارضة الديموقراطية. وهو دور بالطبع تخاذلت عن القيام به في افريقيا السوداء. أو في العالم العربي. فمشاريع فرنسا الاذاعية ترسخت في دول مختلفة كالمكسيكوتشيلي وحتى بوليفيا الفقيرة. وصورة باريس كعاصمة ثقافية لأميركا اللاتينية ادخلتها الى مواقع كان يفترض ان تكون حكراً على الولايات المتحدة… ففي زمن العولمة، لم يعد انهيار الدول يعني الانقطاع عن العالم وتطوراته. كولومبيا المصدَّعة بحروبها الداخلية ومافيا المخدرات لم توقف تطور صناعاتها الاعلامية. بل على العكس، غدت المحطات الاذاعية البديل الفعلي للدولة! الراديو اضحى البديل للدولة وبناها التحتية، وانهيار قطاع المواصلات طرق، خطوط حديدية عوّض عنه دور قطاع الاتصال، وذلك عبر الرساميل الكبرى للتجمعات الاقتصادية الكولومبية. الاذاعة الخاصة هي اليوم في هذا البلد المصدر الوحيد للاعلام. حتى ان النكسات التي يتناقلها الناس حول فعاليتها اضحت غالباً حقيقة على أرض الواقع. فالقول ان أول من يأتي لتقصي مجريات حدث ما يكون صحافياً من الاذاعة، ومن ثم من التلفزيون، فمن الصحافة المطبوعة، وبعدهم يأتي البوليس او عناصر من الجيش او الاطفاء. هذه النكتة حملت أهالي منطقة قرطاجنة على اعطاء الصحافيين علبة سوداء لطائرة سقطت في جوارهم عوضاً عن تسليمها للسلطات! والكولومبيون ينصتون الى مذياعهم حوالي اربع ساعات في اليوم، كما ان لكل منزل ثلاثة أجهزة على الأقل، وهناك أكثر من مئتي اذاعة خاصة في كولومبيا، حتى ان أصحاب هذه الاذاعات بدأوا يدشنون محطات جديدة في تشيلي وميامي وحتى في مدن نيويورك او باريس… هذا الازدهار الاعلامي في دول انهارت مؤسساتها او تصدع اقتصادها يخفي حقائق أليمة لا تظهرها الاحصاءات: حرية الاعلام، دور الرقابة والرقابة الذاتية والعواقب التي تنجم عن عدم احترام هذه الشروط. بيرو - الرئيس فوجيموري هي اليوم المثل الأكثر تداولاً بين المحللين عن وضعية الاعلام في جنوب اميركا. ورغم عدة ظواهر تثير الى احترام حرية التعبير في ليما، والى وجود تعددية في وسائل الاعلام، فان معظم الجمعيات المدافعة عن الصحافيين اخذت تشير في تقاريرها الى انتهاكات نظام فوجيموري لهذه الحريات، واضعة البيرو وكوبا في الخانة نفسها بين الدول التي لا تملك حرية اعلام. فمنذ ثلاث سنوات، وضعت الحكومة خطة لملاحقة صحافيي المعارضة والذين يتابعون قضايا الفساد وتجارة المخدرات والسلاح وانتهاكات حقوق الانسان. وهذه الخطة وصلت حد ادخال جواسيس الى أسر التحرير لتعقب خطوات بعض الاعلاميين! وهكذا أرست البيرو، بين دول جنوب اميركا، مبدأ معاقبة الصحافيين بعد نشرهم الخبر، معاقبة قد تصل الى التعذيب أو القتل في بعض الأحيان، أو الى سحب الجنسية كما حصل لباروخ إفشر مدير محطة التلفزيون الثانية. واذا تعذر سحب الجنسية لمن هم بيرويو المولد، فإن "التخوين" غدا السلاح الجديد، وأصبح اتهام الصحافيين بالعمالة لدول أجنبية التهديد الذي يُلوح به النظام. وبالطبع، فافضل طريقة لمحاربة الصحافة تمر عبر… الصحافة. فصحف التابلويد حوّلت إعلاميي المعارضة الى نجوم فضائحية. كذلك فان حكومة فوجيموري استعانت بانترنت لتعميم حملاتها التشهيرية. المسؤول عن صفحات الويب التي تبث الأخبار الكاذبة حول الصحافيين في ليما يدعى فكتور فيصل، لبناني آخر "لمح" في سماء اميركا الجنوبية…