انقسامات الصحافة الاوروبية واختلافاتها لا تتوافق مع المشاريع التوحيدية للقارة. حائط برلين الوهمي اليوم ما يزال يفصل بين صحافتي الألمانيتين الغربية والشرقية، وحتى عندما تبتلع وسائل اعلام بون او هامبورغ صحف برلينالشرقية سابقاً، فإن القارئ في شرق ألمانيا لا يتبع هذا النهج الجديد. كذلك فإن الحائط الوهمي نفسه ما يزال يقسم أوروبا الى غربية وشرقية بالرغم من عدد المحاولات الناجحة، الالمانية وغيرها، لجذب قارئ أوروبا الشرقية عبر مجلات نسائية او عائلية وعبر محطات اذاعية موسيقية. بيد ان الانقسامات هي ايضاً شمالية - جنوبية حتى في داخل الاتحاد الاوروبي. ففي مجال المطبوعات، يشير آخر الاحصاءات الى ان عدد قراء الصحف في الدول الاسكندينافية، والذي يشهد انحساراً نسبياً، ما زال يشكل ما بين 90 و85 في المئة من نسبة السكان، بينما تهبط هذه النسبة الى 30 في المئة في دولة كإسبانيا وتنهار الى اقل من 20 في المئة في اليونان. واذا نظرنا الى الصحف العشر الاكثر مبيعاً في أوروبا، فإن ألمانيا وبريطانيا تحصلان على حصة الاسد. "بيلد" الالمانية هي الاكثر مبيعاً: حوالي اربعة ملايين ونصف مليون عدد يومياً، تليها اربع صحف بريطانية توزع بين اربعة ملايين عدد ومليون وربع المليون يومياً. وعلى سبيل المقارنة لا يوجد في الولاياتالمتحدة اكثر من اربع صحف توزع ما يزيد على مليون عدد يومياً. اما فرنسا التي لم تعد تعرف ما اذا كانت من شمال القارة او من جنوبها، فإن انخفاض نسبة مبيعاتها من ستة ملايين عدد لمجمل صحفها سنة 1940 الى اقل من مليونين ونصف المليون اليوم، يظهر، على الاقل على الصعيد الصحافي، كم غدت هذه الدولة قريبة الى النمط المتوسطي. وعلى صعيد الصحف الاسبوعية، يبدو القارئ الاوروبي وكأنه ينظر اليها على انها غدت ترفيهية بحتة. فمن المجلات العشرين الطليعية في أوروبا، ثلاث عشرة مجلة تقدم لقرائها برامج التلفزيون والاذاعة كمادة اساسية، وخمس مخصصة للنساء ومجلتان للثقافة العامة. والاختلاف بين الشمال والجنوب هو ايضاً في مسألة الحرية والرقابة. فإذا بدت وسائل اعلام دول أوروبا الشمالية مستقلة عن سلطات انظمتها في تحريرها، ونسبياً مستقلة عن الشركات الكبرى التي تدير بعضها، واذا اقررنا بان الوضع الفرنسي، بخاصة في المجال السمعي - المرئي، يختلف بعض الشيء لجهة تبعيته النسبية للحكومة في ما يخص الامور "الحساسة"، فإن البرتغال كان في الاسبوع الماضي مصدر المفاجأة. ففي لشبونه اعترف اكثر من 90 في المئة من الصحافيين، عبر استقصاء شملهم، بأنهم تعرضوا مؤخراً لضغوطات... وهذه النسبة المرتفعة في دولة غدت ديموقراطية منذ اكثر من عشرين سنة اقرار 53 في المئة من الصحافيين بأنهم خضعوا لهذه الضغوطات تظهر كم ان الاعراف القديمة طويلة الامد ومشاكسة في صمودها. الا ان البلد الاوروبي الذي كان في هذا القرن بمثابة مختبر للقارة، يُظهر اليوم عبر اعلامه مجمل التناقضات التي تعيشها أوروبا. فإيطاليا تتعامل عبر اعلامها مع ازمات كانت في السابق تضرب دولا اخرى: ازمة الهوية وصعود المشاعر الاستقلالية في المناطق الغنية التي تريد ان تنسلخ عن الدولة المركزية وأجهزتها. وعلى صعيد حملته الاعلامية، فان "رابطة الشمال" بزعامة أمبرتو بوسي سبقت بأشواط مختلف الحركات الاستقلالية داخل الدول الاوروبية: موسيقى، صحف، اذاعة وقريباً محطة تلفزيون، كلها وسائل مجيشة لفصل شمال إيطاليا عن باقي البلاد. صحيفة التجمع "بادانيا" الاسم الذي تعطيه الرابطة للمنطقة الشمالية التي تريد لها الاستقلال، توزع يومياً حوالي خمسين ألف عدد وترتفع عائدات اعلاناتها الى المليون دولار. مجلة التجمع "ايلي سولي ديلي البي" وصل توزيعها الى اربعة وعشرين ألف عدد. والتجمع انفق مليوني دولار لتغطية سائر بقاع شمال إيطاليا عبر اذاعاته. كذلك فللتجمع خمسة مراكز على شبكة أنترنت، من تقديم الثورة حسب أمبرتو بوسي الى تحليل للدستور الايطالي. اما الرسالة فهي ذاتها: الدولة الايطالية هي العذاب لأهل الشمال وروما بفوضاها وبذاءة شعبها ووسخ ازقتها اشبه بمدن الشرق الاوسط منها الى مدن شمال إيطاليا. انها، اذن، رسالة تجد عبر وسائل الاعلام وخاصة الاذاعة، تجاوباً شعبياً متزايدا، مثلها مثل كل خطب الكراهية التعبوية، وهذا مع العلم ان وضع الصحافة الايطالية يزداد سوءاً يوماً بعد يوم وان غالبية المشاريع الاعلامية، التي ظهرت في السنوات الثلاث الاخيرة، اقفلت في غضون شهور فقط. ازمة اخرى اجتازت دولا اوروبية عديدة ولم تجد بداية حل او حلول لها سوى في إيطاليا: ازمة الصحافة الملتزمة التي ظلت منتعشة حتى منتصف السبعينات ثم اخذت في التلاشي مع تراجع الماركسية ومن ثم انهيار المعسكر الاشتراكي. صحيفة "أونيتا" الناطقة باسم الحزب الديموقراطي لليسار الحزب الشيوعي الايطالي سابقاً اختارت ان تذعن لقوانين السوق لتخرج من محنتها المالية. ففي سنة 1995، لجأت الى التسويق لزيادة توزيعها عبر تقديم كاسيت فيديو لأهم الافلام العالمية مع نسخها، قافزة بذلك من مئة وأربعين ألف عدد الى اربعمئة ألف. اما اليوم فهي تحاول تخفيف اعباء التكاليف عبر تسريح عدد من الموظفين، وذلك لحث رساميل من خارج الحزب على شراء حصص فيها. اما صحيفة "المانيفستو" التي اسسها سنة 1971 منشقون عن الحزب الشيوعي الايطالي، والتي تواجه ازمات مالية حادة نتيجة التغييرات الاجتماعية، وابتعاد الاجيال الجديدة عن قراءتها، كما بفعل تأييدها للحكومة الحالية، ما جعلها تخسر صبغة المعارضة، فإنها اختارت ان تبيع عدداً خاصاً اصدرته بخمسة وعشرين دولاراً. أربعون ألف نسخة بيعت، وحتى سيلفيو بيرلوسكوني اشترى عشر نسخ...