تصدر مجلة "الشؤون الخارجية Foreign Affairs" الاميركية عن "مجلس العلاقات الخارجية"، وهو هيئة أهلية تعنى بشؤون السياسة الخارجية الاميركية، لكنه يوصف عادة بأنه ذراع الكونغرس، مهمته إثارة الجدل والنقاش وتنظيمهما حول هذه الشؤون. على غلاف العدد الأخير من هذه المجلة، الأول لهذه السنة، عنوان يحتل مكان الصدارة، يتساءل: "هل الإطاحة بصدام ممكنة". أما المقال الذي يحمل هذا العنوان فقد كتبه ثلاثة، واضح في تعريف المجلة بهم ان لكل منهم صلته الوثيقة بمجال الأمن القومي الاميركي، دانييل بايمن، محلل سياسي في "راند كوربوريشن" وهي هيئة أبحاث في الشؤون الدولية مع تركيز خاص على الأمن، ومعروفة بصلاتها العميقة بمؤسسة الأمن القومي الاميركية. كينيث بولاك، استاذ بحث في جامعة الدفاع القومي التابعة لوزارة الدفاع. جدعون روز، مدير دراسات الأمن القومي في مجلس العلاقات الخارجية نفسه. وكالعادة، يحاط التعريف بالكُتاب بتحفظ أنهم يعبرون عن آرائهم الشخصية. لكن هذا لا يعفي شخصية هذه الآراء من كونها ترفد الجدل الدائر في المؤسسة الرسمية حول مستقبل السياسة الأميركية تجاه العراق، وأنها تنبني على معرفة دقيقة ووثيقة بمعطيات هذا الجدل. المقال - في مجمله مرافعة قوية ومشحونة ضد الخط الذي تروجه السياسة الاميركية في هذا الشأن: ان هدف هذه السياسة لا يقف عند حد ما أجازته الأممالمتحدة، أي تجريد العراق من أسلحة الدمار الشامل ومن امكان حيازتها في المستقبل، انما يتجاوزه الى الاطاحة بالنظام العراقي، وان الطريق الى تحقيق هذا الهدف هو الاعتماد على المعارضة العراقية، أي استخدامها وتقديم العون لها لأداء هذه المهمة واقامة نظام موال للولايات المتحدة في بغداد. وهو الهدف الذي يتوخاه "قانون تحرير العراق" الذي أقره الكونغرس في الخريف الماضي، وقضى بتخصيص 97 مليون دولار اميركي لتقديم الدعم العسكري للمعارضة العراقية. ويشير المقال الى ان البيت الأبيض لم يكن في البداية متحمساً لهذا القانون، لكنه لم يلبث ان تبناه بحماس بعد الأزمة التي نشبت بين العراق وبين لجنة التفتيش على التسلح أونسكوم في تشرين الثاني نوفمبر الماضي. لا يتفق كتاب المقال لا مع الحكومة ولا مع الكونغرس، لا على الهدف ولا على وسيلة التحقيق، لكنهم يركزون على الوسيلة، أي استخدام المعارضة العراقية، أو الاعتماد عليها، ذلك ان أساس معارضتهم هو اعتقادهم ان الوسيلة غير مجدية، بل وخطرة على المصالح الاميركية ذاتها. ولذلك لا يدخل المقال في محاججة هذا الهدف، انما ينشغل بتفنيد كل من الصيغ الثلاث التي تتداولها الجهات الاميركية المعنية لتحقيقه. وتستحق تلك الصيغ والحجج التي يسوقها المقال تفنيداً لكل منهما، الإهتمام لكن ما يستحق النظر ويستدعي التدبر هو البديل الذي يطرحونه. ويتلخص ذلك البديل في الاختيار بين استراتيجيتين تقومان على مبدأ "الاحتواء" ذاته. وضمنياً، يحذر المقال من احدى هاتين الاستراتيجيتين لارتفاع كلفتها الديبلوماسية وثقل عبئها على مصالح السياسة الخارجية الاميركية، وضمنياً ايضاً يحبذ الاستراتيجية الأخرى. الاستراتيجية التي يرد عليها التحذير، تتلخص في استمرار "استراتيجية" الاحتواء المعمول بها منذ حرب الخليج في 1991، مع تقويتها بعد ان حلت بها عوامل التحلل، وظهرت عليها معالم الوهن. أما الاستراتيجية التي تحظى بالتمييز، فتقوم على ما يوجزه المقال في أن "تنهي الولاياتالمتحدة العناصر التي تفتقر الى الشعبية في نظام الاحتواء الحالي، في مقابل تفويض شامل من مجلس الأمن الدولي بضربات في المستقبل ضد صدام ترمي الى وقف برامجه لأسلحة الدمار الشامل، وتمنع بنياناً عسكرياً تقليدياً خطراً". وعلى رغم ان هذه الاستراتيجية الثانية تبدو أكثر ليناً ورحمة، فإن من تحت سطح ظاهرها ما يجعلها أكثر خطورة على مستقبل العراق - البلد وليس النظام. يسمي المقال السياسة الاميركية الجديدة تجاه العراق "الطي بدلاً من الاحتواء"، أي طي بساط سلطة النظام العراقي بدلاً من احتوائه. ويستعرض كتاب المقال بسخرية غير خفية الحماس الذي اشتعل في واشنطن لفكرة "اسقاط صدام"، ولكي ينبهوا الى ان أي سياسة ترمي الى تحقيق هذا "الطي" يجب ان تجتاز اختبارات ثلاثة: الجدوى العسكرية، القبول من حلفاء الولاياتالمتحدة الذين تحتاج لمعونتهم لتنفيذها، وقبول الجمهور الاميركي. ويحذرون من ان محاولة الانتقال من "الاحتواء" الى "الطي"، قد تكون غلطة فظيعة "تؤدي بسهولة الى قتل الآلاف دون ضرورة". بعد ذلك، ينتقل المقال الى عرض الصيغ الاستراتيجية المتداولة وتفسيرها. الصيغة الأولى: الاعتماد على القوة الجوية تقوم هذه الصيغة على تحالف بين الولاياتالمتحدة والمعارضة العراقية في حملة عسكرية حاسمة ضد النظام العراقي. ويرى المقال ان عيب فكرة الخطة ان العبء الأكبر في تنفيذها يقع على الولاياتالمتحدة، ومن دون ضمان النجاح. فالخطة تقتضي ان تساعد الولاياتالمتحدة المعارضة العراقية على تجنيد وتدريب وتجهيز عشرات الآلاف من الجنود لحرب تقليدية محدودة. وعندما يصبح جيش المعارضة جاهزاً للنزول الى الميدان، تشن الولاياتالمتحدة هجوماً جوياً هدفه إبادة التشكيلات القتالية العراقية وشبكة الاتصالات وشبكة الخدمات الميدانية ومراكز القيادة والسيطرة، ومواقع المؤخرة، بعد ذلك تزحف قوات المعارش ة لتجبر قوات صدام على التجمع للمعركة، فتصبح أكثر تعرضاً للتدمير من الجو، ومع تراجع قوات صدام أو تشتتها تحتل المعارضة المزيد من الأراضي، الى ان تدخل بغداد من دون عائق يذكر، حيث تقيم نظاماً جديداً. ويرى كتاب المقال في هذه الصيغة ميزتان: الأولى هي اقرارها بأن إلحاق الهزيمة بقوات صدام صعب، وان المعارضة العراقية لا تستطيع القيام بهذه المهمة من دون دعم عسكري اميركي واسع، والثانية انها قد تكون مقبولة لدى حلفاء الولاياتالمتحدة. لكن مشكلتها عندهم، انها تحتاج الى حملة جوية اميركية ضخمة، من دونها يكون انتصار المعارضة غير محتمل. صحيح ان القوة العسكرية العراقية أصبحت محدودة جداً، لكن هذا بالقياس الى القوة الاميركية أو أي قوة غربية أخرى، لكنها بالقياس الى القوات المفترضة للمعارضة العراقية قوة هائلة 400 ألف جندي، منهم حوالى 100 ألف من الحرس الجمهوري " 2000 دبابة " 2100 مدفع. والى ان تنفيذ هذه الخطة يستغرق شهوراً عديدة، الأمر الذي يستدعي حملة جوية مستمرة، ربما على نطاق يقترب من الحملة الجوية لسنة 1991. ويقدر المقال ذلك الحجم بما يبلغ 100 ألف طلعة جوية. كما يرى كتاب المقال، ان الجمهور الاميركي، مع معارضته نظام صدام، قد لا يؤيد عملية دموية شديدة ضد العراق، لا يرى لها تبريراً سوى الاحباط الاميركي في التعامل مع النظام العراقي، كما يشيرون الى ان كون الخطة تقوم على استيلاء قوات المعارضة على المدن، فإن هذا يتضمن ايضاً تحييد القوات الجوية الاميركية في هذه المعارك، حيث لن تطلق قذائفها على قوات النظام في المناطق المأهولة. وأخيراً، يحذر المقال من ان هذا الاعتماد الواسع والكثيف على القوة الجوية، قد يدفع صدام الى استخدام اسلحته الكيماوية والبيولوجية ضد الولاياتالمتحدة وحلفائها في المنطقة. وفي الخلاصة يحذرون من ان الاحتمال المرجح بخسارة المعارضة، سيضع الولاياتالمتحدة أمام اختيار صعب، ما بين ترك صدام "يزهو بنجاته"، وبين مواصلة الحملة الجوية العقيمة الحالية، أو إرسال القوات الاميركية لاحتلال بغداد. الصيغة الثانية: استراتيجية الجيوب تقوم هذه الاستراتيجية على ان الولاياتالمتحدة ستساعد "المؤتمر الوطني العراقي" للاستيلاء على "جيوب" كبيرة داخل العراق، كي ينطلق منها لاضعاف النظام. وببساطة يصف المقال هذه الاستراتيجية بأنها "خطة عسكرية سخيفة" وانه من شبه المؤكد "ان تؤدي الى تدخل عسكري اميركي مباشر" أو الى "حمام دم على نطاق واسع". والمفارقة المؤلمة ان الخطة التي توصف على هذا النحو، من اقتراح "المؤتمر الوطني العراقي" الذي يصف نفسه بأنه الإطار الجامع للمعارضة العراقية. أما قوام الخطة فهو ان تعلن الولاياتالمتحدة ان "المؤتمر الوطني" هو حكومة العراق الشرعية، وتضع تحت تصرفه الاموال العراقية المجمدة. هل هذا هو بيت القصيد؟ ثم تساعده على تنظيم قوات مشاة خفيفة سريعة الحركة تبلغ ما بين 12 الى 20 ألف جندي، معظمهم ممن خدموا في الجيش العراقي. ثم تقوم هذه القوات بغزو كردستان واحتلالها، وكذلك الأراضي العراقية الواقعة غرب الفرات وجنوب خط العرض 32 درجة. وتعلن هذه الأراضي "العراق الحر"، فترفع عنها الولاياتالمتحدة العقوبات الاقتصادية، وتستخدم قوتها الجوية للدفاع عنها، وبذلك تنحصر سلطة صدام في وادي الرافدين ومدينة بغداد وجزء من الشمال الغربي. وينسب المقال الى "المؤتمر الوطني" انه يعتقد أن هذه الاستراتيجية تؤدي الى تفكيك النظام، أو تبقيه تحت رحمة حملة عسكرية يشنها "المؤتمر" بمفرده. مآخذ كتاب المقال على هذه الخطة عديدة، على رأسها ما يرونه من تشابه بينها وبين خطة خليج الخنازير، غزو المعارضة الكوبية أراضي كوبا برعاية أميركية في 1962 - وأن النتيجة ستكون أيضاً مشابهة: اما التدخل العسكري الأميركي، واما ان تتفرج واشنطن على "ثوارها" وهم يذبحون. ومن المآخذ الأخرى انها خطة غير واقعية، فهي تتصور ان تسيطر قوات مشاة خفيفة يتراوح قوامها ما بين 10 الى 20 ألف جندي على جبهة يبلغ طولها حوالى 1000 كيلومتر، بينما المعدل في الجيش الأميركي، المتفوق تدريباً وتسليحاً، هو أن تسيطر قوة بهذا الحجم على خط جبهة يتراوح بين 15 و20 كيلومتراً. لكن المأخذ القاتل هو اشارة المؤلفين الى أن "المؤتمر الوطني العراقي" يحظى من التأييد على ضفاف "البوتوماك" النهر الذي يخترق واشنطن أكثر مما له على ضفاف الفرات. وأخيراً يشير المقال انه لكي تحظى استراتيجية "الجيوب" هذه ولو بقدر ضئيل من النجاح، يجب اثبات أحد افتراضين، أولهما: ان النظام العراقي وقواته المسلحة ستنهار ببساطة ما ان تواجه تحدياً جدياً، وثانيهما: ان قوات مشاة قليلة العدد ضئيلة الخبرة بالقتال يمكنها إلحاق الهزيمة بعدة تشكيلات عراقية ثقيلة. ويقرر كتاب المقال ان كلا الافتراضين خطأ. الصيغة الثالثة: الاستراتيجية الافغانية قوام هذه الصيغة هو تمرد عسكري على طريقة المجاهدين الافغان أو "الكونترا" في نيكاراغوا، أو الفيت كونغ في الهندالصينية. ومشكلة هذه الصيغة ان نجاحها يقتضي على وجه الضرورة وجود بلد مجاور صديق مستعد لتوفير قاعدة آمنة. وعبر استعراض لأوضاع الدول المجاورة للعراق، من الجغرافيا الى الطبوغرافيا، الى الكثافة السكانية في مناطق الحدود، الى الاستعداد السياسي لحكوماتها، يستخلص كتاب المقال ان هذا الشرط الضروري يستحيل توفيره الا بتعاون ايران، التي تقف الخصومة بينها وبين الولاياتالمتحدة دون احتمال مشاركتها. يضاف الى هذا ان حلفاء الولاياتالمتحدة الاقليميين، والذين لا يعارضون الاطاحة بصدام حسين ونظامه، بل يفضلون ذلك غير مستعدين لتحمل عبء حالة ممتدة من التوتر العسكري مع العراق. بل ان تركيا شريكة الولاياتالمتحدة في الحلف الأطلسي، تفضل بقاء صدام في السلطة، بل وقد أيدت جهوده لاستعادة السيطرة على كردستان العراق. الى هذا يحذر كتاب المقال من انه أثناء هذا "التمرد العسكري الممتد" والذي سيستمر بالضرورة لسنوات، قد صيغ في العراق انقلاب يقوده الجيش أو قوات الأمن، ولا أحد يضمن أن يكون النظام التالي موالياً للولايات المتحدة، أو ان العراق قد يغرق في حرب أهلية. وأن نتيجة الاستراتيجية الافغانية قد تكون فوضى أفغانية. ما هو البديل الذي يقترحه المقال؟ يقول كتاب المقال انه حيث ان الولاياتالمتحدة لا تستطيع ترتيب اسقاط صدام، ولا تستطيع قبوله في المجتمع الدولي، فليس أمامها سوى مواصلة السياسة الحالية: الاحتواء. لكنهم يلاحظون ان نظام الاحتواء الحالي ينهار، فالعقوبات الاقتصادية تتآكل، والعراق يخرج تدريجاً من عزلته، وهو ما سمح لصدام بإعادة بناء سلطته في الداخل. وعن طريق عدم التعاون مع "اونسكوم" استطاع الاحتفاظ ببعض برامج أسلحة الدمار الشامل، فإذا انتهت عزلته، سيعيد بناء قوته العسكرية. ويقرر كتاب المقال ان المطروح على الولاياتالمتحدة ليس هو التخلي عن الاحتواء في سبيل نظام أفضل، انما كيفية انقاذ الاحتواء. ويرون ان أمام واشنطن طريقان "لكل منهما ثمنه الباهظ". الأول هو المحافظة على الاحتواء بصيغته العريضة، أي بقاء العقوبات والتفتيش والغارات الجوية والعزل الديبلوماسي. لكنها لكي تحقق ذلك، عليها احياء التحالف المعادي لصدام، وهذا يستدعي أن "تشتري تعاون المجتمع الدولي" بما في هذا تعاون الصين وفرنسا وروسيا، بتنازلات تقدمها في مسائل أخرى في السياسة الخارجية، مثل توسيع الحلف الأطلسي وكوسوفو وايران والمعونة الاقتصادية والمستحقات المتأخرة للأمم المتحدة، كذلك عليها ان تنفذ تهديدها باستخدام القوة رداً على استفزازات صدام، وان تتخذ أي خطوة ضرورية لاجباره على الامتثال. اجمالا، يقول المقال، سيكون على الولاياتالمتحدة ان تضع العراق على رأس جدول أعمال سياستها الخارجية وأن تبقيها على هذا النحو للاجل المنظور، وان تنفق في هذا السبيل "رأس مال" ديبلوماسي كبير. اما الطريق الثاني، فهو ما يصفه كتاب المقال بأنه "التحول من احتواء عريض الى احتواء ضيق". ومقتضاه: ان توافق الولاياتالمتحدة على الغاء العقوبات الاقتصادية ومناطق الحظر الجوي وحظر السفر الى الخارج، في مقابل قرار جديد من مجلس الأمن الدولي، "يحرم على العراق إعادة برامج أسلحة الدمار الشامل والحصول على أي أسلحة تقليدية ذات قيمة مثل الدبابات والمدفعية والطائرات الحربية، أو المروحيات الهجومية". وللتأكد من تنفيذ هذه القيود، يجب أن ينص القرار على تجديد التفتيش وفرض رقابة شاملة على الواردات. مع "اعلان واضح بأن أي دولة عضو في الأممالمتحدة مسموح لها باستخدام الوسائل المناسبة لفرض الامتثال". ولقد يبدو هذا الاقتراح "مغرياً" للمشغولين بهموم "معاناة الشعب العراقي"، لكنه في حقيقته أخطر من كل ما فرض على العراق حتى الآن. فهو من ناحية، بحكم منطقه، يبقى قائماً الى أجل غير مسمى. فالنص الذي يقترحه كتاب المقال لا يربط بين ما يقترحونه من اجراءات، وبين أي شروط يجب على العراق أن يلتزم بها لكي ينتهي نظام الاحتواء المحدود. ومن ناحية أخرى، ان تنفيذ هذا الاحتواء المحدود، يعني ان يبقى العراق "بلداً مفتوحاً" الى أجل غير مسمى، محروماً حتى من وسائل الدفاع عن النفس، بينما يوفر القرار المطلوب من مجلس الأمن، لكل من يشاء "شرعية" استباحته. ولا يستثنى من هذا اعداء العراق وخصومه التقليديين. * كاتب مصري.