إن احدى وسائل استشراف التحدّيات التي تواجهها الديبلوماسية الأميركية في القرن المقبل، هو القول بأن العام 2000 قد يصادف منتصف القرن الأميركي، وهي فترة بدأت مع انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية وشملت الحرب الباردة وإعادة بناء المانيا واليابان، وقيام كتل تجارية عالمية جديدة ساهمت في إحداث ازدهار لا سابق له في أمّتنا، ثم سقوط الاتحاد السوفياتي وتحوّل السياسة الخارجية الهادفة والشاملة والمركّزة الى فترة يمكن نعتها ب"الارتباك"، في محاولتها معالجة عدد من الصراعات العرقيّة دون الأخرى، والسعي الى كبح بعض الحكّام الديكتاتوريين دون الآخرين، وسعيها المستمر الى تلمس أشكال المواضيع والمهمات الجديدة التي ستحدّد منزلتنا في هذا العالم. نظريات عديدة ظهرت، كالقول بنهاية التاريخ، والنظام العالمي الجديد، وصراع الحضارات، وانتصار الرأسمالية وعلم الأسواق المالية كما يطرحه دانيال يرغنيز في كتابه الممتاز "القمم السناهية"، هذه التحاليل كلها تحمل شيئاً من الحقيقة، لكن أيّاً منها لا تُمسك أو تُقدّم رؤية إكراهيّة للقرن المقبل. الأسس المتهالكة لأهداف السياسة الخارجية الواقع أنه مع زوال منافسه العالمي وتجريد الشيوعية من إيديولوجيتها السياسية، ليس ثمّة تهديداً حقيقياً ورئيسياً للأمن القومي الأميركي حالياً، وبالتالي انصرف الكثير، بل ربما غالبية الأميركيين الى المسائل المحلية، مع اهتمام متقطع بالساحة الدولية. ورغم أن قضية كوسوفو احتلّت شاشات التلفزة في الأسابيع الماضية، فقد مرّت أيام عديدة في السنة الماضية لم يتابع الأميركيون فيها حدثاً دولياً واحداً في نشرات الأخبار. ومع أن المساعدات الخارجية الأميركية هي الأدنى بين الدول الصناعية الكبرى، نسبة الى اجمالي الناتج المحلّي أو الى الموازنة الاتحادية، إلاّ أنها تشكل باستمرار أحد مجالات الانفاق العام الأقلّ شعبية حسب استطلاعات الرأي. كما أن الغموض يكتنفها، ذلك أن العديد من الأميركيين يفترضون أن برامج المساعدات الخارجية تشكّل نسبة 10 في المئة أو أكثر من مجموع الانفاق العام، والواقع أنها لا تتعدّى نسبة واحد في المئة وهي في تراجع مستمر. والأمر ينسحب على موازنتي وزارة الخارجية والسلك الخارجي، اللتين تقلّصتا في السنوات الخمس الفائتة. قبل أشهر قليلة، تعرّضتُ لتجربة قاسية إذ اتصلت بعائلة أحد الأميركيين الذين قُتلوا بعد قيام الإرهابيين بتفجير سفارتنا في نيروبي. كان واحداً من مساعدي في القاهرة، ورجلاً رائعاً، يحمل إجازة في الاقتصاد الدولي واللغات الأجنبية، ويجيد العزف على الترومبيت. وسنواجه صعوبة في إيجاد البديل عنه في الظروف الحالية. حين سقط الاتحاد السوفياتي، كانت الولاياتالمتحدة مُصيبة في إيلائها الأهمية اللازمة لفتح سفارات لها في الجمهوريات المستقلة الأربع عشرة الجديدة، لكن الكونغرس لم يوفّر اعتمادات جديدة لهذا الأمر. فكان على وزارة االخارجية أن تأخذ من اليد اليمنى لتُعطي اليد اليسرى، في سعيها لجمع فريق عمل وتأمين اعتمادات محدودة لفتح هذه المراكز. ولم تعد دراسة اللغات الأجنبية تحظى بالأولوية نفسها في صفوف صغار موظفي السلك الخارجي. فعلى سبيل المثال، ستجد الحكومة نفسها عاجزة عن إيجاد موظّفين يتحدثون بطلاقة اللغة الفارسية فيما لو أبدت ايران استعداداً مفاجئاً للحوار. وما ينطبق على السلك الخارجي ينسحب بدرجة أعمق على أجهزة الاستخبارات التي أنفقت مبالغ طائلة على مجموعة من الأنظمة غير الفعّالة كالأقمار الاصطناعية المخصّصة للتجسّس، على حساب إعداد اختصاصيين مؤهلين للقيام بمهام عملانية في المجتمعات والثقافات الأخرى. لذا، ففي منتصف "القرن الأميركي"، يمكننا القول إننا نجحنا في تجنّب الحرب النووية وفي البقاء أحياء في صراع الشرق والغرب. لكن لا يمكننا الاتكاء على أمجادنا، إذ بالكاد شرعنا في معالجة المشاكل التي تعصف بعالمنا الذي يصغر شيئاً فشيئاً: زيادة السكّان وتقلّص المساحات المأهولة، ندرة المياه، الاحتباس الحراري والأشكال الأخرى من التلوث البيئي، التفاوت المتعاظم بين الدول الغنية والفقيرة، انتشار أسلحة الدمار الشامل وبعض الأطراف المخيفة جداً تكاد تملك السلاح النووي، الإرهاب الدولي، النزاعات العرقية الخ... ثمّة تحديات هائلة في الأفق فيما الولاياتالمتحدة ليست على أتمّ الاستعداد، ولسنا نحن كذلك، للعب دور قيادي في معالجتها. تعاني السياسة الأميركية مخاضاً عنيفاً حالياً، فالرئيس نجا من اجراءات العزل لكن ليس من أجواء الحزبية الحادة التي تميّز النقاش السياسي في العاصمة الأميركية، في وقت يعجز الجمهوريون والديموقراطيون عن الاتفاق، واقعياً، حول أيّ من المسائل المطروحة للنقاش. تُرى، هل أن "القرن الأميركي" سينتهي في وقت أسرع مما نعتقد؟ التحدّيات في الشرق الأوسط وكأن النقص في الاستعدادات الأميركية لاستقبال العام 2000 لا يكفي، فإن القاء نظرة سريعة على العالم يكفي للتيقّن من أن القرن الجديد لن يكون مفروشاً بالورود بل مُثقلاً بالمعضلات والأزمات. ولن يكون ثمّة فترة راحة. ففيما بدأ العد العكسي لحلول الألفيّة الجديدة تجتاح الأزمات مناطق كثيرة في العالم، كالمواجهة العنيفة في كوسوفو، والأزمة الاقتصادية المستمرة في آسيا وروسيا، والحروب الأهلية العديدة المشتعلة في أفريقيا، وكلها تحظى بالمتابعة اللازمة، لكن منطقة الشرق الأوسط قد تُشكّل المعضلة الأكثر استعصاء على الحلّ. فالعامان 1997 و1998 كانا سيِّئين على المنطقة، والعام 1999 ليس بأفضل حال. فمحادثات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين لا تزال في طريق مسدود، يُعزّزها أجواء عدم الثقة المتبادلة السائدة، والأطراف الراعية لمسيرة السلام توقفت عن التجذيف واكتفت برفع الماء من السفينة لتبقى عائمة فقط. إيران، ورغم ارسالها اشارات خادعة حول التحوّل الداخلي، لا تزال تكدّس أسلحة الدمار الشامل، وعلى معارضتها للسلام العربي - الإسرائيلي، وسعيها للهيمنة على منطقة الخليج. وتتواصل المجازر بحق المدنيين في الجزائر. كما هدّدت التجارب النووية الهندية في العام الفائت، والتي لم يكن بدّ من أن تليها تلك الباكستانية، بقيام أجواء جديدة من عدم الاستقرار في منطقة جنوب آسيا، وسبّبت قلقاً عاماً في الجانب الغربي، مُحبطةً الى الأبد ربما الأمل في رؤية الشرق الأوسط منطقة خالية من النزاع النووي، الى ذلك، ان جهود مكافحة الإرهاب والاحتمالات المتصاعدة شيئاً فشيئاً لحصول الإرهابيين على أسلحة للدمار الشامل تتركّز بشكل واسع في منطقة الشرق الأوسط، تكفي الإشارة الى الإحصاءات التي ينبغي عدم إغفالها، والتي تؤكد أن الشرق الأوسط هي المنطقة الوحيدة في العالم حيث تواصل الترسانة المحلية من الأسلحة تضخمها بدل أن تتقلّص، وغالبيّتها من الولاياتالمتحدة. إن الحضور المستمر للإسلاميين المتطرفين، ونزوعهم الى العنف وعداءهم للغرب، يشكّل مجالاً آخر للقلق. الى ذلك، فغياب المُحاسبة والمُساءلة في الأنظمة السياسية هو الأكثر تجذّراً في الشرق الأوسط، وهو ما يُفاقم من تفشّي الفساد ومُعضلات المُساءلة في مجتمعاته، فالتلوّث البيئي، والنقص في المياه، والنِسَبْ العالية من النمو السكاني تطرح تحديات جديدة في وقت يؤدّي تراجع الطلب على النفط واستمرار توفّر كميات فائضة منه الى إرهاق ميزانيات الدول المنتجة، فيما أصبح قادة المنطقة طاعنين في السن. كما تُواصل الحكومات مقاومتها الدعوات الى حصول انفتاح سياسي واقتصادي أكبر. وفي العراق، لا يزال نظام صدّام حسين الذي دحض كل التوقعات بسقوطه بعد حرب الخليج، يقبض على السلطة، تكويه نار الانتقام، وينهب الشعب العراقي الذي مضت سنوات طويلة على معاناته، ويواصل تحدّي قرارات مجلس الأمن الدولي، ولا يوحي بإمكان التعويل على أيّ اتفاق جديد حول أعمال التفتيش والمراقبة، أكثر من الوعود السابقة المُجهضَة. يُشكل العراق، في نواحي معينة، صورة مصغرة عن تحديات السياسة الخارجية للسنوات المقبلة: انتشار الأسلحة النووية وأسلحة مُرعبة أخرى، مهاجمة الدول المُجاورة الضعيفة، تحدّي الأممالمتحدة، دولة تحتل المرتبة الثانية في حجم احتياطها النفطي بعد المملكة العربية السعودية، وبالتالي غنيّة جداً بما يكفي لتمويل أحلامها في الهيمنة، ويحكمها ديكتاتور أوحد لا مكان لمعارضته أو لمناقشته داخلياً مما قد يجنّب البلاد قرارات خاطئة. وهو يبدو مُصمّماً على التمسك بالسلطة بكل الوسائل الممكنة، كالاغتيال، والتعذيب، والتهويل، والعقاب الجماعي، والإرهاب، وحتى استخدام الغاز السام ضد مواطنيه. لنُلقِ نظرة مفصلة أكثر على كيفية معالجة الولاياتالمتحدة هذا الوضع الخطير. التعامل مع العراق ان نقطة الانطلاق لواضعي السياسة الأميركية الذين يتعاطون الشأن العراقي هي في الإقرار بأنه، إذا ما حدثت معجزة ورُفِعَتْ العقوبات عن العراق غداً، فسيعود فوراً الى لعبة التسلّح مجدداً، ان لم يكن قد بدأ ذلك فعلاً، مُعيداً بناء قواته العسكرية وإحياء برامجه النووية والكيماوية والبيولوجية. من هنا، يسهل توقّع أن يعمد الجيش العراقي مجدّداً الى حشد قوّاته على الحدود الشمالية للكويت والأسوأ من ذلك، أن تعمد بغداد الى التهويل على جيرانها الخليجيين مهددةً بالسلاح البيولوجي، الذي لا يتعدّى حجمه حجم برتقالة أو قبضة يد، قد يؤدي القاؤه الى تدمير مدن خليجية عدّة، يستتبع هذا الإقرار منطقياً بأن السياسة الوحيدة التي يُمكن للولايات المتحدة اتّباعها هي في الاحتواء المُحكم قدر الإمكان للقوّة العراقية القادرة على زعزعة الاستقرار، إلى أن يتمّ تشكيل حكومة جديدة، لا أحد يعلم تماماً متى يتم تشكيلها، ولكن قد يكون بإمكان الولاياتالمتحدة القيام بإجراءات تُساعد على التعجيل في حدوثها. تلتزم الولاياتالمتحدة في سياستها الخارجية بعقيدة مُصيبة وراسخة تقضي بعدم المشاركة في محاولات لاغتيال زعماء أجانب، لكن الأمر سيَّان في ما يتعلّق بصدام حسين الذي تؤمّن له الأجهزة الأمنية المتشابكة حماية جيدة، ودرجة عالية من الحذر، وغريزة البقاء، وهي الحاسة السادسة التي يشعر من خلالها بشكل أو بآخر بتآمر أحد المحيطين به للانقلاب عليه، أو ربما مجرّد قيامه بالتفكير بذلك، فيتم إعدام ذاك الشخص أو تلك المجموعة على الفور. شكّل الاحتواء السياسة الرسمية التي اعتمدتها الحكومة الأميركية إزاء العراق منذ نهاية حرب الخليج في العام 1991، وأصابت نجاحاً في تحقيق هدفها الرئيسي، وهو احتواء وإضعاف الجيش العراقي وردعه عن القيام بأي هجوم خارجي جديد. منذ العام 1991، فشل الجيش العراقي في الحصول على نظام تسلّح جديد واحد، فقادته الحيلة الى تفكيك مخزونه الهائل القائم من الدبابات والقطع العسكرية وناقلات الجند المدرّعة واستخدام أجزائها كقطع غيار لإصلاح معدات عسكرية أخرى، وذلك للمحافظة على فاعلية هذه الآلة العسكرية الضخمة، غير أن مجموع القدرات العسكرية العراقية تراجع عما كان في العام 1990 في خلال اجتياح الكويت، وبخلاف هذا الجانب الناجح في السياسة الأميركية، يبدو الإدراك العام لما قد تحقّق أكثر سلبية، فصدام حسين لا يزال موجوداً، ولا يزال يُشكل تحدّياً وتهديداً، في الداخل العراقي وعلى مستوى المنطقة بأسرها على حدّ سواء. العقوبات الدولية أضعفت العراق، لكنها لم تنجح في إجهاض طموحاته، كما طُرد مُفتشو الأممالمتحدة. وهو قادر على افتعال أزمة ما ساعة يشاء، ففي العام 1998 افتعل أزمتين تركت انطباعاً لدى المراقبين بأنه انتصر أو أقلّه لم يخسر. هذه الأزمات أسقطت الولاياتالمتحدة في التردّد والحيرة في العام 1998، لتعود بعدها بسياسة أكثر حزماً لم تؤدِ بعد الى نتائج ملموسة. البعض يُطلق على هذه السياسة اسم "الاحتواء والإطاحة" أو "الاحتواء والاسقاط" أو ببساطة "الاحتواء المُعَزَّزْ"، والذي بدأت تتوضّح عناصره أكثر فأكثر. "الاحتواء المعزّز" يقوم "الاحتواء المعزّز" حالياً على إجراءات داعمة متبادلة وهي كالآتي: - أولاً، الإبقاء على وجود عسكري كبير في المنطقة، بالتعاون مع القوات البريطانية، وتعزيره بالمناورات العسكرية المتكرّرة مع دول "مجلس التعاون الخليجي" والدول الحليفة في المنطقة ومن خارجها، والتي ترمي الى المحافظة على الاستقرار في المنطقة والى حماية حريّة الملاحة. ان أولى المهام المرتبطة مباشرة بالعراق. التي تقوم بها هذه القوات هي في اجراء دوريات في مناطق حظر التحليق الجوي ومنطقة حظر المرور على أجزاء من الأراضي العراقية، ومُهمتها الاحتياطية هي في تعزيز فاعلية الإجراءات السياسية من خلال تقديم الدعم اللازم لها والتهديد باستخدام القوة العسكرية وبردع أي هجوم عسكري عراقي، جديد. - ثانياً، البقاء على أهبة الاستعداد لمواجهة المراحل الأخرى للتحدّي أو الاستفزاز العراقيين، من خلال قصف القوات العسكرية والأمنية للنظام العراقي ولكن كذلك قدرته على إحياء برامج تطوير أسلحة الدمار الشامل دون العودة الى مجلس الأمن الدولي. والأمر لا يعني إبقاء اليد على الزناد، بل البقاء على استعداد للتحرك في مواجهة أي استفزاز، كما يجري في الهجمات المضادة الجارية على مواقع صواريخ عراقية تتعقب الطائرات الأميركية والبريطانية التي تقوم بدورية في مناطق حظر التحليق الجوي، أو في الاستخدام المزدوج لتقنية الاتصالات، ذلك لا يشمل استخدام قوات بريّة سوى لصدّ هجوم عراقي محتمل، ورغم أن الأميركيين يُدركون حجم التهديد الذي يمثّله عراق صدّام للدول المجاورة ولامدادات النفط العالمية وربما كذلك للولايات المتحدة مباشرة في حال نجح في تطوير ونشر أسلحة نووية أو بيولوجية، فليس ثمّة دعم حقيقي في الولاياتالمتحدة نفسها لإرسال قوات بريّة للقتال هناك. - ثالثاً، دعم القرار رقم 986 حول برنامج "النفط مقابل الغذاء" الذي ينصّ حالياً على بيع كمية من النفط بقيمة 2،5 بليون دولار مرة كل ستة أشهر وهو ما يتعدّى بكثير قدرة التصدير العراقية حالياً واستخدام المبلغ هذا، بعد حسم نفقات الأممالمتحدة، في استيراد المواد الغذائية والطبية وقطع الغيار للاستعمال المدني والمعدات الخاصة بالإنتاج النفطي، تحت اجراءات تفتيش ومراقبة معتدلة، يهدف ذلك الى تعزيز التضامن بين دول التحالف من خلال الاستجابة الى الالتماس بألا يُحرم الشعب العراقي من الحاجات الإنسانية الأساسية بسبب تصلّب حكومته ولنزع ورقة "معاناة النساء والأطفال" من يد العراق. - رابعاً، دعم وقف إطلاق النار والمصالحة السياسية بين الفصائل الكردية في شمال العراق للحؤول دون عودة سلطة بغداد الى تلك المنطقة، وفي الوقت نفسه دعم وحدة وسلامة الأراضي العراقية ومواجهة احتمال قيام دولة كردية عراقية مستقلة. - خامساً، دعم "إذاعة العراق الحرّ"، والسعي الى بث أنباءٍ غير متحيزة الى العراق. - سادساً، تشجيع فصائل المعارضة العراقية المتناحرة في الخارج على تحقيق شيء من الوحدة والفاعلية وعلى تعزيز مساهمتها في تأمين الظروف المساعدة لحدوث تغيير في العراق، هذا أحد العوامل التي لا تزال في طور الاعداد، لكن اجتماعاً أخيراً مع قادة مجموعة من فصائل المعارضة في لندن أظهر أن الولاياتالمتحدة تقوم بسحب دعمها للفكرة هذه. - سابعاً، الاستعداد لتقديم معدّات عسكرية من المخزون الأميركي بقيمة 97 مليون دولار الى فصائل المعارضة العراقية بموجب "قانون تحرير العراق"، إذا ما كانوا في موقعٍ يؤهّلهم للاستفادة من هذا الدعم. وقد حُدِّدت سبع فصائل مؤهلة لتلقي المساعدات، وفيما يشكّل مبلغ 97 مليون دولار مجرد نقطة في بحر، فإن مبالغ إضافية ستُصبح متوفرة إذا ما تشكّلت قوة مقاومة حقيقية. - ثامناً، مواصلة البحث في سبل تقديم الرئيس صدّام حسين ونحو 12 مسؤولاً عراقياً كبيراً لمحاكمتهم بتهمة القيام بجرائم حرب أمام محكمة جنائية دولية. كذلك تكتسب العناصر المتعددة الجوانب في السياسة الأميركية أهمية بالغة. فواشنطن لا تزال تُصر على الالتزام الكامل للعراق تنفيذ شروط قراريّ مجلس الأمن الدولي 687 و688 وعلى الإبقاء على العقوبات المنصوص عليها في الفصل السابع الى أن يُقرّر مجلس الأمن تحقق الإلتزام الكامل. كذلك تواصل واشنطن دعمها لنظام التفتيش الذي تقوم به "أنسكوم"، ويهدف الى تحقيق أمرين أساسيين: كشف وتفكيك البرامج العراقية السابقة بأكملها لإنتاج أسلحة الدمار الشامل، بينها كل تلك المخبأة في المستودعات، والإبقاء على نظام مراقبة قادر على اكتشاف أية محاولة لإعادة إحياء هذه البرامج. في الوقت نفسه، تعترف بأن المعلومات التي كُشفت حول قيام الأميركيين والإسرائيليين باستغلال نظام التفتيش الدولي لجمع معلومات استخباراتية حول العراق من شأنها إعاقة تجديد مهمة "أنسكوم" كوسيلة تفتيش فعّالة. هذه المجموعة من الإجراءات والمواقف تحظى بالدعم اللازم في الإطار السياسي السائد في واشنطن. فهي، واقعاً، تُشكّل التكتيك المعتاد الذي يعتمده البيت الأبيض للتغطية جزئياً على خط جمهوري يميني أكثر تشدداً وتحتل قلب المشهد السياسي الأميركي. وعليه، فالأمر جدير بالثقة ويحظى بالإستمرارية اللازمة في الداخل. هذه السياسة الجديدة تكاد تمرّ من دون أيّ إثارة إعلامية، وهو ما يريح واشنطن إذ أنها سياسة طويلة الأجل، وليست سياسة تُعالج الأزمة تلو الأخرى، ويبدو كذلك أنها أربكت صدّام حسين، الذي بدأ بارتكاب الأخطاء، فأنحى باللائمة على الزعماء العرب الآخرين بحجّة عدم مساندته، ورفض التعاون مع مجلس الأمن الدولي فيما كانت الدول الأعضاء تناقش التوصيات التي قدّمتها ثلاث لجان انكبّت على مراجعة الوضع في جوانب عديدة منذ عملية "ثعلب الصحراء"، في كانون الأول ديسمبر الفائت. والعالم أجمع تقريباً يحمّل العراق مسؤولية طرد مفتشي الأممالمتحدة وعدم تنفيذ قرارات الأممالمتحدة. أما الدول التي يُزعم أنها تدعمه في مجلس الأمن، كروسيا والصين وحتى فرنسا، فهي تواجه حرجاً في محاولة الدفاع عن سلوكه، في وقت يحمّل الجميع صدّام حسين المسؤولية الكاملة عن المأزق الذي سقط فيه العراق حالياً. والولاياتالمتحدة بإمكانها أن تبقى هادئة وأن تتحلّى بالصبر، ولكن في الوقت نفسه تمارس ضغوطاً جادة على نظام بغداد بكل الوسائل التي ذكرتها أعلاه، في وقت تحتل قضية كوسوفو عناوين الصحف ووسائل الإعلام الدولية، وهي أزمة تقدّم أوجه شبه مثيرة للاهتمام مع قضية العراق ولكن كذلك أوجه اختلاف كثيرة. كوسوفو تمثل كوسوفو بقيادة سلوبودان ميلوشيفيتش تهديداً أقل للمصالح الاميركية من العراق بقيادة صدام حسين. فالبلقان ليس منطقة حيوية للاقتصاد العالمي كما هو الخليج باحتياطه الضخم من النفط والغاز، وصربيا لا تهدّد باجتياح دولة مجاورة. كما فعل العراق حين ابتلع الكويت وهدّد دول "مجلس التعاون الخليجي". وصربيا لا تسعى الى تطوير اسلحة نووية وبيولوجية، وهي دولة فقيرة نسبياً يبلغ عدد سكانها عشرة ملايين ونصف المليون نسمة في محيط من الدول الفقيرة كذلك نسبياً. اما العراق، فهو دولة غنية يبلغ عدد سكانها 22 مليون نسمة في محيط من الدول الغنية كذلك. والتهديدات التي تطرحها كوسوفو خطيرة ومأسوية لكنها ليست حيوية للمصالح الأمنية القومية للولايات المتحدة. والأزمة اندلعت بسبب الفظاعات المستمرة التي ارتُكبت بحق مسلمي كوسوفو والنزوح المستمر للاجئين الى الدول المجاورة. وقد ارتكب النظام العراقي فظاعات شنيعة مماثلة بحق الشيعة في الجنوب والاكراد في الشمال، شملت استخدام الغازات السامة في بلدة حلبجة. والعامل الآخر الذي دخل ازمة كوسوفو حالياً، هو ان صدقية الدول الغربية والولاياتالمتحدة قد تتعرض للاهتزاز اذا ما بدا ان حلف الاطلسي يوشك على الفشل او التراجع في مهمته، وهو تهديد سيؤثر في قدرته على التعامل مع ازمات اخرى في اماكن اخرى في المستقبل. وتلعب وسائل الاعلام دوراً اكثر اتساعاً بكثير في كوسوفو منه في العراق، حيث منع جنون الارتياب العراقي تغطية المعاناة الانسانية التي يتابعها الاميركيون حالياً كل مساء على شاشات التلفزة. الحاجة الى مقاربة متعددة الجوانب لا يمكن للاميركيين الاستكانة الى دورهم الراهن او الاعتقاد بإمكانية ان يعملوا في شكل احادي الجانب في اماكن مختلفة حول العالم. وهنا أصل الى النقطة الاخيرة، فالولاياتالمتحدة لا يمكنها ان تتوقع ان تقود سياسة خارجية ناجحة في القرن المقبل دون الالتفات الى آراء الامم الاخرى وإدراك ان غالبية التحديات الخطيرة التي ستواجهها على المسرح الدولي ستستدعي مقاربة متعددة الجوانب. فلكونها الدولة العظمى وبسبب تركيز اهتمامها بشكل رئيسي على المسائل الداخلية، انسلّ حالياً اندفاع احادي الجانب الى السياسة الخارجية للولايات المتحدة، فهي لم تدفع المستحقات المتوجبة عليها للأمم المتحدة، وأدت قرارات اتخذها الكونغرس، كقانون هيلمز - بورتون الخاص بكوبا وقانون العقوبات على كل من إيران وليبيا، واللذين عمّمهما القانون الاميركي على الشركات الاجنبية التي تتعامل مع دول ككوبا وإيران وليبيا بما لا يروق للكونغرس الاميركي، ادت الى احداث توتر في العلاقات بين الولاياتالمتحدة وأوروبا وكندا، وهما اقرب الحلفاء اليها، بدل التأكيد على تعاونهما في مواجهة الاهداف المراد تحقيقها. الولاياتالمتحدة في حاجة الى اصدقاء حول العالم وفي حاجة الى الاصغاء الى وجهات نظرهم بالدرجة نفسها التي تضع فيها مشاريعها الخاصة. فالدول الاخرى لا تنسجم دوماً مع واشنطن لكنها تدرك حجم قوتها الاقتصادية والعسكرية وتسعى الى ان تقوم الولاياتالمتحدة بدور فاعل في معالجة الازمات العالمية، وليس ان تتقوقع على نفسها، فهي ترغب في ان تحتل الولاياتالمتحدة موقع القيادة، وليس ان تُملي سياستها على الآخرين. لا شك ان الحكومة الاميركية يجب ان تحتفظ لنفسها بحق التحرك بشكل احادي الجانب اذا ما استدعت مصالحها القومية ذلك، لكن ثمة حاجة الى اكبر قدر من التعاون الدولي في مواجهة مسائل وتحديات رئيسية في السنوات المقبلة، كمعالجة النزاعات العرقية، ومكافحة الارهاب الدولي، والحد من انتشار اسلحة الدمار الشامل، ومحاربة تجارة المخدرات، ومنح الشركات الاميركية امكانية التحرك في شكل تنافسي عادل في الاسواق العالمية، وحماية الصحة والبيئة المحيطة بالانسان، لدي نصيحة بسيطة. لندفع المستحقات المتوجبة علينا للامم المتحدة، والمتوجب علينا في زيادة الحصص في صندوق النقد الدولي، ولنقيّد لجوءنا الى فرض حصارات وعقوبات احادية الجانب، وتسخيرنا الدعم الذي يقدمه الاصدقاء والحلفاء لتحقيق الاهداف المشتركة وفي الوقت نفسه التمسك بقيمنا الخاصة كأمة حرة وكشعب حر. ان التوقف عن التفكير في كل هذا، هو الوسيلة الوحيدة للنجاح في مواجهة تحديات القرن المقبل. * مساعد سابق لوزير الخارجية الاميركي لشؤون الشرق الاوسط، حالياً شريك في مكتب المحاماة الدولي AFIDI & ANGEL.