تركيا، التي عرفت منذ منتصف الثمانينات تشكّل امبراطوريات اعلامية لا مثيل لها حتى في الدول الأوروبية، فيها اليوم 16 محطة تلفزيونية تغطي كامل أراضيها، وعدد كبير منها يبث عبر الساتلايت الى أوروبا الغربية حيث تقيم جالية تركية كبيرة مهاجرة. بيد ان هذه الكثافة الاعلامية حملت بعض الشركات العالمية على الاهتمام بسوق الصحافة والاعلام السمعي - المرئي التركيين. المليونير البريطاني روبرت مكسويل حاول في بداية التسعينات الدخول الى رأسمال جريدة "حرية"، لكن هذه المبادرة لاقت عاصفة من الاحتجاجات حملت مكسويل على تغيير فكره وإلغاء هذه الصفقة. اما اليوم فالأمور تختلف: فمن جهة، لم يعد دخول رساميل اجنبية على الشركات الوطنية ولو في مجال الاعلام يدب الذعر او يستفز المشاعر القومية. ومن جهة اخرى، فان القادم اليوم الى اسطنبول ليس من النوع الذي تسبقه رائحة الفضائح والأموال التي لا يعلم احد مصدرها. فالمحطة الفضائية الاخبارية الاميركية سي. إن. إن. شرعت هذا الاسبوع تبث باللغة التركية من مكاتبها الجديدة في اسطنبول. والمحطة الشهيرة المذكورة، والتي غدا جمهورها في اغلبيته الساحقة عالمياً لا اميركيا، والتي شيّدت مراكز لها في معظم القارات وفي لغات مختلفة، تتوجه للمرة الأولى الى جمهور شرق اوسطي. وهي، اذا ما استثنينا بعض جمهوريات آسيا الوسطى، تعتمد لغة يتكلمها شعب متوسط الحجم في دولة ما زالت في طور النمو. بناء هيكل سي. ان. ان. التركي استغرق حوالي سنتين، واظهر التأجيل المتكرر لافتتاح المحطة تبعاً لاستكمال الكوادر والبنى التحتية اللازمة، صعوبات هذه التجربة الجديدة لمحطة اطلنطا، ومدى الجهود التي تبذلها في تفادي اي خطأ يسيء الى سمعتها. غير ان الصحافيين الأتراك الذين حاربوا حتى الآن دخول الشركات العالمية الى مؤسساتهم، رحّبوا بالبادرة الاميركية، وذلك على رغم وجود محطة تركية اعلامية تبث، ك سي. ان. ان.، اربعاً وعشرين ساعة في اليوم وتحقق أرباحاً كما تحرز نسبة مرتفعة في عدد المشاهدين. على ان سي. ان. ان. في توجهها العالمي لم تعد تستطيع تفادي بعض التحقيقات والأغلاط المشوهة للحقائق: اعادة فتح ملف حرب فيتنام، مسألة الخِتان في مصر والسودان، النقل الحي لسقوط الرئيس الروماني نيكولاي تشاوتشيسكو... بيد ان هذه الاخطاء، التي سرعان ما بادرت المحطة الى تقديم اعتذارها عنها للمشاهدين والى معاقبة المسؤولين عنها، لا تشكل نقطة في بحر تحيّز الاعلام التركي للأحزاب السياسية او للرساميل الكبرى المهيمنة على البلاد. فالمحطة العالمية ستُدخل بلا شك مفاهيم ولغة جديدة على اعلام انقرة، لغة تتفادى الحشو والنعوت: كمجرم او سافل او رجعي مما تلصقه المحطات التركية تارة بالأكراد وطوراً بالجماعات الاسلامية. كذلك ستسمح المحطة، على صعيد النقاشات السياسية، لجميع اطراف المجتمع التركي بإبداء آرائها، خلافاً لما كان حتى اليوم شائعاً مما أدى الى نشوء هذا العدد الهائل من المحطات، وكل واحدة منها تدافع عن خط سياسي مختلف. النقاش اليوم في الاعلام التركي يدور حول من هم الحلفاء المخلصون لمؤسسة الدولة الكبرى، اي مؤسسة الجيش. فالاعلام الاسلامي يتهم الاحزاب التركية بعدم احترام الجيش عندما تصرّح بان وصولها الى الحكم اوقف عملية الانقلابات العسكرية، بينما جنرالات الجيش التركي يتهمون المؤسسات الاعلامية الاسلامية بشن حملات ضدهم. وهكذا لم يجد الجنرال ازيمر في معركته ضد الاعلام الاسلامي سوى تشبيه المسؤولين عنه بكونهم "تخرجوا من مؤسسات جامعية فتحت مؤخراً وعقلهم ما زال... عربياً!". لكن بغض النظر عن هذه النعوت التي تذهب مذهبا عنصريا في تحقير الخصم، فما هو غائب اليوم في الاعلام التركي انما هو العقل الديموقراطي ومنهجه: هذا ما صرّحت به نقابة الصحافة التركية لمشروع اعادة صياغة قانون الاعلام السمعي - المرئي المُشرف على هذا القطاع. فالنقابة لم تُشاوَر طوال مرحلة وضع القوانين الجديدة، وهذا دليل آخر على ضعف النهج الديموقراطي في الحياة الاقتصادية التركية يبدو من المضحك اليوم ان سي. ان. ان. تطالب العاملين الأتراك في المحطة برفع احتجاجاتهم عبر تنظيم نقابي يضمّهم، بينما الصحافيون يخبرون الشركة العالمية ان الانتساب الى النقابة في تاريخ تركيا الحديث كان يعني البطالة، نظراً لرفض ارباب العمل توظيف اي صحافي نقابي.... وما يطالب به الصحافيون اليوم هو ان يكون المكتب المشرف على العمل السمعي - المرئي في البلاد، والمراقب لكل ما يخرج عن قواعد المهنة، مؤلفاً من اخصائيين مستقلين، لا من ممثلي الاحزاب السياسية التركية على ما يقضي القانون الحالي، وإلا تحول القطاع بأكمله الى اداة قمع سياسي في يد الاحزاب الحاكمة. ومن تركيا الى بلد خرج منذ فترة قصيرة من النظام الشيوعي: ألبانيا. فهذا الأخير، مثل تركيا، دولة أوروبية ذات اغلبية مسلمة. وهو مثلها، اذ يشهد الحقل السمعي - المرئي فيهما فورة جديدة. المحطات التلفزيونية الخاصة في البانيا ما زالت حديثة، وعمر اقدمها لا يتجاوز ثلاث سنوات. بيد انه على عكس تركيا، ليست مفاهيم الديموقراطية العقبة الأساسية امام تطور هذا القطاع الذي بدأ، رغم ضعفه، يقضي على الصحف والمجلات الألبانية. فهناك اليوم في هذا البلد الصغير، خمس محطات تتنافس ليس فقط على المشاهدين، بل ايضاً على العاملين التقنيين، وعلى خريجي كليات الصحافة، وعلى المساعدات الأوروبية التي غدت حيوية لقطاعات عدة في هذا الجزء من أوروبا...