تناولت "الحياة" على حلقتين الجمعة والسبت 11 و12 حزيران/ يونيو الجاري مسألة الهوية في السودان في مناسبة مرور عشر سنوات على ثورة الانقاذ. وتنشر اليوم وغداً، في المناسبة نفسها، اربعة مقالات عن مسألة التوالي السياسي. عرف السودان قبل انقلاب 30 حزيران يونيو 1989 نظاما ديموقراطياً تعدديا احترم حقوق الانسان، والحريات الاساسية وفتح باب الحوار اساسا لحسم القضايا الوطنية كافة معتمدا على مشروع السلام، الذي أوشك أن يؤدي الى قيام مؤتمر قومي دستوري كان مقرراً عقده في 18/9/89 يهدف أن يتوصل المؤتمر الى اتفاق سلام عادل يضع حدا للحرب الاهلية في السودان. ولم يحدث ذلك بسبب الانقلاب الذي دبرته "الجبهة القومية الاسلامية" بزعامة الدكتور حسن الترابي، على رغم مشاركتها في النظام الديموقراطي - في اطار تآمرها على الشكل السياسي القائم بغية إقامة دولة بوليسية كان واجبها الاول حرمان المواطنين من حقوقهم الدستورية وتقويض مشروع السلام الوشيك وتحويل طبيعة الحرب الاهلية القائمة الى حرب دينية. كشفت مسيرة النظام القائم في السودان عبر سنواته الماضية عن تفاصيل هذه الاهداف بصورة لم يشهد السودان لها مثيلا طوال تاريخه. وبالطبع اتخذت سياسة النظام القائم الاقليمية في إطار هذه الاجندة بعدا رساليا مستقطبة بذلك عناصر الهوس الديني إقليميا ودوليا. فضلا عن الواقع الداخلي الذي حوّل حياة السودانيين الى معاناة كبيرة. ونتيجة لهذا الواقع تلخص المشهد في الاتي: - استشعار حرب اهلية ريفية في جنوب الوطن. - استجابة القوى السياسية المعارضة لنداءات رئيس النظام الذي تحداها ان تحمل السلاح ضد حكمه إن كانت قادرة على ذلك. - تحولت علاقات السودان الاقليمية والدولية الى عداء مستفحل مع الاشقاء والاصدقاء وتمت بسرعة عزلة السودان دوليا بوصفه راعيا للارهاب. هذا الواقع ما لبث ان تزايد وتكاثر في اشكاله المختلفة لينعكس على المواطنين والوطن بأسره، بنوع من النزيف المستمر وانهيارات متكاملة على المستويات الاقتصادية والهيكلية والخدمية كافة، فتعددت عوامل الطرد، وتزايدت اسباب الهجرة، حتى غدا العالم بقاراته الخمس وطنا لكل السودانيين. هذه العوامل المختلفة، فضلا عن فشل تجربة ما اسماه النظام بتحقيق السلام من الداخل وتصدعها حتى في قلب الخرطوم، فتحت الباب لجدل واسع داخل النظام نفسه، تقوده تيارات عدة وبلغ ذروته في ما سمي ب"مذكرة العشرة"، وما صحبها من ردود فعل متعارضة داخل النظام. إلا ان هذه التيارات، في نهاية المطاف، تهدف الى بقاء النظام نفسه، وليس الى تصفيته على نحو ما يهدف "التجمع الوطني" عبر خياراته التي حددها في مواثيقه وقراراته. هذا الجدل المشار اليه كان باعثه ما اتخذه النظام الحاكم من اجراء تطور دستوري يحافظ على جوهر تسلطه، ويمنح الاخرين تعددية شكلية يقيدها بقوانينه واجهزته تحت ما يسمى بالتوالي السياسي، وهو ما رفضته القوى السياسية السودانية، واعتبرته خداعا سياسيا. ايضا صاحب ذلك توجه اخر لا يخلو من صراع وهو اظهار التصالح مع دول الجوار واظهار نظام الخرطوم الاعتدال في سياساته الدولية. ولكن عوامل كثيرة شككت الاطراف المعنية في صدقية هذا النظام، إذ لم يحقق هذا التوجه أي نتائج على أرض الواقع خصوصاً في "الحال المصرية" لجهة ان الملفات المفتوحة بين البلدين لا تزال تنتظر اجابات حاسمة من الخرطوم. ومع اعمال دستور التوالي، وفتح الباب لاحزاب جديدة تخرج من عباءة النظام وتعيش على حبله السري في اطار الضوابط القانونية التي فرضها كشروط للممارسة السياسية، تحركت القوى السياسية الحية المعارضة لسياسات النظام في الداخل تحركا احرج النظام الى درجة كبيرة واشعل في اروقته حرب البيانات والتصريحات المتضاربة بين من يرون ان ممارسة التغيير خارج نطاق التوالي سيقابل بالعنف والحسم، ومن يرون تجاهل هذا التحرك، وبين آخرين يخشون ان يتصاعد هذا النهوض الى درجة تطيح النظام نفسه لقناعتهم بان المسرح السياسي مليء بأحزاب وهمية تشدها الى اصابع الحزب الحاكم خيوط أوهن من خيوط العنكبوت. وبدأت فعلا الممارسات الاجنبية، من اعتقال ليوم واحد وتحديد للاقامة ومنع الندوات واقامة الاحتفالات الدينية التي تحشد ضد النظام وتفضح شعبيته، وحظر لأئمة المساجد المناهضة، كمسجد الانصار في ويوباوي. قامت هذه الممارسات كدلائل على ان ما يريده النظام ليس توجها حقيقيا نحو الحرية والديموقراطية بقدر ما هو خداع سياسي يحاول كسب الوقت داخليا وايهام العالم الخارجي بأن ثمة متغيرات ايجابية تحدث. وجاءت أخيرا مذكرة المعارضة الداخلية في كانون الاول ديسمبر الماضي لتفضح حقيقة هذا التوجه، إذ اكدت فيها حرصها على وضع حد لمأساة البلاد الانسانية، عن طريق انماء الحرب الاهلية واقامة سلام عادل وانماء التناحر المسلح باقامة نظام ديموقراطي يخدم حقوق الانسان وحرياته الاساسية. وحددت المعارضة الوطنية مطالبها في الآتي: - تكوين حكومة قومية انتقالية يرتضيها الشعب. - تصفية دولة الحزب الواحد لمصلحة دولة السودان الوطني الديموقراطي الجامع. - عقد مؤتمر قومي دستوري يضم كل الاطراف ويعمل على: - أولا: اقرار اتفاق شامل لسلام عادل ودائم، يضع حدا للاقتتال ويقر تقرير المصير لاهل الجنوب في مناخ ديموقراطي. ثانيا: وضع اساس ديموقراطي راسخ ومتين لحكم البلاد. ثالثا: وضع اسسس عادلة لمساءلة شاملة عن المخالفات التي اقترفت في حق الشعب. رابعا: وضع اساس متين للعلاقات الخارجية. خامسا: وضع الاسس والقواعد اللازمة لاجراء انتخابات عامة ونزيهة واجراء الانتخابات العامة تحت رقابة اقليمية ودولية وتسليم السلطة فورا للحكومة المنتخبة. ربما لأن النظام الحاكم لم يكن جاداً اصلا في توجهاته نحو الانفراج السياسي، كان طبيعيا ان يتجاهل هذه المذكرة بل يمنع نشرها وتداولها في مراحلها الاولى. هذا الرفض ليس معزولا عن عقلية النظام لانه لا يزال مشدودا بحبل سري الى اجندة راديكالية. هذا لا يعني بالقطع ان النظام لم يتنازل عن ثوابته، بل على العكس من ذلك تماما، اذ تحول الان بعد تخل ظاهري عن مبرراته الايديولوجية كافة الى جماعة تحتكر السلطة والثروة والسلاح لنفسها من دون اي شرعية. وهذا ما افرز في داخله ما سبقت الاشارة اليه من تنافر بين اطرافه الى اقتسام السلطة والثورة. يبقى ان الممارسة الحالية في اطار دستور وقوانين التوالي ليست من الديموقراطية في شيء، بل هي ممارسة تخص النظام ومن لف لفه، ولا يجدي ما ذهب اليه البعض من الذين تشدهم طموحات ودوافع ذاتية من تسميتها بالديموقراطية الواسعة، فالممارسة نفسها خير شاهد ودليل. حددت مذكرة كانون الاول بما حملته من مطالب موضوعية، المخرج الممكن من هذه الازمة، لانها نقلت الامر، بعد ان كان منحصرا بين نظام اقلية حاكم ومعارضة مسلحة جنوبية لا تمثل كل السودان، الى لدن الشعب السوداني بأسره. وعلى نظام الخرطوم الحاكم ان يحدد بوضوح أجندته، إذ لا يمكن للخداع السياسي، بمسمياته المختلفة، ان يشكل بديلا للديموقراطية التي تقوم على الحريات الاساسية وسيادة القانون وكل ما ذهبت اليه معاني مذكرة كانون الاول لان الطريق الآخر يجعل من امكان الانتقال الى الديموقراطية مرتبطا ومقيدا بالمواجهة المسلحة، وهي ليست بعيدة على كل حال. لذلك فإن مذكرة القوى السياسية الوطنية في الداخل تصبح هي البديل الوحيد والمعقول لمشروع "التوالي" الذي يفتح مزيدا من ابواب الكوارث على البلاد وخطط التدويل المحتملة والواردة. فالسودان اصبح امام خطر ان لا يكون، وهو خطر لن يكون وقفا على السودان وحده، كما حدث في الصومال وليبيريا، بل سيتعداه الى حوض النيل وحوض البحر الاحمر. وسيكون لانهياره مع هذه الاعتبارات، آثاره السلبية الهائلة تتجاوز القارة الافريقية. فهل يعي القائمون على الامر في السودان هذه المخاطر؟ لعل المهم هو ان يدرك جيران السودان، لا سيما العرب، صحة موقف القوى الوطنية السودانية لدعمها في مشروعها الديموقراطي بعيداً عن فرض اجندة حزبية ضيقة على البلاد. * صحافي سوداني مقيم في القاهرة.