الدولة - الأمة نمط من الاجتماع البشري تربطه وشائج التكافل والتضامن والتكامل، ويمنحه هذا الاجتماع بكليته لا مفردة من وحداته قبيلة كانت ام طائفة مهما كان تميزها ولاء خاصاً. ويتميز هذا الولاء المعجون بالمحبة والمشحون بطاقات الفداء بأنه ارفع من غيره من الانتماءات وفي حال صدام الولاءات بين القبيلي والجهوي والإثني فان عصبية الولاء الوطني تعلوها جميعاً متفردة بالسيادة. والاجتماع البشري هو الحلقة الأخيرة الناضجة في سلم تطور الجماعات الانسانية المتعاقدة التي خضعت في خاتمة مطافها طوعاً او كرهاً لهذا التدرج الممرحل. وحيثما كان هذا الاجتماع منسجماً حققت الدولة - الأمة مثالاً، وقعدت الاخريات مرهقة بانشطاراتها وتوهماتها الجهوية والعرقية. وما يعزز من متانة هذا الاجتماع الخاص ارث ثقافي مشترك ومصير مستقبلي منشود واعتراف بقيمة الانسان، فإذا كانت الأمم ناشئة في دائرة تكوين قطرها الدولة او الوطن في اعتباره التنظيم البشري المثالي لجلب المصالح ودرء المفاسد وحماية البيضة والظهور على الغير بالشوكة، فإن هذه الطفرة تستوجب نشوء نمط خاص من المجتمعات توسمه شرائط وتكيفه إرادة العيش المشترك والتنازل عن شيء ما جملة توطئة لانضاج هذه الطفرة. وفي اطار السودان يغدو التنازل المطلوب كبيراً كرقعة الجغرافيا وتنوع الثقافة والاديان وتعود القبائل والاجناس فيه لتحييد سلبيات الاعتداد بالعزة العشائرية والاجناسية والوهم الخاص بالتفوق. وان نشأة الدولة نفسها تستلزم مراجعات واصلاحات جذرية وهيكلية وتوزيع الثروة والسلطة السياسية فيها على المكونات البشرية كيما ينطلق الى الطفرة النوعية المرتجاة، ولا يحدث ذلك الا بوازع قيمي رفيع وولاء وطني منقطع واعتراف بالدولة والحفاظ عليها بشيء من الغيرة الخاصة. هكذا وُجد السودان تاريخياً موحداً بتكوينه المتنوع والمتباين وتعايش وتفاعل فيه مئات الاعراق وتثاقفت فيه الألسن وتوحدت فيه الاديان على رغم التحديات التي طرأت عليه من جراء التمثلات الخاطئة سياسياً وثقافياً، وكان انموذجاً مخصوصاً بالفرادة جامعاً لكل أفريقيا والعرب والأديان في اكنافه. عدم نضوج المرحلة الاخيرة من حلقات الاجتماع البشري السوداني وصفه البعض ب"نقصان التكوين القومي" وشجبه آخرون ب"هيمنة الذات العربية - الاسلامية" ووصفه ساسة ب"تهميش الثقافات الافريقية" وغيرهم ب"الأسلمة القسرية" وما زالت دائرة توصيف الهوية السودانية منداحة ولا تخلو من مرارة وجرأة في التناول والنقد المنطقي. ان اختلاط العرب بالافارقة في السودان يصعب وصفه ب"عربي - افريقي" او "افروعربي". ان الناتج كان شيئاً جديداً لا يمكن رده الى مكوناته الأولى وان حملها المنتوج في سحنته وجيناته. لذلك بقي السودان قديماً وحديثاً هو السودان مع اختلاف التمثلات "الايديولوجية" والرؤيوية لماهية هذا الكائن الجغرافي. وحتى عندما انتج هذا التكوين حضارة مسيحية سابقة ودولة اسلامية لاحقة بقي المسمى واحداً. وكذلك بقيت اشكالية الهوية نسبة للتمثلات الثقافية التي ارتهنت بين قطبي "استعلاء" و"تهميش" وترسخ ذلك الانشطار على شخصية السودان كرد فعل لمحاولة الثقافة السياسية العربية السائدة تقويلاً على منطق السيطرة السياسية والهيمنة الثقافية الغاء حقيقة التعدد، أي ان المشكل في أحد أبعاده هو "لا تعددية" الذات السياسية التي فسرت العروبة مطلقاً على رغم انها اكثرية سياسية وبالتالي تضيق هامش التفاعل مع الثقافات الافريقية/ الاحيائية/ النيلوطية/ النوباوية وحتى تهميش وتبخيس الآخر الثقافي داخل الشمال نفسه في نظرة المركز السياسي الى الجهوي في غرب السودان وتوظيف ايديولوجية الاعلام والدعاية السمجة بأنها ثقافات "وافدة" ووصف محاولات استلام السلطة بذات الاسلوب الذي استولت عليه الذات الحاكمة العسكرية بأنها محاولات "عنصرية" مرشحة في المخيال الجماعي لهذه الجهويات التي كان عطاؤها في تشكيل السودان القديم والحديث أوفر من "دُخرى" الذات العربية السياسية الاقصائية. كان السودان وطناً ومسرحاً لكافة وحداته البشرية او ان شئت ساميوه وحاميوه وكوشيوه وغيرهم من الاعراق، حتى غدت هذه الاثرة والأنوية السياسية الناسخة للآخر الملي/ العرقي/ الجهوي "غولاً" بالفعل. وان ترسيخ منطق "الوافدين" ينم عن ذاكرة معطوبة، ألم يفد اجدادنا العرب أنفسهم الى السودان؟ فما الفرق بين وافد من حزام افريقي ووافد من حزام عربي حينما قضى الأزل ان يجتمعا في تلك البقعة المسماة السودان. لم يكن الاسلام مشكلاً في حد ذاته كدين، ولكن كانت الاشكالية هي العقلية التي تتمثله، ان الاسلام لم يشترط "العربية" وان جاء باللسان العربي وان الفتوح الاسلامية في القرن السابع الميلادي وما بعده، جعلت من العرب المسلمين دولة شارك في بنائها الفرس والسلاجقة والبربر والافارقة وغيرهم من دون ان يتحدثوا باللسان العربي الا في قرآنهم وصلواتهم. وان الاسلام فيما تمظهر في غلبته السياسية في القرن الخامس عشر في السودان بعد ان تمكن تحالف القبائل العربية المكون من جهينة وبلّى والفنج لم يفرض "العروبة" ولكن ظهر بالمثاقفة والتزاوج والتعامل الدهري وقليل من المواقعة. كان هذا منطق العرب المسلمين الذين عاشوا واختلطوا بالنوبة والبجة وصاروا اكثر عوداً بعدة ثقافية. وكانت سماحة الاسلام احدى بواعث دخول السودانيين والاقباط في مصر فيه زرافات ووحدانا ولم يكن الاسلام شرطاً للمواطنة ولا العروبة التي اضحت شيئاً جديداً: سيادة "عرقية". وتمظهرت ايجابية الاسلام وترسيخه للوحدة الوطنية ابان الثورة المهدية التي كانت اسلامية من الألف الى الياء، ولم يمنع ذلك تماهي الجهويات والثقافات الافريقية الاحيائية معها. اذ كيف نبرر واقع كوزمولوجيا الدينكا الذي أفرز حقيقة "المهدي بن دينغ" "الذي سجدنا له في الأرض كالنمل" اي نهاية الفصام والتخوم التي فصمت الانسياب الوحدوي للهوية السودانية ولو لبعض حين. لذلك كيف يمكن تجاوز عطاء الدينكا والقبائل النيلوطية في القتال ضد المستعمر وكيف نتجاوز وجودهم السابق ومواطنيتهم الاصيلة قبل هجرة العرب الى السودان؟ وكيف يمكن اسقاط تمثلات خاطئة باسم الاسلام وجعل هؤلاء مجرد "كفرة" يُشن ضدهم الجهاد او النظر اليهم باعتبارهم "ذميين"؟ انه ناتج من فصام الذات المضخمة الى حد الغفلة عن اعتبار حق الآخر الملي الثقافي، الجهوي في التماهي مع ثقافته او تهميش الهامش في منطق المركزية العرقية الأوروبية؟ فإذا صار الاسلام "ايديولوجيا" تنزع المواطنة وتضع لها قالباً عرقياً يبرر الابادة الجماعية ملاحقة لبرنامج ايديولوجي حركي يقوده "عرب" مسلمون فان نزع العروبة عن السودان يصبح هدفاً شرعياً للذوات الافريقية المغموطة والمغبونة ردحاً من الزمن وشيوع منطق العنف والعنف المضاد. فاذا كان منطق القوة المحضة الذي تسوغه الجبهة الاسلامية في السودان هو الحق، علينا كمسلمين قبول ما آل اليه المسلمون في البوسنة وكوسوفو؟ وبعقلية "الغول الحركي" انتهى العرب في السودان انفسهم الى اصقاع المعمورة لاجئين وفارين تاركين سودانهم وماضي اسلافهم. سبقت المواطنة دخول الاسلام في السودان. ولم يجعل الاسلام علوية للمؤمنين على غيرهم عرقية او دينية. وسبق المجتمع المتعايش المتثاقف قيام الدولة الحديثة فلا مناص من تقييد الدولة بواقع الاجتماع السوداني المتعدد والمتصالح غير المؤدلج. فحيثما اتجهت الذات الاسلامية الى فرض الاسلام على الملي والاحيائي استنفر هذا الآخر بمواطنيته الأقدم في افريقيا واستصحب برنامج ازاحة الاسلام عن السياسة والالتزام بالعلمانية او بالانفصال ملاذاً اخيراً، وكل هذه المواقف خسائر فادحة لتاريخ "العرب" في السودان: فالمواطنة لا تنشأ من العرق ولا الجهة. فالعرقية سواء قال بها مسلمون او غير مسلمين هي مرض قديم ناسخ لاستواء البشر وهي استرقاق واستعلاء. فالهوية ليست مشروعاً ايديولوجياً ولا مصالح سياسية بل هي أساس نابع من القيمة الانسانية وتفاعل الانسان مع الجغرافيا والدين والتاريخ أي مفردات الثقافة. ولا يمكن تبعيض النحن السودانية الى مفرداتها ومكوناتها الأولى. فالمواطنة ليست بالضرورة نابعة من الدين لأنها سبقته انطولوجياً ولكن الموقف من الدين اسلمة او علمنة يلقي بظلاله على الهوية سلباً وإيجاباً. ان استواء كافة السودانيين امام دولة المواطنة وامام الدستور والقانون بازاحة العقلية التي تجيز صلاة الغائب سياسياً وتفرز الغول الناسخ والاقصائي تغدو من اولويات اعادة الاعتبار "لتعددية" السودان الواقع والمجتمع والدولة، وإلا أفلت الدولة لسيرها ضد منطق التاريخ لا سيما في عصر الهويات والتعدديات والعولمة. * ديبلوماسي سوداني سابق.