Patrick Denaud & Valژrie Pras. Kosovo - Naissance D'Une Lutte Armژe. كوسوفو: ولادة كفاح مسلح. L'Harmattan, Paris. 1999. 197 pages. "من سوء حظ البلقان أنها تنتج من التاريخ أكثر مما تستطيع استهلاكه". هذا الحكم الذي أطلقه ونستون تشرشل قبل أكثر من نصف قرن، لا يزال ساري المفعول من دون أي تقادم الى يومنا هذا، وربما على الأخص في يومنا هذا. فبرميل بارود البلقان، الذي به بدأت الحرب العالمية الأولى وبه انتهت الحرب العالمية الثانية، عاد يلتهب في نهاية القرن هذه في البؤرة الكوسوفية بعد أن أمكن إخماده قبل عدة أشهر في البؤرة البوسنية. وليس من الصعب ادراك العلاقة شبه السببية بين البؤرتين: فكلتاهما مأهولة بغالبية مسلمة - وهذا استثناء نادر في القارة الأوروبية منذ تصفية الاندلس الاسلامية - وكلتاهما تدفع أغلى الثمن لجنون العظمة القومية المحرك لمشروع "صربيا الكبرى". ومع ذلك فإن كوسوفو هي غير البوسنة. فهذه ما صارت بؤرة، بالمعنى البلقاني للكلمة، الا تحت وطأة الجغرافية بوصفها امتداداً للامبراطورية العثمانية. اما البؤرة الكوسوفية فأشد معاناتها من التاريخ. فالصراع في كوسوفو، قبل أن يكون كما هو في ظاهره اليوم صراعاً على الأرض وعلى الدين، هو أولاً صراع على التاريخ، أو بالأحرى صراع بين ذاكرتين تاريخيتين. الصربيون يقولون إن هذا التاريخ لم يبدأ الا في القرن السادس الميلادي عندما انداحت على البلقان آخر موجة من القبائل السلافية التي غزت على دفعات متتالية القسم الأعظم من أوروبا الوسطى والشرقية امتداداً من روسيا واوكرانيا ووصولاً الى بولونيا وتشيكوسلوفاكيا وصربيا. ويضيفون ان الألبانيين هم طارئون على هذا التاريخ. فمهدهم الأول هو في البانيا القفقاسية المعروفة اليوم باسم اذربيجان، ولم ترد أية اشارة الى تواجدهم في البلقان قبل القرن الحادي عشر، ولم يعرفوا أصلاً باسم الالبانيين الا ابتداء من عام 1271 عندما سماهم بهذا الاسم الملك الفرنسي شارل الانجواني الذي نجح في حينه في احتلال القسم الأعظم من الأرض التي تقوم عليها اليوم الجمهورية الالبانية. وفضلاً عن ذلك فإن الالبانيين المسلمين ما بدأت كفتهم الديموغرافية ترجح على كفة الصربيين المسيحيين الاورثوذكسيين في اقليم كوسوفو إلا على اثر موقعة "مرج الشحارير" عام 1389. ففي تلك الموقعة التاريخية الكبرى انهزم الصربيون أمام القوات العثمانية، وبدأت بالنسبة اليهم عذابات شتات شبيهة بتلك التي عرفها اليهود قبل 2000 سنة عندما سباهم نبوخذنصر وهدم هيكل القدس. والواقع ان الصربيين لا يترددون في ان يصفوا كوسوفو بأنه "قدسهم" ومحل ذاكرتهم الدينية والقومية معاً: فعدد ما ابتنوا فيها من كنائس وأديرة لا يقل عن ألف وخمسمئة، فضلاً عن انها كانت المقر التاريخي لبطريركيتهم، وفيها مقابر أجدادهم. ألبانيو كوسوفو يرددون هذه الرواية الصربية للتاريخ ويؤكدون انه ان يكن من طارئ على التاريخ الالباني فهم الصرب أنفسهم. فهم باعتراف مؤرخيهم لم يطأوا أرض كوسوفو قبل القرن السادس الميلادي، على حين أن أقدم تواجد معروف للالبانيين في كوسوفو يعود الى القرن الأول قبل الميلاد يوم كانت البانيا، ومعها اقليم كوسوفو، تشكل ولاية زاهرة وذات قدر من الاستقلال الذاتي من ولايات الامبراطورية الرومانية. وكانت تعرف يومئذ باسم ايليريا، نسبة الى سكانها الايليريين الذين هم الأسلاف الحقيقيون للالبانيين. ولئن اعتنق الالبانيون في ظل الحكم العثماني الاسلام، فإن أقلية منهم حوالى 15 في المئة لا تزال مقيمة على إيمانها المسيحي. وهذا خير دليل على الأصول الايليرية العريقة للشعب الالباني. وذلك هو الرأي الذي يذهب اليه اسماعيل قداري، الكاتب الالباني ذو الشهرة العالمية. فهو يرى ان الالبان أقدم أمة بلقانية، وأن الثقافة الالبانية بقيت لردح طويل من الزمن مسيحية قبل أن يغلب عليها لاحقاً الطابع الاسلامي. ولكن هذه الغلبة لا تجعلها تتنكر لماضيها المسيحي كما لو أنه "جاهلية". ثم ان هذه الغلبة لا تدفع بها الى الانغلاق على الثقافة الغربية. فالثقافة الالبانية المعاصرة، على كونها اسلامية، هي ثقافة أوروبية. والاسلام هو ديانة غالبية الكوسوفيين الالبانيين، ولكنه ليس قوميتهم. ولكن ههنا يثور للحال سؤال: اذا كانت الهوية القومية الوحيدة التي يتعرف بها الكوسوفيون أنفسهم هي الهوية الالبانية، أفلا يجازفون أن يتحولوا بدورهم الى دعاة "لالبانيا الكبرى" على نحو ما يدعو الشوفينيون من الصربيين الى "صربيا الكبرى"؟ الواقع ان عذابات الشعوب البلقانية التي تمخض عنها مشروع صربيا الكبرى كما تصدى لتطبيقه الرئيس سلوبودان ميلوشيفيتش قد لا تكون سوى مرحلة في درب آلام شبه الجزيرة البلقانية فيما لو أخذ الرد على هذا المشروع شكل مشروع مضاد، يكافئه شوفينية ولا يقل عنه أسطورية، لإحياء "البانيا الكبرى". فالألبان أشد توزعاً وتشتتاً في الجغرافية من الصرب أنفسهم، فهم في البانيا نفسها ثلاثة ملايين. وفي اقليم كوسوفو 1.8 مليون، أي ما يعادل 90 في المئة من السكان. وفي جمهورية مقدونيا 400 ألف، أي 23 في المئة من السكان. وفي مونتينغرو 50 ألفاً، أي 7 في المئة من السكان. ويتواجد في اليونان نفسها 300 ألف الباني، وفي ايطاليا 65 ألف الباني، ومعظمهم لا يتمتع بوضع قانوني. بالاضافة الى 300 ألف في المهجر الأميركي، و60 ألفاً في المهجر الاسترالي. وأخطر ما في هذه "البرقشة" الالبانية امتدادها التركي: فالجالية الالبانية في تركيا، التي تضرب جذورها عميقاً في التاريخ العثماني، تقدر اليوم بنحو مليوني نسمة. ومن هنا أهمية دور العامل الذاتي في المسألة الكوسوفية. والمقصود بالعامل الذاتي الوعي، وبالتالي القرار السياسي للقياديين الكوسوفيين. فهل مطلبهم التحرير والوحدة؟ أم التحرير والاستقلال؟ أم محض استرداد الحكم الذاتي؟ الشيء المؤكد ان موقف النخبة الكوسوفية غير موحد بعد. فحافظ صبري قوصي، الزعيم الروحي للمسلمين الالبانيين، كان أدلى قبل عامين لوكالة الصحافة الفرنسية بتصريح قال فيه: "انني أحلم بألبانيا كبرى مسلمة ضمن حدودها القديمة بحيث تضم جميع الالبانيين الذين يعيشون في كوسوفو ومونتينغرو ومقدونيا، وفي جنوب صربيا وشمال اليونان. واني لآمل أن يتمكن الالبانيون بأجمعهم من ان يعيشوا أخيراً سوية في بلد واحد: البانيا. وهذا البلد، البانيا، سيكون المركز الاسلامي لأوروبا". بردويل محموتي، الممثل السياسي لجيش تحرير كوسوفو، يرفض هذا التصريح ويشكّك أصلاً في صحة نسبته الى قائله. ففي نظره، وهو القومي الألباني، ان فكرة "ألبانيا الكبرى المسلمة" ليست الا فخاً من اختراع الصرب أنفسهم. فهم يريدون من وراء نصب هذا الفخ تخويف أوروبا بالفزاعة الالبانية المسلمة في نقطة القلب منها. وعنده أن الصراع في كوسوفو هو من طبيعة قومية، وان المطلوب هو تحرير كوسوفو واقامة نظام ديموقراطي وعلماني فيها. والاستقلال القومي لكوسوفو هو المهمة التي يأخذها على عاتقه جيش تحرير كوسوفو الذي يعود الى عام 1996 تاريخ الاعلان عن نفسه بوصفه حركة تحرير مسلحة، والذي ادعى في حزيران يونيو 1998 المنصرم انه قد تمكن من السيطرة على 40 في المئة من اراضي كوسوفو. خيار الكفاح المسلح هذا شكل في الواقع ضرباً من المزايدة على خط ابراهيم روغوفا، الزعيم غير المنازع فيه ل"رابطة كوسوفو الديموقراطية" التي رأت النور في 1989، والتي تراوح عدد الأعضاء المنتمين اليها، تبعاً للروايات، ما بين 200 ألف و800 ألف. والحال ان الخط الاستراتيجي الذي التزم به ابراهيم روغوفا - ولا يزال بحسب ما بثه التلفزيون الصربي من مشاهد لقاءاته المتكررة مع سلوبودان ميلوشيفيتش منذ بداية القصف الأطلسي ليوغوسلافيا - هو خط التفاوض والمقاومة السلمية والمدنية والمطالبة بإعادة الحكم الذاتي الى اقليم كوسوفو كمقدمة - ضمن المشروعية الدستورية - لقيام جمهورية كوسوفو المستقلة. ومطلب الاستقلال التام قد تم التنازل عنه على كل حال لصالح الاستقلال الذاتي في مفاوضات رامبوييه التي قادها من الجانب الكوسوفوي ابراهيم روغوفا نفسه. ولكن بقدر ما كان ابراهيم روغوفا يتبدى حتى مفاوضات رامبوييه وكأنه القائد الكوسوفوي الأكثر شعبية، فإن المزايدة عليه بعد فشل تلك المفاوضات والشمولية التي أخذتها عملية التطهير الاثني ضد الكوسوفيين الالبان في ظل القصف الأطلسي، ترشحه لأن يكون الخاسر الأكبر، بل ربما الخائن الأكبر، بعد ظهوره على شاشة التلفزيون وهو يصافح ويحاور سلوبودان ميلوشيفيتش. وبالفعل، وعندما تهدر الصواريخ وتدوي القنابل وتعم المجازر، فإن صوت العقل - الذي من طبيعته دوماً الاعتدال - يغدو أخفت الأصوات.